ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

التنافر بين {شعب الفولاني} والدولة يعقد مكافحة العنف

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
TT

ممادو كوفا والإرهاب في الساحل والصحراء

العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)
العقيد غابرييل سوبرير (يسار) من قوة برخان في منطقة الساحل الأفريقي يتحدث مع المحافظ موسى ديالو (يسار) وحاكم منطقة مينكا داودا مايغا (إلى اليمين) في القاعدة العسكرية لقوات جيش مالي (فاما) (أ.ف.ب)

فاجأ ظهور الزعيم القبائلي المتطرف (محمد) ممادو كوفا، في تسجيل فيديو، جميع المراقبين لمسار التنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل. فقد عمد مؤسس زعيم جبهة تحرير ماسينا، إلى تسجيل مصور أذاعه منبرا «الرسالة» و«الزلاقة» التابعان لتنظيم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» المبايع للقاعدة. ويأتي هذا الظهور الجديد، بعد أيام قليلة على إعلان فرنسا مقتل جمال عكاشة الملقب «بيحيى أبو الهمام»، الرجل الثاني بالتنظيم المشار إليه بزعامة إياد أغ غالي.
ورغم أن القوات الفرنسية أعلنت نهاية 2018، عن قتل محمد كوفا، فإن ظهوره، يشكل تحديا حقيقيا للجيش الفرنسي المتمركز بدولة مالي. ويؤشر كذلك، على الدور المحوري للصحراء، باعتبارها جغرافية وساحة للحرب، توفر للإرهابين فرصا للمناورة؛ وتسندها الإثنية، الحامية والحاضنة للمجموعات المسلحة. وهو ما يجعل من المواجهة المفتوحة التي تخوضها قوات «أفريكوم» الفرنسية؛ وجيش الساحل منذ ميلاده، يوم الأحد الثاني من يوليو (تموز) 2017 بدولة مالي، معركة، حافلة بالمفاجآت، ليس آخرها عودة محمد كوفا، من قبره. بعد ثلاثة أشهر من تأكيد جيش الساحل وأفريكوم مقتله في غارة جوية فرنسية.

