برلين «عاصمة بديلة» للمثقفين السوريين... وأحلامهم

«الشرق الأوسط» ترصد إبداعاتهم في المدينة وتنافسها مع باريس

عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)
عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)
TT

برلين «عاصمة بديلة» للمثقفين السوريين... وأحلامهم

عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)
عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)

باريس كانت حلم المثقفين السوريين. منهم من اختار الدراسة هناك بحكم تأثير الانتداب الفرنسي، ومنهم من هرب من النظام على «أعناق» الإبداع إلى العالم الحر. لم تخيّب المدينة كثراً منهم وأصبحت «عاصمة النور» مدينتهم المختارة في المهجر. السنوات الأخيرة غيّرت المعادلة نسبياً. النزاع الأخير هجّر الناس والعقول وضخّم الشتات وضاعف المعاناة.
36 ألف سوري اختاروا الاستقرار في برلين، غريمة باريس. هذه الجارة التي لم تعد تشهد انقساماً منذ التسعينات، كسرت جدارها، وفتحت بابها مرحبة بتعددية الثقافات، فأصبحت جذابة لمثقفين وفنانين سوريين اعتبروها منبراً للإبداع. فهل أصبحت برلين مدينتهم المشتهاة؟
الموسيقى

الانتداب الفرنسي على سوريا جعل باريس مقصداً للمثقفين السوريين خلال القرن الماضي. هناك في «عاصمة النور» وجدوا ملجأً للحرية الفكرية، بعيداً عن تضييقات النظام حينذاك. وتعرضت المدينة لـ«غزوات ثقافية» عدة عبر العقود. نهل مثقفون من نهر المدينة. بعضهم عاد إلى دمشق. بعضهم الآخر استقر فيها مجبراً. لكن الحبل السري كان مربوطاً بين دمشق وباريس عبر شريان الثقافة خلال السنين: في المسرح والسينما والأدب والفلسفة.
ربما لم تكن تضم العدد ذاته من المبتعثين الذي ضمته موسكو، بسبب العلاقة السياسية بين سوريا والاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، لكن باريس كانت دائماً مدخلاً لإلهام ثقافي نوعي.
الكاتب والمترجم والناقد بدر الدين عرودكي واحد منهم. أُرسل في مطلع السبعينات ببعثة إلى فرنسا، لدراسة الدكتوراه في علم الاجتماع، ليعود للتدريس في سوريا، كان معاصراً لأساتذة يعانون المرّ بسبب هيمنة أجهزة الأمن المتزايدة على عملهم وعلى مجمل الحياة الجامعية، وكان ينعكس سلباً على مستوى التعليم، الأمر الذي كشفه عرودكي في حوار مع «الشرق الأوسط»، قائلاً: «ما إن حصلت على درجة الدكتوراه حتى طلبت إجازة دراسية لمتابعة دراسة ابنتي، وحين رُفض طلبي، اعتذرت عن العودة وبقيت في فرنسا وسددت للحكومة ضعف ما صرف عليّ أثناء دراستي، مستعيداً بذلك حريتي». ترجم عرودكي أكثر من 30 كتاباً، وشغل مناصب عدة في معهد العالم العربي بباريس، فكان حاضراً في قلب المشهد الثقافي.
وعن ذلك قال: «لم تكن باريس تجذب المثقفين السوريين وحدهم، بل المثقفين من كل أنحاء العالم. كانوا يعتبرون العيش فيها لفترة من الزمن ضرورة لتنمية تجربتهم في الكتابة والثقافة والحياة».
يستذكر العرودكي سنواته الأولى في باريس، ويقول: «اقتصر وجود السوريين في باريس حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، على طلبة الدراسات العليا، خصوصاً كبار التجار الذين كانوا قد غادروا سوريا إلى بيروت أولاً بعد قرارات التأميم أثناء الوحدة السورية المصرية، من ثمّ اضطروا إلى مغادرتها بعد بدء الحرب الأهلية عام 1975 إلى المغرب الأقصى أو إلى باريس». وأضاف: «لذا؛ لم يكن بالوسع الحديث عن (جالية) سورية منظمة بباريس آنذاك».
