بسام منصور: كلما اقتربت من الكلام هرب مني

قال إنه هرب من لبنان لأنه لا يحب «المواجهة في الوحل»

غلاف المجموعة  -  بسام منصور
غلاف المجموعة - بسام منصور
TT

بسام منصور: كلما اقتربت من الكلام هرب مني

غلاف المجموعة  -  بسام منصور
غلاف المجموعة - بسام منصور

صدر للشاعر والإعلامي اللبناني بسام منصور ديوان جديد هو «يكفي أن تعبر الليل» (دار النهضة العربية - بيروت) بعد انقطاع استمر فترة طويلة، لكن هذا لا يعني أنه انقطع عن كتابة الشعر، شاغله الأول والأخير. ويأتي الديوان الجديد وقد تكثفت فيه تجربته الشعرية التي تجلّت في ديوانيه السابقين «وجاء أنه» 1986 و«الفصول السبعة» 2002. عمل منصور منذ استقراره في باريس عام 1976، في مؤسسات صحافية عربية وأجنبية كثيرة، منها مسؤول إعلامي للمنطقة العربية في منظمة اليونيسكو، حيث أشرف على تأسيس موقعها وتحريره. هنا حوار معه عن تجربته الشعرية بمناسبة صدور مجموعته الجديدة:
> مر زمن طويل منذ أن أجريت معك حواري الأول، وها أنا أعود إليك بعد قراءة مجموعتك الجديدة بعين جديدة، ما الذي اختلف بين هذين التاريخين؟
- هل فعلاً مر كل هذا الوقت؟ هل ترانا ما زلنا على قيد الحياة أم يشبه لنا؟ في أي معطف اختبأنا حتى وصلنا إلى ما نحن وصلنا إليه وأي عربة زمن امتطينا؟ ليتني قادر أن أعود في هذه العربة إلى أول الوقت لأصحح كل أخطائي وأخطاء غيري، ينزلق الوقت بين أيدينا من دون أن نتمكن من الإفادة منه لتحسين ظروف حياتنا وتحسين مجتمعاتنا لبناء غد أفضل. أرى أن العالم يسير من سيئ إلى أسوأ، وما الابتكارات العلمية والرقمية الجديدة والمتسارعة إلا لتزيد من بؤسنا قبل أن تزيد من سعادتنا. في لقائنا الأول، كنا لا نزال نحلم بأن نبني مجتمعات عادلة قائمة على الإنصاف والمساواة والكرامة للجميع... والذي اختلف اليوم هو أننا نود أن نعود إلى ذلك الوقت لنكتفي به ونمنعه من التقهقر.
> لماذا ينقطع الشاعر في نظرك عن كتابة الشعر؟
- لا أعتقد أن الشاعر يمكن أن ينقطع عن كتابة الشعر لأنه شرط وجوده بالمعنى الفعلي والمجازي. قد يكون هناك بعض الخوف والتردد والشعور الكبير بالعبث ولكن التخلي والانقطاع من الأمور المستحيلة. إن الموهبة لا تجف وهي لا تمتلئ أبداً، الموهبة رحم يجب أن تخصب حتى تنجب. ولكن حالة الخصب فيها لا تكتفي بلقاح واحد إنه لقاح متعدد المصادر والأماكن. ما تكتبه الآن قد تجده ساذجاً غداً وتعود وتجده رائعاً بعد غد.
> حاولت في مجموعتك «يكفي أن تعبر الليل» أن تعمل على تكثيف تجربتك السابقة في ديوانيك «وجاء أنه» 1986 و«الفصول السبعة» 2002.
- «كلما كتبت كلمة ابتكرتها» كتبت ذات مرة. إن ما تسميه تكثيفاً موجود دائماً في محاولاتي الإبداعية. الكلمة عالم لا يتكرر. إنه تجديد دائم. كلما اقتربت من الكلام هرب مني كأنني وحش ضار في عالم من المخلوقات السحرية. وليس التجريد إلا محاولات صعبة لكشف ما يصعب الكشف عنه من عالمنا ووجودنا. قد تجد طريقك إلى النور عبر الحب أو عبر الغناء أو عبر الرياضة، أما أنا فطريقي في الحب والغناء والرقص والرياضة بالكلام. الكلمة هي كبسولة وصولي إلى خفايا الكون المجهول.
> أثارت قصيدة النثر جدلاً بين شعر التفعيلة والشعر التقليدي العربي، يصل أحياناً إلى الطلاق بينهما... ما رأيك؟