الزعيم ممادو كوفا

لم يكن محمد أو ممادو كوفا، شخصية قديمة التطرف؛ بل على العكس من ذلك، ظل الرجل شيخا ومعلما وواعظا من منطقة موبتي. نشأ كوفا الذي ينتمي إلى شعب الفولاني في مدينة نيافونك بوسط مالي وحمل لواء الاعتدال، بنكهة تصوفية وفقه سني مالكي. وقد ساعدته خبرته في مجال التعليم والتدريس التي تجاوزت 40 سنة، على الإلمام بالمنطقة وطبيعة سكانها. كما ساعدته لغته الفولانية على التحول لزعيم ديني حقيقي، لتجمع سكاني ضخم، يمتد توطينه بين غينيا ومالي إلى النيجر، والكونغو وصولا للسودان وغيره من دول غرب القارة الأفريقية.
ولعب ممادو كوفا دورا مهما في النشاط الدعوي بالقارة؛ حيث ساهم منذ أواخر التسعينات، من القرن 20 في تمويل وتأسيس المساجد والمدارس في كل من: الجزائر، وموريتانيا وليبيا، ومالي.
بدأ الرجل يتحول تدريجيا نحو التطرف بعد زيارات شملت دولا شرق أوسطية وأفغانستان. ويبدو أن الفترة ما بين 2008-2009. كانت منعطفا حقيقيا في حياة الرجل؛ خاصة أن الرجل الفولاني متأثر بفكر جماعة الدعوة الباكستانية (التي أسست جيش عسكر طيبة)، والتي كانت تعرف باسم مركز الدعوة والإرشاد. وأهمها حاليا «مؤسسة فلاح إنسانيات». فقد أعلن سنة 2009 معارضته الشديدة لقانون الأحوال الشخصية المالي؛ كما تحول بعد سنة 2011 لنشر خطاب أكثر تطرفا، على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الواتساب والفيسبوك.
بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي، وتحول شمال مالي لمنطقة تجمع لتنظيمات إرهابية عدة؛ ظهرت جبهة تحرير ماسينا للمرة الأولى في يناير (كانون الثاني) 2015، بهدف «إعادة تكوين جمهورية ماسينا الإسلامية». وهي محاولة من كوفا لاستعادة تجربة إمبراطورية ماسينا القديمة، التي جمعت بين 1818 و1853 منطقة شاسعة تشمل مناطق مالي والسينغال ونيجيريا؛ وهذا المنطلق السياسي، والديني، كان وراء تأسيس جماعة موحدة لأربعة تنظيمات إرهابية بمالي سنة 2017م، أطلقت على نفسها، «أنصار الإسلام والمسلمين»، غير أن جذور تنظيم ماسينا تعود لسنة 2012. حيث تلقى الزعيم تدريبا خاصا على القتال بمنطقة تمبوكتو. وكان محمد كوفا زعيما لمجموعة غير منصهرة تماما مع أنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي. ذلك أن كوفا حافظ على نوع من استقلالية مجموعته؛ بيد أنه لم يعلن عن تنظيم مستقل إلا سنة 2015م. ليعود مرة أخرى لإعلان الاندماج مع أنصار الدين وكتيبة أمير جماعة أنصار الدين، وتنظيم جبهة الصحراء التابع لتنظيم «المرابطون» سنة 2017.
ظهرت أولى مشاركاته القتالية في 10 يناير 2013. حيث شارك كوفا في هجوم مشترك من قبل أنصار الدين والتوحيد والجهاد والقاعدة في الغرب الإسلامي للاستيلاء على مدينة كونا، في وسط مالي. وأعلن نفسه «سلطان كونا». إلا أن هزيمة المجموعات الإرهابية، في فبراير (شباط) 2013، دفعت كوفا للاختفاء، والعودة إلى بناء التنظيم من جديد؛ خاصة أن الرجل تحول فعليا بعد 2011 إلى مرجع روحي وفقهي عابر للتنظيمات. مما مكنه من التعاون السلس معها، في مناسبات ومناطق مختلفة من مالي.
هذه الرمزية الدينية والعرقية هي التي تفسر إعلان تنظيم «جبهة تحرير ماسينا» في أول ظهور إعلامي له عبر فيديو في 18 مايو (أيار) 2016؛ أن كتيبة ماسينا تابعة لأنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي، أما الفيديو الذي نُشر في 2 مارس (آذار) 2017. فقد ظهر ممادو كوفا هذه المرة إلى جانب أغ غالي وغيره من القادة «الجهاديين»، فيما يعتبر شهادة ميلاد لجماعة «أنصار الإسلام والمسلمين».

