ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

التنافر بين {شعب الفولاني} والدولة يعقد مكافحة العنف

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
TT

ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)

فاجأ ظهور الزعيم القبائلي المتطرف (محمد) ممادو كوفا، في تسجيل فيديو، جميع المراقبين لمسار التنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل. فقد عمد مؤسس زعيم جبهة تحرير ماسينا، إلى تسجيل مصور أذاعه منبرا «الرسالة» و«الزلاقة» التابعان لتنظيم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» المبايع للقاعدة. ويأتي هذا الظهور الجديد، بعد أيام قليلة على إعلان فرنسا مقتل جمال عكاشة الملقب «بيحيى أبو الهمام»، الرجل الثاني بالتنظيم المشار إليه بزعامة إياد أغ غالي.
ورغم أن القوات الفرنسية أعلنت نهاية 2018، عن قتل محمد كوفا، فإن ظهوره، يشكل تحديا حقيقيا للجيش الفرنسي المتمركز بدولة مالي. ويؤشر كذلك، على الدور المحوري للصحراء، باعتبارها جغرافية وساحة للحرب، توفر للإرهابين فرصا للمناورة؛ وتسندها الإثنية، الحامية والحاضنة للمجموعات المسلحة. وهو ما يجعل من المواجهة المفتوحة التي تخوضها قوات «أفريكوم» الفرنسية؛ وجيش الساحل منذ ميلاده، يوم الأحد الثاني من يوليو (تموز) 2017 بدولة مالي، معركة، حافلة بالمفاجآت، ليس آخرها عودة محمد كوفا، من قبره. بعد ثلاثة أشهر من تأكيد جيش الساحل وأفريكوم مقتله في غارة جوية فرنسية.

الزعيم ممادو كوفا

لم يكن محمد أو ممادو كوفا، شخصية قديمة التطرف؛ بل على العكس من ذلك، ظل الرجل شيخا ومعلما وواعظا من منطقة موبتي. نشأ كوفا الذي ينتمي إلى شعب الفولاني في مدينة نيافونك بوسط مالي وحمل لواء الاعتدال، بنكهة تصوفية وفقه سني مالكي. وقد ساعدته خبرته في مجال التعليم والتدريس التي تجاوزت 40 سنة، على الإلمام بالمنطقة وطبيعة سكانها. كما ساعدته لغته الفولانية على التحول لزعيم ديني حقيقي، لتجمع سكاني ضخم، يمتد توطينه بين غينيا ومالي إلى النيجر، والكونغو وصولا للسودان وغيره من دول غرب القارة الأفريقية.
ولعب ممادو كوفا دورا مهما في النشاط الدعوي بالقارة؛ حيث ساهم منذ أواخر التسعينات، من القرن 20 في تمويل وتأسيس المساجد والمدارس في كل من: الجزائر، وموريتانيا وليبيا، ومالي.
