بروفايل: محمد طاهر أيلا رئيساً لوزراء السودان ... في مواجهة عاصفة الثورة

اختير لتفكيك «الحرس القديم»

صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء
صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء
TT

بروفايل: محمد طاهر أيلا رئيساً لوزراء السودان ... في مواجهة عاصفة الثورة

صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء
صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء

حين أعلن الرئيس السوداني عمر البشير فرض حالة الطوارئ و«حل الحكومة» في 22 فبراير (شباط) الماضي، انحناء لعاصفة المظاهرات التي اندلعت في عدد من البلاد 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، وأبدى رغبته في تكوين حكومة مهمات ذات كفاءة، لم يكن يتصور أحد أن يأتي حاكم ولاية الجزيرة السابق محمد طاهر أيلا، رئيساً جديداً للوزارة محل معتز موسى، الذي لم يكمل أربعة أشهر في المنصب. لكن البشير، بعد يوم واحد من حل الحكومة، أصدر قراراً بتعيين أيلا رئيساً للحكومة، مفجراً مفاجأة كبيرة وسط الطاقم الحاكم نفسه، ناهيك من الدهشة التي أصابت كثيرا من المراقبين، لأن الرجل عرف بأنه «خلافي» و«غير وفاقي» داخل الحزب الحاكم «المؤتمر الوطني» نفسه. بل سبق له أن خاض صراعات مع قياداته في الولايتين اللتين حكمهما وهما ولاية البحر الأحمر وولاية الجزيرة.

رغم خلافات رئيس وزراء السودان الجديد محمد طاهر أيلا مع قيادات الحزب الولائية، فمن المرجح أنه يحظى بتأييد وثقة كبيرين من الرئيس عمر البشير. إذ فاجأ الأخير الناس حين أعلن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 دعمه اللا محدود للرجل حتى إذا قرّر الترشح لرئاسة البلاد... ووقتها ارتبك المشهد، وثار السؤال: هل ينوي البشير التخلي عن منصبه لصالح أيلا، إذا ما قرر التنحي فعلاً؟
لم يحدث أن تحدث البشير صراحة عن «خليفته»، ما عدا تلميحات هنا وهناك، من بينها حديثه في مدينة عطبرة يناير (كانون الثاني) الماضي، بعدم ممانعته من تسليم الرئاسة لـ«عسكري». يومذاك قال: «لا مشكلة إذا جاء واحد لابس كاكي، والله ما عندنا مانع». وتابع مهدداً: «أقسم بالله العظيم لو دقت المزيكا كل فأر يدخل جحره»، في أول تهديد على مستوى الرئاسة للمتظاهرين الذين يطلبون منه «التنحي»، لكنه دعماً لرجله القوي، قالها بوضوح.
والحقيقة أنه منذ إعلان البشير ثقته في أيلا بهذه الطريقة، شرعت الأوساط السياسية في دراسة المستقبل السياسي للرجل الآتي من شرق البلاد، ومدى التزام البشير بدعمه رئيساً بديلاً. لكن المفاجأة جاءت أسرع من التوقعات فأعلنه «رئيساً للوزراء» في مكان الرجل «المقرب جداً» منه، معتز موسى.
كان أيلا من بين «الترشيحات» المتداولة لتولي منصب والي (حاكم) ولاية الخرطوم، لكنه في المرسوم الذي أصدره البشير عشية حل الحكومة، أتى به إلى العاصمة في عقر وزارتها «غازياً لا والياً»، في كرسي ثالث رؤساء وزارة في حكم الرئيس البشير المستمر منذ 30 سنة.

