ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

التنافر بين {شعب الفولاني} والدولة يعقد مكافحة العنف

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
TT

ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)

فاجأ ظهور الزعيم القبائلي المتطرف (محمد) ممادو كوفا، في تسجيل فيديو، جميع المراقبين لمسار التنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل. فقد عمد مؤسس زعيم جبهة تحرير ماسينا، إلى تسجيل مصور أذاعه منبرا «الرسالة» و«الزلاقة» التابعان لتنظيم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» المبايع للقاعدة. ويأتي هذا الظهور الجديد، بعد أيام قليلة على إعلان فرنسا مقتل جمال عكاشة الملقب «بيحيى أبو الهمام»، الرجل الثاني بالتنظيم المشار إليه بزعامة إياد أغ غالي.
ورغم أن القوات الفرنسية أعلنت نهاية 2018، عن قتل محمد كوفا، فإن ظهوره، يشكل تحديا حقيقيا للجيش الفرنسي المتمركز بدولة مالي. ويؤشر كذلك، على الدور المحوري للصحراء، باعتبارها جغرافية وساحة للحرب، توفر للإرهابين فرصا للمناورة؛ وتسندها الإثنية، الحامية والحاضنة للمجموعات المسلحة. وهو ما يجعل من المواجهة المفتوحة التي تخوضها قوات «أفريكوم» الفرنسية؛ وجيش الساحل منذ ميلاده، يوم الأحد الثاني من يوليو (تموز) 2017 بدولة مالي، معركة، حافلة بالمفاجآت، ليس آخرها عودة محمد كوفا، من قبره. بعد ثلاثة أشهر من تأكيد جيش الساحل وأفريكوم مقتله في غارة جوية فرنسية.

الزعيم ممادو كوفا

لم يكن محمد أو ممادو كوفا، شخصية قديمة التطرف؛ بل على العكس من ذلك، ظل الرجل شيخا ومعلما وواعظا من منطقة موبتي. نشأ كوفا الذي ينتمي إلى شعب الفولاني في مدينة نيافونك بوسط مالي وحمل لواء الاعتدال، بنكهة تصوفية وفقه سني مالكي. وقد ساعدته خبرته في مجال التعليم والتدريس التي تجاوزت 40 سنة، على الإلمام بالمنطقة وطبيعة سكانها. كما ساعدته لغته الفولانية على التحول لزعيم ديني حقيقي، لتجمع سكاني ضخم، يمتد توطينه بين غينيا ومالي إلى النيجر، والكونغو وصولا للسودان وغيره من دول غرب القارة الأفريقية.
ولعب ممادو كوفا دورا مهما في النشاط الدعوي بالقارة؛ حيث ساهم منذ أواخر التسعينات، من القرن 20 في تمويل وتأسيس المساجد والمدارس في كل من: الجزائر، وموريتانيا وليبيا، ومالي.