لكن هل لا يزال هذا المشهد الثقافي السوري واضحاً في باريس كما كان في السابق؟ يجيب العرودكي: «لا يزال موجوداً، بل وأكثر من أي وقت مضى؛ لكن مع كثير من الاختلاف في طبيعة الفعاليات والنشاطات التي نظمت ولا تزال نتيجة الثورة ومآلات الحدث السوري منذ ثماني سنوات».
وهل أصبحت برلين عاصمة الثقافة السورية في المهجر؟ يقول: «لا يمكن القول إن برلين أصبحت عاصمة الثقافة السورية في المهجر الجديد عوضاً عن باريس؛ لأن باريس تبقى ملتقى معظم ثقافات العالم ومنها السورية بالطبع»، ويضيف: «أفضل القول إن برلين أصبحت عاصمة أخرى وكبيرة للثقافة السورية في المهجر. وذلك نتيجة الكثير من الفعاليات والنشاطات التي ينظمها السوريون بدعم ومشاركة من المؤسسات الألمانية وكل المتعاطفين مع قضية الشعب السوري».
* الشتات السوري

نافذة على الشتات السوري، بل وعلى شرائح الداخل أيضاً أتاحها لقاء مع أنور البني، المحامي السوري ومدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، ليس فقط لإلمامه ونشاطاته، بل لرنين جواله. الجوال لم يهدأ. كل مكالمة أتته من داخل سوريا أو خارجها كانت لسوري يطلب مساعدة في تحضير أوراق لجوئه، وآخر يستفسر عن آلية إصدار تصريحات عمل في إحدى البلاد، وغيره يتصل لإعلام أنور بآخر مستجدات قضية قريبه المسجون، أو ليطمئن على بعض الإجراءات القانونية، أو ليغذي المحامي بمعلومات من الأرض. وفي حين جلس أنور وراء مكتبه وهو يحاول الموازنة بين الرد على الاتصالات وإجراء الحوار، ألمع التفاؤل عينيه.
في سوريا، شغل البني منصب رئيس مركز البحوث والدراسات القانونية بتمويل من الاتحاد الأوروبي الذي كان يهدف لتدعيم حقوق الإنسان وتعزيزه في البلد؛ لكن المركز أُغلق بأمر من السلطات السورية بعد اعتقاله عام 2006، ليُطلق سراحه في عام 2011. استمر في الدفاع عن حقوق المعتقلين واضطر إلى مغادرة سوريا عام 2014، ليستقر في العاصمة الألمانية، حيث عمل على فتح ملفات مجرمي الحرب في بلده. كما عمل على دعم العدالة الانتقالية.
يدير البني اليوم «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، وكان له دور فاعل في إصدار مذكرات التوقيف الألمانية الفرنسية بحق عدد من رموز النظام السوري. عن ذلك قال: «الهدف الأساسي من مذكرات التوقيف إبعاد رموز النظام عن مستقبل سوريا، وألا يكون لنظام الأسد دور في مرحلة انتقالية».
يعود الجوال ليرنّ من جديد، يستأذن يرد، ثم يتابع الإجابة عن السؤال: «أعيش في برلين، لكن في داخلي أنا ما زلت في دمشق، أريد العودة».
علاقته مع الجالية السورية في برلين وطيدة وحيوية. قال: «عدد السوريين في برلين ليس كبيراً، لكنّهم نشيطون وباتوا ظاهرين في المجتمع».
إذن، هل تحولت هذه المدينة إلى عاصمة الثقافة السورية في المهجر مستبدلة باريس؟ يجيب: «باريس كانت منتدبة على سوريا وبالتالي بدايات المعارضة معظمها سافرت إليها، وبخاصة اليسارية». وأضاف: «الإخوان المسلمين تفرقوا بين ألمانيا وبلجيكا، لكن معظم السوريين كانوا في فرنسا»، لافتاً إلى أن «باريس عاصمة النور؛ لذا كانت المقصد».
اليوم، أصبحت برلين خياراً مناسباً بحكم أنها لم تعد منقسمة، وتحتضن تنوعاً هائلاً وهي «مدينة مفتوحة»، كما يراها أنور. هذه المدينة أصبحت بوابة للمثقفين السوريين، والفنانين والموسيقيين منهم.