بدأ الرجل يتحول تدريجيا نحو التطرف بعد زيارات شملت دولا شرق أوسطية وأفغانستان. ويبدو أن الفترة ما بين 2008-2009. كانت منعطفا حقيقيا في حياة الرجل؛ خاصة أن الرجل الفولاني متأثر بفكر جماعة الدعوة الباكستانية (التي أسست جيش عسكر طيبة)، والتي كانت تعرف باسم مركز الدعوة والإرشاد. وأهمها حاليا «مؤسسة فلاح إنسانيات». فقد أعلن سنة 2009 معارضته الشديدة لقانون الأحوال الشخصية المالي؛ كما تحول بعد سنة 2011 لنشر خطاب أكثر تطرفا، على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الواتساب والفيسبوك.
بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي، وتحول شمال مالي لمنطقة تجمع لتنظيمات إرهابية عدة؛ ظهرت جبهة تحرير ماسينا للمرة الأولى في يناير (كانون الثاني) 2015، بهدف «إعادة تكوين جمهورية ماسينا الإسلامية». وهي محاولة من كوفا لاستعادة تجربة إمبراطورية ماسينا القديمة، التي جمعت بين 1818 و1853 منطقة شاسعة تشمل مناطق مالي والسينغال ونيجيريا؛ وهذا المنطلق السياسي، والديني، كان وراء تأسيس جماعة موحدة لأربعة تنظيمات إرهابية بمالي سنة 2017م، أطلقت على نفسها، «أنصار الإسلام والمسلمين»، غير أن جذور تنظيم ماسينا تعود لسنة 2012. حيث تلقى الزعيم تدريبا خاصا على القتال بمنطقة تمبوكتو. وكان محمد كوفا زعيما لمجموعة غير منصهرة تماما مع أنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي. ذلك أن كوفا حافظ على نوع من استقلالية مجموعته؛ بيد أنه لم يعلن عن تنظيم مستقل إلا سنة 2015م. ليعود مرة أخرى لإعلان الاندماج مع أنصار الدين وكتيبة أمير جماعة أنصار الدين، وتنظيم جبهة الصحراء التابع لتنظيم «المرابطون» سنة 2017.
ظهرت أولى مشاركاته القتالية في 10 يناير 2013. حيث شارك كوفا في هجوم مشترك من قبل أنصار الدين والتوحيد والجهاد والقاعدة في الغرب الإسلامي للاستيلاء على مدينة كونا، في وسط مالي. وأعلن نفسه «سلطان كونا». إلا أن هزيمة المجموعات الإرهابية، في فبراير (شباط) 2013، دفعت كوفا للاختفاء، والعودة إلى بناء التنظيم من جديد؛ خاصة أن الرجل تحول فعليا بعد 2011 إلى مرجع روحي وفقهي عابر للتنظيمات. مما مكنه من التعاون السلس معها، في مناسبات ومناطق مختلفة من مالي.
هذه الرمزية الدينية والعرقية هي التي تفسر إعلان تنظيم «جبهة تحرير ماسينا» في أول ظهور إعلامي له عبر فيديو في 18 مايو (أيار) 2016؛ أن كتيبة ماسينا تابعة لأنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي، أما الفيديو الذي نُشر في 2 مارس (آذار) 2017. فقد ظهر ممادو كوفا هذه المرة إلى جانب أغ غالي وغيره من القادة «الجهاديين»، فيما يعتبر شهادة ميلاد لجماعة «أنصار الإسلام والمسلمين».

