سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها

«الشرق الأوسط» ترصد تداعيات انهيار التنظيم المتطرف في آخر جيوبه في سوريا... والمخاوف من أن يرثه «القاعدة»

سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها
TT

سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها

سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها

مع سقوط بلدة الباغوز، بريف دير الزور، انتهت فعلياً «الدولة» التي أعلن تنظيم «داعش» إقامتها في سوريا والعراق عام 2014. لكن مسؤولين غربيين وخبراء في شؤون الجماعات المتشددة يحذّرون من أن هذه الهزيمة لـ«داعش» في جيبه السوري الأخير لا تعني انتهاء خطره. فالمعركة ضد التنظيم ستستمر، كما هو متوقع، ولكن بتكتيك مختلف يقوم أساساً على مساعدة قوات محلية في عملياتها ضد خلايا «داعش» النائمة وشبكات دعمه والتي قدّر جنرال بريطاني بارز أنها تضم حالياً ما يصل إلى 20 ألف شخص في العراق وحده، بالإضافة إلى أعداد غير محددة بدقة تنفّذ داخل سوريا اغتيالات وتفجيرات، بما في ذلك ضمن مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية.
ويقول الميجور جنرال كريستوفر غيكا، وهو نائب قائد التحالف الدولي ضد «داعش» والذي يشرف على العمليات الجارية في العراق وسوريا، إن هذا التحالف الذي تقوده واشنطن ويضم 79 دولة سيواصل عملياته رغم انتهاء معركة الباغوز. ويقر غيكا، خلال لقاء مع مجموعة من الإعلاميين في وزارة الدفاع البريطانية، بأن «داعش» لم ينتهِ بعد. ويوضح رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط»: «سقوط الباغوز بالغ الأهمية، لأنه يعني انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض. هذه الجماعة عندما بدأت في عام 2014 ميّزت نفسها إلى حد كبير بكونها تحكم منطقة جغرافية وبأنها خلافة (مزعومة) تمسك بالأرض. امتدت منطقة سيطرتها على أرض توازي مساحتها مساحة المملكة المتحدة. لكنها في أيامها الأخيرة تقلصت إلى مساحة لا تتجاوز بضعة ملاعب لكرة القدم». ويتابع: «انتهاء خلافة (داعش) على الأرض يعطي صورة عن المدى الذي بلغ فيه انهيار التنظيم منذ ظهوره. إنه يدل على أنه لم يعد قادراً على الإمساك بالأرض، ولم يعد سوى جزء صغير مما كان عليه في ما مضى. وهذا الأمر تم نتيجة النجاحات التي حققتها الحملة التي قامت بها القوات العراقية وقوات سوريا الديمقراطية (بدعم من التحالف الدولي)». لكن الجنرال غيكا يتابع محذراً: «من المهم أيضاً أن نفهم أن هذا لا يعني انتهاء الحملة، ولا يعني نهاية (داعش) الذي يستمر في تمثيل تهديد للعراق وسوريا والمنطقة والعالم، ولهذا فإن التحالف الدولي سيستمر في مواصلة عملياته هناك (أي في سوريا والعراق)».