* كتب «حرة» وذكريات
في حي شارلوتنبورغ السكني مطعم ومقهى يعبق برائحة المعجنات السورية والقهوة العربية. يضمّ صالة عربية عُلّق على أحد جدرانها لوحات تشكيلية لفنانين سوريين، ومكتبة مليئة بالروايات والإصدارات العربية. «النايا» واحة شامية ثقافية سافرت مع مؤسسها صافي علاء الدين واستقرت غرب برلين في حي معظم سكانه ألمان. على مدى الأشهر الأخيرة استطاع «النايا» جذبهم إلى جانب رواد سوريين يبحثون عن فسحة ثقافية في المهجر.
في الصالة الخلفية جلس الناشر وأحد مؤسسي منظمة «مدى» للثقافة والتنمية الفكرية في برلين يحتسي قهوته على وقع أغاني لينا شماميان. اتكأ على منضدة تطريزها شامي، محاطاً بجدران تزينت بلوحات فنية أبدعتها ريشة سورية. وكرونق الغرفة الحالم، تكلم صافي عن تجربته بكل هدوء. قال: «قدمت إلى برلين منذ أكثر من أربعة أعوام، احتضنتني الحكومة الألمانية بحكم علاقتي القديمة مع وزارة الثقافة لعملي في مجال النشر».
كانت صناعة النشر بسوريا مرتبطة بمراقبة الأجهزة الأمنية لها من خلال وزارة الإعلام السورية، وكان الأمن يراقب مخطوطات الكتب قبل الطباعة والنشر. قال صافي: «كانت الكتب التنويرية السياسية (تنام) لأشهر في أدراج الموظفين، بينما كانت الكتب الصفراء متوافرة في السوق، وبكثرة». لا يعني ذلك أن سوريا كانت تفتقر إلى الكتاب والأقلام، لكن المحاولات في الداخل باءت بالفشل بسبب التضييقات، وفق صافي الذي أضاف: إن «التعامل مع النظام كما صانع الألغام؛ فغلطته الأولى أخيرة». لذلك؛ وفّرت بيروت متنفساً لتلك الكتب الممنوعة لترى النور، الخلاص الذي لجأ إليه صافي حتى سفره إلى برلين.
درس صافي قوانين ألمانيا ومن ثمّ انطلق بمشروع جديد في المهجر لتكريس الحالة الثقافة السورية بحقيقتها بعيداً عن المحاذير السابقة. ومع مجموعة من أصدقائه رأت منظمة «مدى» النور عام 2016، وأصبحت منبراً لدعم الكتاب الشباب وحيزاً لأمسيات وندوات ثقافية في العاصمة الألمانية.
وحولت بلدية المنطقة (شارلوتنبورغ) وقتها فيلا مهجورة إلى مركز ثقافي بمسرح يتسع إلى 150 شخصاً، وسلّمت القسم العربي لـ«مدى» التي حرصت بدورها على تكريس أيام ثقافية سورية، بما فيها الثقافة الكردية، بفعاليات تتنوع بين الكتاب والمسرح والوثائقيات والفن. استطاع صافي أيضاً المساهمة في إحضار وعرض نحو 500 لوحة من أعمال 22 فناناً سورياً في الداخل إلى برلين. وقال: «ليست في حاجة إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول أو حتى طلب لجوء، لكنها تبحث عن إقامة في برلين أو صالونات الفن».
خلال حديثه، تدخل جولييت كوريه إلى «النايا» وتجلس إلى جانب صافي لتستمع إلى الحكاية الثقافية السورية في برلين، التي كانت هي أيضاً جزءاً منها. جولييت السورية هي إحدى مؤسّسات منظمة «مدى»، لكنها مقيمة في العاصمة الألمانية منذ عام 2005، وكانت تعمل مسؤولة للمخطوطات باللغات القديمة في الجامعة. مع بدء موجة اللجوء، قرّرت مساعدة السوريين وتدريبهم مهنياً. هناك كانت التقت صافي أو «المتدرب رقم 4» حسب قولها، وانطلق التعاون بينهما.
بسمة تفاؤل ترتسم على وجهها، وتقول: «المشروع يعطي رسالة أننا ما زلنا قادرين على العطاء، نحن لسنا لاجئين فقط، لجوؤنا إنساني، وهذا يعني أن الناس حاملون لثقافة وليسوا فارغين». وأضافت: «من كان مقيّداً في سوريا استطاع أن يصبح حراً في برلين، واستطعنا بجميع الإمكانيات المتاحة لنا بناء هوية لنا، والمطالبة بأن نكون جزءاً من هذا المجتمع».