بدأ الرجل يتحول تدريجيا نحو التطرف بعد زيارات شملت دولا شرق أوسطية وأفغانستان. ويبدو أن الفترة ما بين 2008-2009. كانت منعطفا حقيقيا في حياة الرجل؛ خاصة أن الرجل الفولاني متأثر بفكر جماعة الدعوة الباكستانية (التي أسست جيش عسكر طيبة)، والتي كانت تعرف باسم مركز الدعوة والإرشاد. وأهمها حاليا «مؤسسة فلاح إنسانيات». فقد أعلن سنة 2009 معارضته الشديدة لقانون الأحوال الشخصية المالي؛ كما تحول بعد سنة 2011 لنشر خطاب أكثر تطرفا، على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الواتساب والفيسبوك.
بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي، وتحول شمال مالي لمنطقة تجمع لتنظيمات إرهابية عدة؛ ظهرت جبهة تحرير ماسينا للمرة الأولى في يناير (كانون الثاني) 2015، بهدف «إعادة تكوين جمهورية ماسينا الإسلامية». وهي محاولة من كوفا لاستعادة تجربة إمبراطورية ماسينا القديمة، التي جمعت بين 1818 و1853 منطقة شاسعة تشمل مناطق مالي والسينغال ونيجيريا؛ وهذا المنطلق السياسي، والديني، كان وراء تأسيس جماعة موحدة لأربعة تنظيمات إرهابية بمالي سنة 2017م، أطلقت على نفسها، «أنصار الإسلام والمسلمين»، غير أن جذور تنظيم ماسينا تعود لسنة 2012. حيث تلقى الزعيم تدريبا خاصا على القتال بمنطقة تمبوكتو. وكان محمد كوفا زعيما لمجموعة غير منصهرة تماما مع أنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي. ذلك أن كوفا حافظ على نوع من استقلالية مجموعته؛ بيد أنه لم يعلن عن تنظيم مستقل إلا سنة 2015م. ليعود مرة أخرى لإعلان الاندماج مع أنصار الدين وكتيبة أمير جماعة أنصار الدين، وتنظيم جبهة الصحراء التابع لتنظيم «المرابطون» سنة 2017.
ظهرت أولى مشاركاته القتالية في 10 يناير 2013. حيث شارك كوفا في هجوم مشترك من قبل أنصار الدين والتوحيد والجهاد والقاعدة في الغرب الإسلامي للاستيلاء على مدينة كونا، في وسط مالي. وأعلن نفسه «سلطان كونا». إلا أن هزيمة المجموعات الإرهابية، في فبراير (شباط) 2013، دفعت كوفا للاختفاء، والعودة إلى بناء التنظيم من جديد؛ خاصة أن الرجل تحول فعليا بعد 2011 إلى مرجع روحي وفقهي عابر للتنظيمات. مما مكنه من التعاون السلس معها، في مناسبات ومناطق مختلفة من مالي.
هذه الرمزية الدينية والعرقية هي التي تفسر إعلان تنظيم «جبهة تحرير ماسينا» في أول ظهور إعلامي له عبر فيديو في 18 مايو (أيار) 2016؛ أن كتيبة ماسينا تابعة لأنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي، أما الفيديو الذي نُشر في 2 مارس (آذار) 2017. فقد ظهر ممادو كوفا هذه المرة إلى جانب أغ غالي وغيره من القادة «الجهاديين»، فيما يعتبر شهادة ميلاد لجماعة «أنصار الإسلام والمسلمين».

