ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

التنافر بين {شعب الفولاني} والدولة يعقد مكافحة العنف

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
TT

ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)

فاجأ ظهور الزعيم القبائلي المتطرف (محمد) ممادو كوفا، في تسجيل فيديو، جميع المراقبين لمسار التنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل. فقد عمد مؤسس زعيم جبهة تحرير ماسينا، إلى تسجيل مصور أذاعه منبرا «الرسالة» و«الزلاقة» التابعان لتنظيم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» المبايع للقاعدة. ويأتي هذا الظهور الجديد، بعد أيام قليلة على إعلان فرنسا مقتل جمال عكاشة الملقب «بيحيى أبو الهمام»، الرجل الثاني بالتنظيم المشار إليه بزعامة إياد أغ غالي.
ورغم أن القوات الفرنسية أعلنت نهاية 2018، عن قتل محمد كوفا، فإن ظهوره، يشكل تحديا حقيقيا للجيش الفرنسي المتمركز بدولة مالي. ويؤشر كذلك، على الدور المحوري للصحراء، باعتبارها جغرافية وساحة للحرب، توفر للإرهابين فرصا للمناورة؛ وتسندها الإثنية، الحامية والحاضنة للمجموعات المسلحة. وهو ما يجعل من المواجهة المفتوحة التي تخوضها قوات «أفريكوم» الفرنسية؛ وجيش الساحل منذ ميلاده، يوم الأحد الثاني من يوليو (تموز) 2017 بدولة مالي، معركة، حافلة بالمفاجآت، ليس آخرها عودة محمد كوفا، من قبره. بعد ثلاثة أشهر من تأكيد جيش الساحل وأفريكوم مقتله في غارة جوية فرنسية.

الزعيم ممادو كوفا

لم يكن محمد أو ممادو كوفا، شخصية قديمة التطرف؛ بل على العكس من ذلك، ظل الرجل شيخا ومعلما وواعظا من منطقة موبتي. نشأ كوفا الذي ينتمي إلى شعب الفولاني في مدينة نيافونك بوسط مالي وحمل لواء الاعتدال، بنكهة تصوفية وفقه سني مالكي. وقد ساعدته خبرته في مجال التعليم والتدريس التي تجاوزت 40 سنة، على الإلمام بالمنطقة وطبيعة سكانها. كما ساعدته لغته الفولانية على التحول لزعيم ديني حقيقي، لتجمع سكاني ضخم، يمتد توطينه بين غينيا ومالي إلى النيجر، والكونغو وصولا للسودان وغيره من دول غرب القارة الأفريقية.
ولعب ممادو كوفا دورا مهما في النشاط الدعوي بالقارة؛ حيث ساهم منذ أواخر التسعينات، من القرن 20 في تمويل وتأسيس المساجد والمدارس في كل من: الجزائر، وموريتانيا وليبيا، ومالي.