هل أصبحت برلين العاصمة الثقافية للسورين خارج البلاد؟ يقول صافي: «قياساً بالأنشطة، برلين هي حتماً هذه العاصمة التي تحوي نشاطات أسبوعية متنوعة ومتعددة رغم أن عدد السوريين فيها ليس كبيراً جداً (نحو 36 ألفاً)، لكنهم مهتمون جداً بالثقافة، وهذا عبارة عن تضافر جهود غير معلنة تشعرنا بسوريتنا». وأضاف: «برلين مدينة تشبه دمشق وعمّان وبيروت، تفتح يديها لمن يصل إليها وتحتضن كل غريب. إنها تحب الحياة وتعشق التعددية». وتابع قائلاً: «في دول اللجوء أعدنا صياغة أنفسنا من جديد، وأعدنا ترتيب ذواتنا، وتعلمنا احترام القانون وكيفية تطبيقه، ونريد نقله إلى سوريا؛ نحن في حاجة إلى إعادة إعمار البشر قبل الحجر».
للمشهد الثقافي السوري في برلين وجوه كثيرة، وتجارب متنوعة بين ناشر وآخر. عند حضوره معرض فرانكفورت للكتاب قرر ماهر خويص، الناشر السوري، تقديم أوراقه ليستقر في برلين، لكن حلم العودة إلى سوريا لا يفارقه، فجميع الأماكن الأخرى ليست دائمة بالنسبة له، قالها والعبوس عقد حاجبيه، من ثم أرخى جسده على الكرسي ليتبدد ضيقه ويتنهّد مكملاً حديثه: «كل الأماكن تتشابه في نظري، والطريق أوصلتني من بيروت إلى برلين». ومع أن ماهر لا تربطه علاقة حميمية بالعاصمة الألمانية، إلا أنه يتفق بأنها «تحتضن جنسيات وقوميات وثقافات كثيرة وتوفّر مساحة ثقافية واسعة لتفاعل الناس».
ساهم ماهر منذ استقراره في برلين في تأسيس مكتبة «بيناتنا» العربية هناك، التي تجمع المهتمين بالشأن الثقافي، وتنظم نشاطات متنوعة. كما هو عضو في الهيئة الإدارية للمنتدى الثقافي العربي، وعضو في منظّمة «أوشينا» الثقافية.
يقول ماهر: إن هذا الحراك الثقافي مهم للجميع، وليس حكراً على فئة معينة. موضحاً: «هناك موروث ثقافي مهم لا بد من إلقاء الضوء عليه. لم يكن ظاهراً لكثيرين؛ لذلك من المهم إعطاء الوجه الحقيقي لسوريا». واستطرد: «هذه المساحة أصبحت متاحة لنا اليوم، إلا أن الطاقات ذاتها كانت موجودة في سوريا ولم تولد هنا، لكن هذا البلد فتح المجال لإظهارها».
هل يرى ماهر أن برلين عاصمة الثقافة السورية في المهجر؟ «ليس فقط للسوريين إنما للمثقفين العرب عموماً». لكنه يضيف: «أرفض هذه التسمية، فليس من مكان يمثّل ثقافة أي مكان». ويستطرد: «عاصمة المكان هي التي تحمل كل البيئة الثقافية التي وجدت فيه؛ لذا قد أطلق عليها اسم بوابة، لكن أنا لا أطلق عليها عاصمة». ويختم حديثه بالتحذير من تحوّل حال الاندماج الثقافي لشعوب الشتات إلى انصهار لهويتهم. قائلاً: «لم تتشكّل لنا ذاكرة هنا في برلين، إبداعنا الثقافي في المدينة مبني على ذاكرتنا التي حملناها من سوريا».
* منامات على المسرح
فعاليات موسيقية ومسرحية وفنية تكثر وتختلف جداولها في برلين، وللسوريين حصة كبيرة منها، فهم نقلوا إبداعاتهم المتنوعة بين العزف والاستعراض والتمثيل والرقص وغيرها إلى هناك.