مركز الإرهاب

استطاع ممادو كوفا وغيره من القيادات الفولانية الإرهابية نقل العمليات الإرهابية من شمال مالي لوسطها. فقد استأثرت هذه الدولة الفاشلة بنحو 64 في المائة من جميع الهجمات التي تعرضت لها دول الساحل الخمس من طرف الجماعات المتطرفة في عام 2018.
وتشهد مالي منذ 2015 ارتفاعا لعدد العمليات الإرهابية في منطقتي موبتي وسيجو؛ والتي انتقلت من بضع عشرات إلى نحو 150 في سنة 2018. مما يجعل مركز مالي أخطر منطقة في البلاد. ونتج عن هذا الارتفاع مقتل أكثر من 500 مدني في عام 2018. ونزوح أكثر من 60 ألفا من السكان فرارا من أعمال العنف. كما أدت العمليات الإرهابية المتزايدة إلى ارتفاع عدد السكان المحتاجين للمساعدات الإنسانية في منطقة موبتي، حيث وصل لأكثر من 972000 شخص.
ورغم أن المتخصصين في قضايا الإرهاب بالساحل يعزون هذا الارتفاع في النشاطات الإرهابية لعوامل عدة؛ إلا أنهم يجمعون على أن ارتفاع العنف يرجع إلى تحالف من الجماعات المتطرفة التابعة «لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين». في عام 2018، كان هذا التنظيم وفرعه (جبهة تحرير ماسينا) مسؤولا عن نسبة 63 في المائة من جميع الأحداث العنيفة في وسط مالي وثلث العمليات التي وقعت في جميع أنحاء البلاد.
كذلك، استخدمت هذه الجماعة الإرهابية العديد من الأساليب: منها العبوات الناسفة، والتفجيرات الانتحارية، مثل الهجوم على مقر قوة الساحل المشتركة(G5) في 29 يونيو (حزيران) 2018. وتمكنت في هذه العملية من قتل مئات الجنود الماليين وأفراد من القوات الأجنبية، مثل الفرنسية والأميركية.
هذا الوضع المتردي، دفع إلى تبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2423، في 28 يونيو 2018، والذي يسمح بتعزيز عمليات البعثة المتكاملة في وسط مالي، مع الإبقاء على 13289 جنديا و1920 من أفراد الشرطة. كما أطلقت مجموعة دول الساحل شراكة حكومية دولية بين بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، لتشكيل قوة مشتركة في عام 2017 بهدف مواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة.
نظرًا لموقعها الاستراتيجي في وسط الساحل، تم إنشاء مقر القوة المشتركة في الأصل في سيفاري، إلا أن هجومًا مميتًا في 29 يونيو 2018 دمر البنية التحتية الجديدة وأجبر القوة المشتركة على نقل مقرها الرئيسي إلى العاصمة المالية باماكو.
كما استثمرت مجموعة دول الساحل الخمس، والاتحاد الأوروبي، والبعثة المتكاملة، والولايات المتحدة، وجهات فاعلة أخرى موارد كبيرة في تدريب وتجهيز قوات الأمن في مالي.
ورغم أن عمليات الإمداد بالجنود والسلاح لم تتوقف منذ عامي 2017 و2018. فإن محاولات الدولة لمحاصرة التنظيمات الإرهابية لم تتوقف كذلك. فقد أعلنت الحكومة المالية في ديسمبر (كانون الأول) 2018، عن خطة جديدة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وتستهدف هذه السياسة الجديدة مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات الناشطة في وسط مالي، بهدف خلق حوافز للمقاتلين الشباب للتخلي عن الكفاح المسلح. كما زار الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، وسط مالي للإعلان عن إقامة قاعدة عسكرية جديدة لدعم المنطقة، في يناير 2019.
ورغم كل هذه الجهود؛ فإن عملية خلق الثقة بين الشرطة والجيش والسكان بوسط مالي عملة نادرة. ذلك أن بعض المجموعات الساكنة من شعب الفولاني لا تزال أقرب إلى زعماء الجماعات الإرهابية منها لرجال الدولة ومؤسسات الدولة المالية. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الجيش والشرطة يمارسان سلوكيات تدفع السكان للجوء إلى الجماعات المسلحة المحلية لحماية ممتلكاتهم والدفاع عن أنفسهم.
ومن الأحداث التي تؤكد هذا المسار التنافري بين «شعب الفولاني» والدولة؛ ما وقع بتاريخ 19 مايو (أيار) 2018، أي بعد أشهر قليلة من بدء العمل بالقوة المشتركة لمجموعة الساحل (G5) المشتركة. حيث قتلت القوات المسلحة المالية ما لا يقل عن 12 مدنياً (من الفولاني)، خلال عملية يُعتقد أنها نُفذت رداً على مقتل أحد جنودهم في بوليكيسي، في منطقة موبتي، وسط البلاد.
ويبدو أن مثل هذه الممارسات الرسمية إضافة إلى التهميش الاجتماعي والسياسي، وعجز الحكومة عن الحفاظ على مؤسساتها وإدارتها بوسط البلاد؛ أسفر مع بداية 2019 عن إغلاق 478 مدرسة في منطقتي موبتي وسيجو، أي نحو 68 في المائة من المدارس في موبتي. وهو ما يجعل من 65 في المائة من جميع المدارس المغلقة في مالي محصورة في المنطقة الوسطى.
إن هذا الوضع المتردي، والفقر، والتهميش، يدفع بشباب «الفولاني» إلى الانخراط في صفوف جماعة ممادو كوفا وإياد أغ غالي. كما أن هذا التأييد الشعبي يجعل هذا التنظيم الإرهابي قادرا على مواصلة زعزعته للاستقرار عبر تنفيذ عمليات نوعية كان آخرها قتل خمسة جنود في هجومين إرهابيين في مكانين مختلفين في وسط مالي، يوم 14 فبراير 2019؛ حيث إن عناصر من وحدة الدرك في ديالوبي تعرضوا في طريق عودتهم من موبتي إلى ديالوبي لهجوم بعبوة ناسفة وتبعه إطلاق نار كثيف. وقد أعلن تنظيم جماعة الإسلام والمسلمين مسؤوليته عن الحادث.

*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».