بدأ الرجل يتحول تدريجيا نحو التطرف بعد زيارات شملت دولا شرق أوسطية وأفغانستان. ويبدو أن الفترة ما بين 2008-2009. كانت منعطفا حقيقيا في حياة الرجل؛ خاصة أن الرجل الفولاني متأثر بفكر جماعة الدعوة الباكستانية (التي أسست جيش عسكر طيبة)، والتي كانت تعرف باسم مركز الدعوة والإرشاد. وأهمها حاليا «مؤسسة فلاح إنسانيات». فقد أعلن سنة 2009 معارضته الشديدة لقانون الأحوال الشخصية المالي؛ كما تحول بعد سنة 2011 لنشر خطاب أكثر تطرفا، على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الواتساب والفيسبوك.
بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي، وتحول شمال مالي لمنطقة تجمع لتنظيمات إرهابية عدة؛ ظهرت جبهة تحرير ماسينا للمرة الأولى في يناير (كانون الثاني) 2015، بهدف «إعادة تكوين جمهورية ماسينا الإسلامية». وهي محاولة من كوفا لاستعادة تجربة إمبراطورية ماسينا القديمة، التي جمعت بين 1818 و1853 منطقة شاسعة تشمل مناطق مالي والسينغال ونيجيريا؛ وهذا المنطلق السياسي، والديني، كان وراء تأسيس جماعة موحدة لأربعة تنظيمات إرهابية بمالي سنة 2017م، أطلقت على نفسها، «أنصار الإسلام والمسلمين»، غير أن جذور تنظيم ماسينا تعود لسنة 2012. حيث تلقى الزعيم تدريبا خاصا على القتال بمنطقة تمبوكتو. وكان محمد كوفا زعيما لمجموعة غير منصهرة تماما مع أنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي. ذلك أن كوفا حافظ على نوع من استقلالية مجموعته؛ بيد أنه لم يعلن عن تنظيم مستقل إلا سنة 2015م. ليعود مرة أخرى لإعلان الاندماج مع أنصار الدين وكتيبة أمير جماعة أنصار الدين، وتنظيم جبهة الصحراء التابع لتنظيم «المرابطون» سنة 2017.
ظهرت أولى مشاركاته القتالية في 10 يناير 2013. حيث شارك كوفا في هجوم مشترك من قبل أنصار الدين والتوحيد والجهاد والقاعدة في الغرب الإسلامي للاستيلاء على مدينة كونا، في وسط مالي. وأعلن نفسه «سلطان كونا». إلا أن هزيمة المجموعات الإرهابية، في فبراير (شباط) 2013، دفعت كوفا للاختفاء، والعودة إلى بناء التنظيم من جديد؛ خاصة أن الرجل تحول فعليا بعد 2011 إلى مرجع روحي وفقهي عابر للتنظيمات. مما مكنه من التعاون السلس معها، في مناسبات ومناطق مختلفة من مالي.
هذه الرمزية الدينية والعرقية هي التي تفسر إعلان تنظيم «جبهة تحرير ماسينا» في أول ظهور إعلامي له عبر فيديو في 18 مايو (أيار) 2016؛ أن كتيبة ماسينا تابعة لأنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي، أما الفيديو الذي نُشر في 2 مارس (آذار) 2017. فقد ظهر ممادو كوفا هذه المرة إلى جانب أغ غالي وغيره من القادة «الجهاديين»، فيما يعتبر شهادة ميلاد لجماعة «أنصار الإسلام والمسلمين».