مركز الإرهاب

استطاع ممادو كوفا وغيره من القيادات الفولانية الإرهابية نقل العمليات الإرهابية من شمال مالي لوسطها. فقد استأثرت هذه الدولة الفاشلة بنحو 64 في المائة من جميع الهجمات التي تعرضت لها دول الساحل الخمس من طرف الجماعات المتطرفة في عام 2018.
وتشهد مالي منذ 2015 ارتفاعا لعدد العمليات الإرهابية في منطقتي موبتي وسيجو؛ والتي انتقلت من بضع عشرات إلى نحو 150 في سنة 2018. مما يجعل مركز مالي أخطر منطقة في البلاد. ونتج عن هذا الارتفاع مقتل أكثر من 500 مدني في عام 2018. ونزوح أكثر من 60 ألفا من السكان فرارا من أعمال العنف. كما أدت العمليات الإرهابية المتزايدة إلى ارتفاع عدد السكان المحتاجين للمساعدات الإنسانية في منطقة موبتي، حيث وصل لأكثر من 972000 شخص.
ورغم أن المتخصصين في قضايا الإرهاب بالساحل يعزون هذا الارتفاع في النشاطات الإرهابية لعوامل عدة؛ إلا أنهم يجمعون على أن ارتفاع العنف يرجع إلى تحالف من الجماعات المتطرفة التابعة «لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين». في عام 2018، كان هذا التنظيم وفرعه (جبهة تحرير ماسينا) مسؤولا عن نسبة 63 في المائة من جميع الأحداث العنيفة في وسط مالي وثلث العمليات التي وقعت في جميع أنحاء البلاد.
كذلك، استخدمت هذه الجماعة الإرهابية العديد من الأساليب: منها العبوات الناسفة، والتفجيرات الانتحارية، مثل الهجوم على مقر قوة الساحل المشتركة(G5) في 29 يونيو (حزيران) 2018. وتمكنت في هذه العملية من قتل مئات الجنود الماليين وأفراد من القوات الأجنبية، مثل الفرنسية والأميركية.
هذا الوضع المتردي، دفع إلى تبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2423، في 28 يونيو 2018، والذي يسمح بتعزيز عمليات البعثة المتكاملة في وسط مالي، مع الإبقاء على 13289 جنديا و1920 من أفراد الشرطة. كما أطلقت مجموعة دول الساحل شراكة حكومية دولية بين بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، لتشكيل قوة مشتركة في عام 2017 بهدف مواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة.
نظرًا لموقعها الاستراتيجي في وسط الساحل، تم إنشاء مقر القوة المشتركة في الأصل في سيفاري، إلا أن هجومًا مميتًا في 29 يونيو 2018 دمر البنية التحتية الجديدة وأجبر القوة المشتركة على نقل مقرها الرئيسي إلى العاصمة المالية باماكو.
كما استثمرت مجموعة دول الساحل الخمس، والاتحاد الأوروبي، والبعثة المتكاملة، والولايات المتحدة، وجهات فاعلة أخرى موارد كبيرة في تدريب وتجهيز قوات الأمن في مالي.
ورغم أن عمليات الإمداد بالجنود والسلاح لم تتوقف منذ عامي 2017 و2018. فإن محاولات الدولة لمحاصرة التنظيمات الإرهابية لم تتوقف كذلك. فقد أعلنت الحكومة المالية في ديسمبر (كانون الأول) 2018، عن خطة جديدة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وتستهدف هذه السياسة الجديدة مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات الناشطة في وسط مالي، بهدف خلق حوافز للمقاتلين الشباب للتخلي عن الكفاح المسلح. كما زار الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، وسط مالي للإعلان عن إقامة قاعدة عسكرية جديدة لدعم المنطقة، في يناير 2019.
ورغم كل هذه الجهود؛ فإن عملية خلق الثقة بين الشرطة والجيش والسكان بوسط مالي عملة نادرة. ذلك أن بعض المجموعات الساكنة من شعب الفولاني لا تزال أقرب إلى زعماء الجماعات الإرهابية منها لرجال الدولة ومؤسسات الدولة المالية. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الجيش والشرطة يمارسان سلوكيات تدفع السكان للجوء إلى الجماعات المسلحة المحلية لحماية ممتلكاتهم والدفاع عن أنفسهم.
ومن الأحداث التي تؤكد هذا المسار التنافري بين «شعب الفولاني» والدولة؛ ما وقع بتاريخ 19 مايو (أيار) 2018، أي بعد أشهر قليلة من بدء العمل بالقوة المشتركة لمجموعة الساحل (G5) المشتركة. حيث قتلت القوات المسلحة المالية ما لا يقل عن 12 مدنياً (من الفولاني)، خلال عملية يُعتقد أنها نُفذت رداً على مقتل أحد جنودهم في بوليكيسي، في منطقة موبتي، وسط البلاد.
ويبدو أن مثل هذه الممارسات الرسمية إضافة إلى التهميش الاجتماعي والسياسي، وعجز الحكومة عن الحفاظ على مؤسساتها وإدارتها بوسط البلاد؛ أسفر مع بداية 2019 عن إغلاق 478 مدرسة في منطقتي موبتي وسيجو، أي نحو 68 في المائة من المدارس في موبتي. وهو ما يجعل من 65 في المائة من جميع المدارس المغلقة في مالي محصورة في المنطقة الوسطى.
إن هذا الوضع المتردي، والفقر، والتهميش، يدفع بشباب «الفولاني» إلى الانخراط في صفوف جماعة ممادو كوفا وإياد أغ غالي. كما أن هذا التأييد الشعبي يجعل هذا التنظيم الإرهابي قادرا على مواصلة زعزعته للاستقرار عبر تنفيذ عمليات نوعية كان آخرها قتل خمسة جنود في هجومين إرهابيين في مكانين مختلفين في وسط مالي، يوم 14 فبراير 2019؛ حيث إن عناصر من وحدة الدرك في ديالوبي تعرضوا في طريق عودتهم من موبتي إلى ديالوبي لهجوم بعبوة ناسفة وتبعه إطلاق نار كثيف. وقد أعلن تنظيم جماعة الإسلام والمسلمين مسؤوليته عن الحادث.

*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.