ويتفق الكاتب المعروف بيتر بيرغن، المختص في شؤون الجماعات المتشددة ونائب رئيس الدراسات الدولية في معهد «نيو أميركا» في واشنطن، مع تقييم الجنرال غيكا، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض يمثّل نكسة قوية لتنظيم (داعش). عندما سيطر (داعش) على أرض بحجم مساحة المملكة المتحدة وحكم مواطنين بحجم عدد سكان سويسرا، أقام ما يشبه الدولة وفرض ضرائب وخوّات على ملايين الناس المقيمين تحت سلطته. زعم (داعش) أنه أقام خلافة وألهم 40 ألف متطوع من حول العالم أن يسافروا إلى سوريا والعراق للالتحاق به، وفي مرحلة من المراحل كان هناك 1500 مقاتل أجنبي يلتحقون بـ(داعش) كل شهر. العدد الآن هو صفر. لا أحد يريد أن يلتحق بالفريق الخاسر».
ولكن هل يمكن الحديث فعلاً عن انتصار على «داعش» إذا ظل زعيمه أبو بكر البغدادي حراً طليقاً؟ الجنرال غيكا لا يعلّق كثيراً من الأهمية على مصير البغدادي، إذ يقول رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط»: «لا نعرف حقيقة أين هو البغدادي. لو عرفنا لقمنا بشيء ضده. قد يكون في العراق أو سوريا، ولكن قد يكون أيضاً خارج المنطقة. لا نعرف. هذه هي الحقيقة. لكنني أعتقد أنه رجل الأمس وليس اليوم. لا أعتقد أنه يتمتع بأهمية حالياً. مع اضطراره إلى الاختباء، بات البغدادي عنصراً في (داعش) مثله مثل غيره من العناصر، ومع كل يوم يمر أعتقد أنه يفقد مصداقيته أكثر فأكثر». ورغم غياب البغدادي، يلفت غيكا إلى أن «(داعش) ليس بلا قيادة الآن. ولهذا السبب أعتقد أنه حتى بعد القضاء على الخلافة (المزعومة) على الأرض سيبقى (داعش) خطيراً لأنه سيكون هناك قادة وأعضاء مستعدون لمواصلة السير على خطاه. هم (القادة الجدد) أقل خبرة، وأقل قدرة من كل النواحي عن القادة السابقين الذين إما قُتلوا وإما اعتُقلوا. التنظيم أصبح أكثر ضعفاً بلا شك لكنّ هناك مَن سيكون مستعداً لأخذ زمام القيادة، وقد رأينا هذا الأمر مراراً مع جماعات إرهابية أخرى».
وهنا أيضاً يقدّم بيتر بيرغن تقييماً مشابهاً، إذ يقول لـ«الشرق الأوسط»: «سيستمر (داعش) في العمل كخلافة افتراضية تواصل إلهام شن هجمات، لكنه سيكون أضعف بكثير (مما كان عليه سابقاً). المشكلة الحقيقية هي أن الظروف التي أنتجت (داعش) ما زالت موجودة. في الشرق الأوسط هناك (انقسامات) مذهبية في دول مثل سوريا واليمن، وهناك حكومات ضعيفة أو فاشلة في دول مثل ليبيا وأفغانستان، وهناك اقتصادات ضعيفة في معظم دول المنطقة. يمكننا أن نتوقع ظهور (ابن لداعش) في دول مثل ليبيا واليمن وأفغانستان وفي دول أخرى مسلمة لكنها ضعيفة. قد لا يكون ابن داعش (ناجحاً) كوالده، لكن ستكون هناك جماعة تخْلف (داعش)».
ولعل هذا الخوف من ظهور «داعش جديد» كان أحد الأسباب التي دفعت الرئيس دونالد ترمب إلى التراجع عن سحب كامل القوات الأميركية المنتشرة في سوريا في إطار الحملة ضد «داعش». ويقول غيكا في هذا الشأن خلال ندوته الصحافية: «لقد أقر (ترمب) بأن هناك تهديداً من (داعش) سيستمر حتى بعد انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض. من المهم ألا نسمح بأن يصبح شمال شرقي سوريا منطقة آمنة لـ(داعش) تسمح له بشن حملة تهدد السكان في العراق وسوريا. وقرار (ترمب) إبقاء بعض القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا سيسمح بمواصلة الحملة على (داعش)».