مركز الإرهاب

استطاع ممادو كوفا وغيره من القيادات الفولانية الإرهابية نقل العمليات الإرهابية من شمال مالي لوسطها. فقد استأثرت هذه الدولة الفاشلة بنحو 64 في المائة من جميع الهجمات التي تعرضت لها دول الساحل الخمس من طرف الجماعات المتطرفة في عام 2018.
وتشهد مالي منذ 2015 ارتفاعا لعدد العمليات الإرهابية في منطقتي موبتي وسيجو؛ والتي انتقلت من بضع عشرات إلى نحو 150 في سنة 2018. مما يجعل مركز مالي أخطر منطقة في البلاد. ونتج عن هذا الارتفاع مقتل أكثر من 500 مدني في عام 2018. ونزوح أكثر من 60 ألفا من السكان فرارا من أعمال العنف. كما أدت العمليات الإرهابية المتزايدة إلى ارتفاع عدد السكان المحتاجين للمساعدات الإنسانية في منطقة موبتي، حيث وصل لأكثر من 972000 شخص.
ورغم أن المتخصصين في قضايا الإرهاب بالساحل يعزون هذا الارتفاع في النشاطات الإرهابية لعوامل عدة؛ إلا أنهم يجمعون على أن ارتفاع العنف يرجع إلى تحالف من الجماعات المتطرفة التابعة «لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين». في عام 2018، كان هذا التنظيم وفرعه (جبهة تحرير ماسينا) مسؤولا عن نسبة 63 في المائة من جميع الأحداث العنيفة في وسط مالي وثلث العمليات التي وقعت في جميع أنحاء البلاد.
كذلك، استخدمت هذه الجماعة الإرهابية العديد من الأساليب: منها العبوات الناسفة، والتفجيرات الانتحارية، مثل الهجوم على مقر قوة الساحل المشتركة(G5) في 29 يونيو (حزيران) 2018. وتمكنت في هذه العملية من قتل مئات الجنود الماليين وأفراد من القوات الأجنبية، مثل الفرنسية والأميركية.
هذا الوضع المتردي، دفع إلى تبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2423، في 28 يونيو 2018، والذي يسمح بتعزيز عمليات البعثة المتكاملة في وسط مالي، مع الإبقاء على 13289 جنديا و1920 من أفراد الشرطة. كما أطلقت مجموعة دول الساحل شراكة حكومية دولية بين بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، لتشكيل قوة مشتركة في عام 2017 بهدف مواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة.
نظرًا لموقعها الاستراتيجي في وسط الساحل، تم إنشاء مقر القوة المشتركة في الأصل في سيفاري، إلا أن هجومًا مميتًا في 29 يونيو 2018 دمر البنية التحتية الجديدة وأجبر القوة المشتركة على نقل مقرها الرئيسي إلى العاصمة المالية باماكو.
كما استثمرت مجموعة دول الساحل الخمس، والاتحاد الأوروبي، والبعثة المتكاملة، والولايات المتحدة، وجهات فاعلة أخرى موارد كبيرة في تدريب وتجهيز قوات الأمن في مالي.
ورغم أن عمليات الإمداد بالجنود والسلاح لم تتوقف منذ عامي 2017 و2018. فإن محاولات الدولة لمحاصرة التنظيمات الإرهابية لم تتوقف كذلك. فقد أعلنت الحكومة المالية في ديسمبر (كانون الأول) 2018، عن خطة جديدة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وتستهدف هذه السياسة الجديدة مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات الناشطة في وسط مالي، بهدف خلق حوافز للمقاتلين الشباب للتخلي عن الكفاح المسلح. كما زار الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، وسط مالي للإعلان عن إقامة قاعدة عسكرية جديدة لدعم المنطقة، في يناير 2019.
ورغم كل هذه الجهود؛ فإن عملية خلق الثقة بين الشرطة والجيش والسكان بوسط مالي عملة نادرة. ذلك أن بعض المجموعات الساكنة من شعب الفولاني لا تزال أقرب إلى زعماء الجماعات الإرهابية منها لرجال الدولة ومؤسسات الدولة المالية. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الجيش والشرطة يمارسان سلوكيات تدفع السكان للجوء إلى الجماعات المسلحة المحلية لحماية ممتلكاتهم والدفاع عن أنفسهم.
ومن الأحداث التي تؤكد هذا المسار التنافري بين «شعب الفولاني» والدولة؛ ما وقع بتاريخ 19 مايو (أيار) 2018، أي بعد أشهر قليلة من بدء العمل بالقوة المشتركة لمجموعة الساحل (G5) المشتركة. حيث قتلت القوات المسلحة المالية ما لا يقل عن 12 مدنياً (من الفولاني)، خلال عملية يُعتقد أنها نُفذت رداً على مقتل أحد جنودهم في بوليكيسي، في منطقة موبتي، وسط البلاد.
ويبدو أن مثل هذه الممارسات الرسمية إضافة إلى التهميش الاجتماعي والسياسي، وعجز الحكومة عن الحفاظ على مؤسساتها وإدارتها بوسط البلاد؛ أسفر مع بداية 2019 عن إغلاق 478 مدرسة في منطقتي موبتي وسيجو، أي نحو 68 في المائة من المدارس في موبتي. وهو ما يجعل من 65 في المائة من جميع المدارس المغلقة في مالي محصورة في المنطقة الوسطى.
إن هذا الوضع المتردي، والفقر، والتهميش، يدفع بشباب «الفولاني» إلى الانخراط في صفوف جماعة ممادو كوفا وإياد أغ غالي. كما أن هذا التأييد الشعبي يجعل هذا التنظيم الإرهابي قادرا على مواصلة زعزعته للاستقرار عبر تنفيذ عمليات نوعية كان آخرها قتل خمسة جنود في هجومين إرهابيين في مكانين مختلفين في وسط مالي، يوم 14 فبراير 2019؛ حيث إن عناصر من وحدة الدرك في ديالوبي تعرضوا في طريق عودتهم من موبتي إلى ديالوبي لهجوم بعبوة ناسفة وتبعه إطلاق نار كثيف. وقد أعلن تنظيم جماعة الإسلام والمسلمين مسؤوليته عن الحادث.

*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».