مركز الإرهاب

استطاع ممادو كوفا وغيره من القيادات الفولانية الإرهابية نقل العمليات الإرهابية من شمال مالي لوسطها. فقد استأثرت هذه الدولة الفاشلة بنحو 64 في المائة من جميع الهجمات التي تعرضت لها دول الساحل الخمس من طرف الجماعات المتطرفة في عام 2018.
وتشهد مالي منذ 2015 ارتفاعا لعدد العمليات الإرهابية في منطقتي موبتي وسيجو؛ والتي انتقلت من بضع عشرات إلى نحو 150 في سنة 2018. مما يجعل مركز مالي أخطر منطقة في البلاد. ونتج عن هذا الارتفاع مقتل أكثر من 500 مدني في عام 2018. ونزوح أكثر من 60 ألفا من السكان فرارا من أعمال العنف. كما أدت العمليات الإرهابية المتزايدة إلى ارتفاع عدد السكان المحتاجين للمساعدات الإنسانية في منطقة موبتي، حيث وصل لأكثر من 972000 شخص.
ورغم أن المتخصصين في قضايا الإرهاب بالساحل يعزون هذا الارتفاع في النشاطات الإرهابية لعوامل عدة؛ إلا أنهم يجمعون على أن ارتفاع العنف يرجع إلى تحالف من الجماعات المتطرفة التابعة «لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين». في عام 2018، كان هذا التنظيم وفرعه (جبهة تحرير ماسينا) مسؤولا عن نسبة 63 في المائة من جميع الأحداث العنيفة في وسط مالي وثلث العمليات التي وقعت في جميع أنحاء البلاد.
كذلك، استخدمت هذه الجماعة الإرهابية العديد من الأساليب: منها العبوات الناسفة، والتفجيرات الانتحارية، مثل الهجوم على مقر قوة الساحل المشتركة(G5) في 29 يونيو (حزيران) 2018. وتمكنت في هذه العملية من قتل مئات الجنود الماليين وأفراد من القوات الأجنبية، مثل الفرنسية والأميركية.
هذا الوضع المتردي، دفع إلى تبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2423، في 28 يونيو 2018، والذي يسمح بتعزيز عمليات البعثة المتكاملة في وسط مالي، مع الإبقاء على 13289 جنديا و1920 من أفراد الشرطة. كما أطلقت مجموعة دول الساحل شراكة حكومية دولية بين بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، لتشكيل قوة مشتركة في عام 2017 بهدف مواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة.
نظرًا لموقعها الاستراتيجي في وسط الساحل، تم إنشاء مقر القوة المشتركة في الأصل في سيفاري، إلا أن هجومًا مميتًا في 29 يونيو 2018 دمر البنية التحتية الجديدة وأجبر القوة المشتركة على نقل مقرها الرئيسي إلى العاصمة المالية باماكو.
كما استثمرت مجموعة دول الساحل الخمس، والاتحاد الأوروبي، والبعثة المتكاملة، والولايات المتحدة، وجهات فاعلة أخرى موارد كبيرة في تدريب وتجهيز قوات الأمن في مالي.
ورغم أن عمليات الإمداد بالجنود والسلاح لم تتوقف منذ عامي 2017 و2018. فإن محاولات الدولة لمحاصرة التنظيمات الإرهابية لم تتوقف كذلك. فقد أعلنت الحكومة المالية في ديسمبر (كانون الأول) 2018، عن خطة جديدة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وتستهدف هذه السياسة الجديدة مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات الناشطة في وسط مالي، بهدف خلق حوافز للمقاتلين الشباب للتخلي عن الكفاح المسلح. كما زار الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، وسط مالي للإعلان عن إقامة قاعدة عسكرية جديدة لدعم المنطقة، في يناير 2019.
ورغم كل هذه الجهود؛ فإن عملية خلق الثقة بين الشرطة والجيش والسكان بوسط مالي عملة نادرة. ذلك أن بعض المجموعات الساكنة من شعب الفولاني لا تزال أقرب إلى زعماء الجماعات الإرهابية منها لرجال الدولة ومؤسسات الدولة المالية. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الجيش والشرطة يمارسان سلوكيات تدفع السكان للجوء إلى الجماعات المسلحة المحلية لحماية ممتلكاتهم والدفاع عن أنفسهم.
ومن الأحداث التي تؤكد هذا المسار التنافري بين «شعب الفولاني» والدولة؛ ما وقع بتاريخ 19 مايو (أيار) 2018، أي بعد أشهر قليلة من بدء العمل بالقوة المشتركة لمجموعة الساحل (G5) المشتركة. حيث قتلت القوات المسلحة المالية ما لا يقل عن 12 مدنياً (من الفولاني)، خلال عملية يُعتقد أنها نُفذت رداً على مقتل أحد جنودهم في بوليكيسي، في منطقة موبتي، وسط البلاد.
ويبدو أن مثل هذه الممارسات الرسمية إضافة إلى التهميش الاجتماعي والسياسي، وعجز الحكومة عن الحفاظ على مؤسساتها وإدارتها بوسط البلاد؛ أسفر مع بداية 2019 عن إغلاق 478 مدرسة في منطقتي موبتي وسيجو، أي نحو 68 في المائة من المدارس في موبتي. وهو ما يجعل من 65 في المائة من جميع المدارس المغلقة في مالي محصورة في المنطقة الوسطى.
إن هذا الوضع المتردي، والفقر، والتهميش، يدفع بشباب «الفولاني» إلى الانخراط في صفوف جماعة ممادو كوفا وإياد أغ غالي. كما أن هذا التأييد الشعبي يجعل هذا التنظيم الإرهابي قادرا على مواصلة زعزعته للاستقرار عبر تنفيذ عمليات نوعية كان آخرها قتل خمسة جنود في هجومين إرهابيين في مكانين مختلفين في وسط مالي، يوم 14 فبراير 2019؛ حيث إن عناصر من وحدة الدرك في ديالوبي تعرضوا في طريق عودتهم من موبتي إلى ديالوبي لهجوم بعبوة ناسفة وتبعه إطلاق نار كثيف. وقد أعلن تنظيم جماعة الإسلام والمسلمين مسؤوليته عن الحادث.

*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».