ويشير غيكا، في هذا الإطار، إلى أن خلايا تابعة لـ«داعش» تقوم حالياً بعمليات في مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، كاشفاً وقوع ما يصل إلى «16 عملية اغتيال في الرقة»، بالإضافة إلى سلسلة تفجيرات أخرى. أما بالنسبة إلى مسألة «الدواعش» المعتقلين لدى «سوريا الديمقراطية» وكذلك أفراد أسرهم، فيقول الجنرال البريطاني: «إننا (التحالف الدولي) نجمع أدلة ضد كل عناصر (داعش) المقاتلين الذين ارتكبوا فظاعات في ساحات القتال. وإذا تمكنّا في المستقبل من العثور على أدلة على تورط شخص ما في فظاعات فسنجمع هذه الأدلة ونقدمها للسلطات كي تتمكن من رفع قضية جنائية ضده. لكن هذا الأمر صعب حالياً، فالجيب (الأخير لداعش) مزدحم جداً. هناك مبانٍ وخيام وأشياء أخرى أبطأت العمليات (في الباغوز)، وقوات سوريا الديمقراطية أبطأت تقدمها (خلال الأسابيع الماضية) لتفادي سقوط ضحايا بشكل غير متعمد». ويشيد نائب قائد قوات «التحالف الدولي» بما تقوم به «قوات سوريا الديمقراطية» من حماية وخدمات لعشرات آلاف النازحين بما في ذلك أفراد أسر مقاتلين من «داعش» في مخيم الهول، شرق سوريا. ومخيم الهول واحد من ثلاثة مخيمات أقامتها «سوريا الديمقراطية» للنازحين، لكنه أكبرها وبات يؤوي حالياً أكثر من 60 ألف شخص بعدما كان مخصصاً في البدء لقرابة 20 ألفاً فقط. ويقر غيكا بأن أعداد النازحين من جيب «داعش» الأخير شكَّلت مفاجأة، في ظل خروج عدد غير مسبوق من المقاتلين والأسر من المنطقة المحاصرة في الأسابيع الماضية.
وكان تنظيم «داعش»، في أوجّ قوته، يضم عشرات آلاف المقاتلين، المحليين والأجانب (أنصاراً ومهاجرين) في منطقة نفوذه الأساسية في سوريا والعراق وكذلك ضمن فروعه المختلفة حول العالم. لكنه، بعد هزيمته في الباغوز وسقوط «دولته» المزعومة، بات هزيلاً في شكل واضح، خصوصاً إذا ما قورن بما كان عليه في السنوات الماضية عندما أدار «دولة» مترامية الأطراف تمتد على مساحة أكثر من 88 ألف كلم مربع وتضم أكثر من 8 ملايين شخص وتجني مليارات الدولارات.
ويقول غيكا، في إطار شرحه للقدرات المتبقية للتنظيم، «إن الجيب الأخير لـ(داعش) في حوض الفرات الأوسط كان يضم (حتى أيام مضت) بضع مئات المقاتلين بقوا هناك، متمسكين بما تبقى من دولتهم على الأرض. أما في داخل العراق، فتقديرنا أن العدد بين 10 آلاف و20 ألفاً، لكن هؤلاء ليسوا كلهم مقاتلين. الكثير منهم أعضاء في شبكات دعم. أما عدد الدواعش حول العالم فمن الصعب جداً وضع رقم محدد. ربما هناك نحو 10 أفرع تابعة لـ(داعش)، وكل فرع منها لديه عدد من العناصر يرتفع أو ينخفض حسب الأوضاع».
وعن موقع تنظيم «القاعدة» في المعادلة الحالية، يقول غيكا: «إن أنظار العالم مركّزة الآن على (داعش) لأسباب مختلفة، ولكنّ هذا لا يعني أن التطرف العنيف بأشكاله المختلفة، سواء القديمة أو الجديدة، يجب ألا يتم النظر إليه بوصفه تهديداً للأمن في العالم. علينا أن نتصدى لهذه القضية في المستقبل». ويتفق الكاتب بيرغن هنا أيضاً مع الجنرال غيكا في ضرورة الانتباه إلى تنظيم «القاعدة» مع انتهاء المعركة تقريباً ضد «داعش»، ويقول: «تنظيم (القاعدة) يستفيد (من انهيار داعش) في سوريا وكذلك في منطقة الحدود بين أفغانستان وباكستان وهم يحضّرون حمزة بن لادن، ابن أسامة، لقيادة الجيل المقبل من (القاعدة)».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!