في مقهى صغير بحي «ميته» السكني وسط العاصمة كان اللقاء مع أول راقصة باليه سورية محترفة. بدأت مي سعيفان تعلُّم الباليه عام 1987، ولم تكن قد بلغت ربيعها السابع، وبعد تخرجها من المدرسة سافرت إلى فرانكفورت للتّخصص في مجال الرقص. تنقلت بين سوريا وألمانيا، وقررت بعدها الاستقرار في سوريا وتأسيس ملتقى دمشق للرقص المعاصر ضمن شبكة «مساحات» بشراكة مع لبنان والأردن ورام الله. لم تستطع الاستمرار بالملتقى بسبب اندلاع الثورة في عام 2011.
سافرت إلى ألمانيا في زيارة قصيرة؛ وبقيت هناك بعد أن أخبرها أصدقاؤها بأنها مطلوبة من قبل النظام لمشاركتها في تنظيم حراك ضدّه؛ ولأنها كانت على خلاف مع وزارة الثقافة. استقرت في ميونيخ من ثم انتقلت وعائلتها إلى برلين. تحمل مي الجنسية الألمانية، لكن هويتها، وفنها سوريان. تتحدث عنهما بشغف. لغة جسدها المتجانسة مع حديثها تؤكد إبداعاتها الفنية والمسرحية.
«بداية لم أستطع العمل في ألمانيا. كنت أنتظر العودة ودخلت بأسئلة وجودية، كما لم أرد أن أُصنف من بائعي الثورة»، هكذا لخصت مي أيامها الأولى في ألمانيا. لكنها سرعان ما استطاعت مشاركة اسئلتها الوجودية مع السوريين عبر «فيسبوك» لتحويلها إلى مشروع إبداعي مميز. وعن ذلك تقول: «دوّنت مناماتي وراقبت أحلامي، لألاحظ أنها اختلفت بعد الثورة. وقرّرت إنشاء صفحة على (فيسبوك) تحت عنوان (احكيلي شو حلمت مبارح)».
سرعان ما بدأ السوريون في تدوين مناماتهم في الصفحة حتى تحولت إلى أرشيف لبنات أفكار سوريا. تيمات المنامات تغيّرت مع تطور الثورة إلى سفك الدماء ورحلات الموت عبر البحر، بل أصبحت توثق الوضع السياسي. وفقاً لمي، تمحورت منامات السوريين في عام 2011 حول قصص الملاحقات الشخصية من قبل الأمن والهرب والاختباء وكتابات على الجدران وأحلام عن سقوط بشار الأسد. وقالت: «الحلم الذي تكرّر لسنوات هو أن الأسد لا يعرف ما يحصل في البلاد، نوع من الانكار من الناس حسب ظني».
الماء كان عنصراً بارزاً في الكثير من المنامات المدونة على الصفحة بين الغرق، والطوفان، وغرق المدينة، والضياع في البحر، تلك الكوابيس تزايدت بين عامي 2014 و2015، أي مع بداية موجة الهجرة عبر المتوسط.
هذا الأرشيف الغني أثمر عملاً فنياً لمي تحت عنوان «التخريب للمبتدئين». «العمل مثل حالة (السذاجة) في الإقبال على الثورة، ونحن لا نعرف ومبتدئون»، قالت مي. وأصبحت تنقل تلك المنامات سنوياً إلى المسرح البرليني.
تغيرت طبيعة عمل مي وفنها في برلين. ولاحظت أنها لأول مرة ترقص بخطوات ثابتة، على عكس عروضها السابقة. وأضافت: «تبددت الرهبة، ولم أعد أخاف من شيء. أصبحت عروضي أكثر عشوائية تركز على ترسيخ إحساس المشاهد بعيداً عن التفاصيل والجزئيات. وتسلط الضوء على جانب الكوميديا التي لجأ إليها السوريون أثناء الثورة للإبقاء على بعض من الإيجابية».
تقول مي: «تحولت برلين إلى عاصمة الثقافية السورية في المهجر اليوم». وتضيف: «كانت في سوريا حركة فنية قوية بدأت مع بداية الألفية وبدأت تتبلور وتقوى عندما اختيرت دمشق عاصمة للثقافة وكان هنالك فريق عمل رائع، وطاقات شبابية استطاعت تحدي ضغوط المجتمع ودراسة الفن حتى في الخارج، أغلبهم درس وعاد ليحدث تغييراً». وتابعت: «الفقاعة هذه كانت موجودة في دمشق، وكان للشباب حراك، لكنه بقي مقموعاً ومحدوداً». تتنهد بعد أن تسترق رشفة من عصير البرتقال الطازج وتجيب: «على الرغم من ذلك، أحلم أحياناً بأنني عدت إلى دمشق مع ابني الذي لم يرها بعد. ولا أعرف إن كانت ستعود لنا يوماً ما».