- إن الشعر موجود في النثر منذ بدايات الوقت وفي كل الثقافات والحضارات. وفي اللغة العربية قبل غيرها، فإن النثر العربي التراثي خزان شعري هائل والأمثلة كثيرة. وضع الدكتور والشاعر أديب صعب في مقالته عن «مجموعة يكفي أن تعبر الليل» إصبعه على جانب لم أكن أعيه؛ هو أنني اعتمدت التفاعيل في أمكنة ما من دون وعي بذلك. واسمح لي أن أشاركك رأيه: «نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة، (تُغمِض في جفن الحبّ ويَسهو)، تجري على إيقاع (فعلن)، الذي يتكون منه الوزن المتدارَك. على هذا الإيقاع أيضاً عبارة (لو كان الشعرُ امرأةً)، وأيضاً: (وَجهُكَ أجملُ ما في المرآة). ومن الموزون على مجزوء الخفيف (فاعلاتن مفاعلن): (يَعبرُ الوقتُ دونَنا). ومن الإيقاع نفسه: (أنتَ والوقتُ توأمان). وعلى الكامل (متفاعلن): (ما لي وما لكِ والطريقُ قصيرُ؟). وعلى المتقارِب (فعولن): (وتَرمي بها في المحيطِ البعيد)».
إن التماهي في الشعر هو أكثر جدوى من التماهي في الأشكال. الشعر جوهر.
> لماذا لجأت إلى باريس بعد نشوب الحرب الأهلية؟ هل مهمة الشاعر الهروب من واقعه أم مواجهته؟
- إن الحرب الأهلية اللبنانية بالنسبة إلي أبشع الحروب في التاريخ. وما كان لي، وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أن أتعايش مع هذه الحرب بأي شكل من الأشكال. تلك الحرب البشعة أجهضت أحلامنا بالتقدم والحرية والسعادة للجميع، وبدل أن نتقدم عدنا معها إلى العصر الحجري، بأسوأ صوره لأنه عصر حجري بتقنيات حديثة. وما كنت أخاف منه في ذلك الوقت تحقق اليوم بحيث توسعت هذه الحرب الأهلية واتسعت وأصبحت حرباً أهلية عربية. هربت؟ نعم هربت. لا أحب المواجهة في الوحل. وأدعو جميع الشباب أن يفعلوا مثلي ويهربوا من الحروب حتى لا يعود لتجار السلاح من يشتري منهم.
> ما مخاطر الغنائية على الشعر في نظرك؟
- الغنائية ليست خطراً ما دام أنها لا تنزلق إلى السطحية. وأعتقد أننا اليوم في وقت تداخلت فيه المدارس القديمة لابتكار عالم جديد معقد كلما دخلت إليه تعيد اكتشافه من جديد. في قول المتنبي: «حببتك قلبي قبل حبِّك من نأى وقد كان غداراً فكن أنت وافياً»، هناك غنائية دائمة لكل العصور وعلى مدى الدهور. وكذلك في «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر» لبدر شاكر السياب... مهمتي أن أهز أغصان الشعر من كل العصور حتى تبقى المواسم مثمرة بالكلام الأليف.
> ما علاقتك بالشاعر الراحل أنسي الحاج؟ وما تقييمه لك من وجهة نظر شاعر، وأنت تخاطبه في بعض قصائدك؟
- أنسي الحاج الشاعر الملعون، الشيطان والملاك في آن. لقد اجتمعت فيه كل الصفات وليست قادرة على تلخيصه. كان شاعراً نادراً وكائناً نادراً وصحافياً نادراً. في الشعر كان من أوائل الثوار، بمعنى دفع الشعر حتى الطرف الآخر للحرية في التعبير والخيال، وكان متطرفاً في مخيلته التي تحولت معه آلة للخصب الدائم. إنني محظوظ جداً أن هذا الشاعر الكبير وهذا الإنسان الكبير كان واحداً من أساتذتي.
> هل تعتقد أن القصيدة تنتهي عند عنوان معين؟ أم أن النص هو الذي يحرر الشاعر من قيوده؟
- أحياناً، يكون العنوان أصعب شيء يمكنني أن أكتبه بعد الانتهاء من القصيدة. تشتبك العناوين في مخيلتي وتتزاحم. وأحياناً، يأتي العنوان كأنه الطلق الأول لمولد القصيدة. إن القصيدة تبدأ ولا تنتهي لأن حدودها المطلقة هي ما تجعلها تتفتح في مخيلة القارئ.
> تسعى على الدوام إلى استخدام مفرداتك الشعرية التي تميزك... هل تعتقد أن على الشاعر أن يؤسس لمفرداته الخاصة؟
- باختيارك المفردات تختار القصيدة. الكلمة هي التي تحدد مسار المعاني والصور والرموز. الكلمة ابتكار يتجدد مثل الحب لا ينضب إلا ليمتلئ من جديد. المهارة في الشاعر أن تكون قادراً على ابتكار مفرداتك ولغتك كما تبتكر من تحب... المرأة التي تحب لا يمكن أن تكون إذا كنت عاجزاً عن ابتكارها.