الموسيقى، لغة يفهمها الجميع ويتذوقها الكثيرون، توحّد الناس وتعبّر عن مشاعرهم وهوياتهم. النغم جانب حاضر من الثقافة، عابر للحدود ورسالة تحملها أوركسترا بابل المكونة من موسيقيين متعددي الآلات، والجنسيات، والثقافات.
وسيم مقداد، عازف عود من سوريا، استقر في برلين عام 2016، وهو يتكلّم الألمانية بطلاقة. التقته «الشرق الأوسط» على هامش بروفة للأوركسترا في مسرح بحي بيرغمانكيز. جلس يروي قصته بلغة «أهل الشام».
العودة إلى برلين تمثّل «ربطاً مع الجذور»، فوسيم ولد في مدينة لايبزيغ الألمانية وسافر مع أهله إلى سوريا وهو في الرابعة من عمره. ترعرع في دمشق، حيث درس الطب والموسيقى. وكان ناشطاً في الثورة وشارك في المظاهرات وعمل طبيباً ميدانياً يسعف الجرحى في المناطق التي كانت تحت سيطرة «الجيش الحر». اعتقله النظام ثلاث مرات، كما اعتقله تنظيم «جبهة النصرة». وسط المظاهرات والحراك نشأت قصة حب بين الطبيب وبريفان الكردية التي أضحت زوجته. قررا السفر إلى غازي عنتاب التركية وبعدها إلى برلين في يونيو (حزيران) 2016.
واظب الزوجان على تعلم اللغة الألمانية. دخل وسيم الجامعة ليكمل دراسة الموسيقى وتخلّى عن ردائه الأبيض. وتعليقاً على ذلك، قال: إن «الطب عملية بحث عن حقيقة مطلقة وجواب واحد ودقيق ليكون هنالك توجه للعلاج، بينما الموسيقى لا تحتوي على جواب واحد لأي سؤال، والإجابات عنها كثيرة، ومجال الحرية فيها لا نجده في الطّب الذي يتعامل مع الوجع ويقاومه، الموسيقى تتعامل مع الجمال وتعززه، وذلك يحاكي روحي أكثر».
يعمل وسيم اليوم مع عرب وأجانب من مختلف الأعمار، كما يساهم في إثراء المجال الموسيقي ضمن الجالية السورية في برلين من خلال تنظيم فعالية ثقافية شهرية في مركز «ورشة عمل للثقافات». وعن ذلك يقول: «التنوع يشبه التنوع في سوريا، أشعر بالأمان والراحة، وكأنني ما زلت هناك».
أتاحت برلين لوسيم فرصة بلورة ثقافة الفن داخله، فهل تمثل له عاصمة الثقافة السورية في المهجر؟ يقول: «إن وجود بضعة آلاف من السوريين في مدينة خارج البلاد يحوّلها بشكل رمزي إلى عاصمة لهم في المهجر، وهكذا كانت باريس. لكن في مرحلة الشّتات الحالية قد تمثّل بيروت أو إسطنبول أو غازي عنتاب العاصمة الثقافية للسوريين في المهجر». ويوضح أن «السوريين يتواجدون في مدن كثيرة بألمانيا، وتحديداً برلين؛ لأنها جاذبة ومنفتحة وترحب بالغريب. الشتات السوري وزّع عواصم السوريين في المهجر وبرلين اليوم تُعتبر أهمهم».
جولة في برلين، بعد خمس سنوات على وصول اللاجئ السوري الأول إلى هناك كان هدفها تقصي أوضاع نحو 36 ألف سوري في «الوطن الجديد». قد تكون الرحلات الشاقة، والذكريات الأليمة، والبدايات المتعثرة جمعت سوريي برلين في الأشهر الأولى. لكن، مع مرور الأيام أصبحوا يلتقون في أمسية شعرية، أو معرض فني، أو حفل موسيقي يعزز هويتهم.
وفي برلين، وجد الشتات واحة ثقافية سورية له، قد نسميها عاصمة في المهجر، أو بوابة على العالم، أو منبراً للحرية. قد تختلف المصطلحات والمعنى واحد.



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».