> الليل مادة لطالما عالجها الشعراء والكتّاب في كتاباتهم... هل كان الليل دليلك إلى الشعر والحياة؟
- الليل هو أحب الأوقات إلى قلبي وأكثرها سطوة. ربما في حب الليل تتألق مازوشيتي وتصل إلى أوجها. بقدر ما أحب الليل أخافه. أذكر، في الماضي، كنت أصل الليل بالنهار سهراً وعملاً ومتابعة. كنت أخرج من النادي الليلي إلى البيت لأستحم وأرتدي ملابس جديدة وأذهب إلى العمل أو إلى الجامعة أو المكتبة. كان هناك تواصل مطلق بين الليل والنهار والنوم كان عدوي الدائم. حينما بدأ الليل يتحول إلى زمن للنوم الصعب أخذ يتحول إلى عبء وكابوس.
> أنت شاعر «تعلق مرساتك في الرمال المتحركة»... ألا وجدت الأرض الثابتة التي تقف عليها؟
- وجدت الأرض؟ نعم وجدتها، بل وجدت الأراضي ولكنها كلها متحركة وغير ثابتة، لا شيء فيها يمكن أن نقول إنه صلب. هناك قول لأبي العلاء في وصفه الأرض: «خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد». الرمال المتحركة هي نحن، والمرساة نعلقها في أجسادنا.
> لماذا هذا الاقتصاد شديد في اللغة؟
- كما هو ممكن أفعل. هل هو اقتصاد في اللغة أم هو نوع من أن نوفر أكبر كمية من الوقت لتكون حياة أوفر؟ هناك لعبة مرآة بين الوقت واللغة. هل اللغة ترى نفسها في الوقت أم الوقت هو الذي يرى نفسه في اللغة؟ يمر عقد من الزمن من عمرك كأنه لحظة، فلا يمكنك أن تجعل من هذه اللحظة قاموساً بملايين الكلمات. إذا ابتكرت كلمة أو اثنتين تكون عملاقاً.
> نلاحظ أن فلسطين تتردد في شعرك قضية وجودية وليست سياسية...
- لو لم تكن مأساة فلسطين لكنت أكثر الناس سعادة اليوم. أنا لا أحولها من قضية سياسية إلى قضية وجودية، إنها أصلاً مسألة وجودية وإنسانية في الصميم. تعالَ نتأمل بالذي حصل ويحصل؛ هل كان يمكن أن يتم ذلك من دون أن يتبعه زلزال وجودي في الصميم في أي مكان آخر في العالم؟ المهم عندي هو أن تنتهي مأساة الشعب الفلسطيني. ووجود فلسطين في شعري يأتي من شعوري بمصدر الألم الحقيقي. وربما لهذا السبب أرادوا أن يحولوا بلداننا كلها إلى جراح مفتوحة.
> تتناول الحياة اليومية ولكنك تسعى على الدوام إلى رفعها إلى مستوى الأسطورة؟
- ربما هناك تماهٍ ما بين اليومي وما وراء اليومي، ما بين الواقع والوهم، أو ما بين الحياة وما بعد الحياة أو ما فوقها. أن تجعل من سلسلة الثواني والدقائق والساعات والأيام حبكة جديدة تبني عليها قصتك مع العمر، تحدٍ حقيقي يجعل منك أنت الكائن البسيط نوعاً من جلجامش بملامح عامل مقهى أو سائق باص أو راكب دراجة أو رجل يسير على الرصيف دون أن يعرف إلى أين يمضي.
والوقت هنا هو أخي التوأم يشبهني وأشبهه حينما ينتهي أنتهي معه. أنا حليفه وهو الفخ الذي ولد معي.
> تشير إلى الموت من خلال بعض الرموز السياسية اللبنانية... هل يصطف الشاعر إلى جهة معينة في نظرك؟ ألا يشكل خطراً على شعرك؟ أم لك موقف صارم من بعض القضايا؟
- أعتقد أنك تقصد قصيدة «إلى جبران تويني»، وفي هذا العنوان أعود إلى محنتي مع العناوين أحياناً. كتبتها مثل الجرح الذي ينزف في عشر دقائق ونمت عليها طويلاً. جبران تويني لم يكن سياسياً بالمعنى التقليدي وإن انتخب عضواً في المجلس النيابي. كان صحافياً ومناضلاً يدافع عن الحرية بصورة عامة وعن حرية التعبير والصحافة بصورة خاصة. وكنا أصدقاء منذ المراهقة. ويوم قتل بتلك الطريقة الوحشية، وكل جريمة قتل هي جريمة وحشية، شعرت أن شيئاً من شبابي قتل معه. هل عندي موقف صارم من بعض القضايا؟ نعم، لا يمكنني أن أقبل بأن يكون القتل طريقة لحل الخلافات السياسية وغير السياسية بين الناس.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.