- إداري متسلط
لقد شغل أيلا من قبل عددا من المناصب الدستورية والعامة، وخلال هذه المسؤوليات، يتردد أنه يستخدم نمطا إداريا «متسلطا» في التعامل مع مرؤوسيه، بل ولا يتيح حتى لـ«قيادة الحزب» التدخل في قراراته، ما أدخلهم في صدامات معروفة ومعلنة معه في كل من بورتسودان والخرطوم، بيد أنه كان يجد السند دائماً من المركزي الحزبي والرئيس، على وجه الخصوص. إلا أن مؤيديه المقرّبين منه، يفسرون انفراده بالقرار بأنه «نوع من الكاريزما» التي يمتاز بها، فهو يمسك بالملفات كافة بقبضة حديدية، ولا يتيح إلاّ لدائرة ضيقة من المقربين منه الاقتراب من مركز القرار.
والحقيقة، أنه من الشخصيات التي يتباين الناس في تصنيفها... يحبه كثيرون، مثلما يكرهه كثيرون، وكلهم من الحزب الذي يحكم باسمه «المؤتمر الوطني». فإبان ولايته على البحر الأحمر، خاض صراعاً مريراً مع قيادات حزبية وصلت إلى حد القطيعة، فتدخل الرئيس البشير لتهدئة الأوضاع. أما المعارضون فيرون أنه نموذج فعلي للقيادات الإسلامية التي تحكم البلاد. ففي ولاية الجزيرة، خاض أيلا صراعاً مريراً مع المجلس التشريعي (برلمان الولاية)، تدخل بسببه البشير وفرض حالة الطوارئ، ومن ثم حل المجلس الولائي رغم كونه منتخباً.

- بطاقة شخصية
أبصر محمد طاهر أيلا النور عام 1951 في مدينة جبيت، بولاية البحر الأحمر في شرق السودان. وهو يتحدر من أسرة ثريّة تنتمي إلى قبيلة الهدندوة، التي تعد واحدة من أكبر مكوّنات قومية البجا المنتشرة في عموم شرق السودان وعلى الحدود المشتركة مع دولة إريتريا.
بعد دراسة الاقتصاد في جامعة الخرطوم، وبعد تخرجه مباشرة عمل في هيئة الموانئ البحرية. ثم ابتعث إلى بريطانيا، حيث التحق بجامعة كارديف للحصول على درجة الماجستير. وتولى قبيل وصول البشير للحكم، وعلى أيام العهد الديمقراطي بقيادة الصادق المهدي، سُمّي أيلا وزيرا ولائياً في شرق البلاد، قبل أن ينتقل مديراً لهيئة الموانئ البحرية بعد انقلاب الإسلاميين في 1989.
ثم في «حكومة الإنقاذ» اختير وزيراً للتجارة، ووزيراً للنقل، ثم وزيراً للاتصالات. وظل يتقلب في الوظائف حتى عاد في 2005 إلى بورتسودان والياً على ولاية البحر الأحمر التي ظل يحكمها حتى عام 2015. وبعد 2015 نقله الرئيس والياً لولاية الجزيرة وسط البلاد، بسبب خلافات بينه وبين قيادات تشريعية وحزبية تابعة للحزب الحاكم في عاصمة الولاية. وهناك تباينت حوله الآراء؛ الموالون يرونه حاسماً وإدارياً صارماً، أما مناوئوه فيصفونه بأنه «إقصائي، متفرد برأيه، لا يعمل ضمن فريق».
يقدم أيلا نفسه بأنه حرب على الفساد. ولتأكيد ذلك كتب بعيد تعيينه رئيسا للوزراء على صفحته في «فيسبوك» الكلمات التالية «لأجلكم قبلت التكليف وبكم نجتاز الصعاب، وسأضرب بيد من حديد، وحربي سأعلنها من لحظة أدائي للقسم، هي ضد الفساد والمفسدين».
ثم إنه من المسؤولين القلائل الذين يعملون على «تسويق أنفسهم» عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويحرص على علاقة تواصل مباشرة بين مؤيديه ومعجبيه، ويتابع صفحته أكثر من 50 ألفا، ويعجب بها أكثر من 60 ألفا. وفي هذا الصدد، يقول البعض إن جهده على مواقع التواصل هدفه الوصول إلى أكبر عدد من المُريدين، باعتباره خليفة محتملا للبشير.

- صراعاته الحزبية والسياسية
صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات»، ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء، لكنه كان ينتصر عليهم بـ«الضربة القاضية»، عادة. وكما سبقت الإشارة، درج الرئيس البشير على الانتصار له، ففي صراعه مع المجلس التشريعي «برلمان الولاية»، وقيادات الحزب الحاكم، أصدر البشير مرسوما حل بموجبه المجلس التشريعي، وفرض حالة الطوارئ لصالحه. وعندما حاول الحزب الحاكم في الجزيرة «عزله» وقدم مذكرة للرئيس بهذا المعنى، حسم الرئيس الصراع لصالحه بضربة قاضية ثانية حين قال في مخاطبة جماهيرية إنه يؤيد بقاءه حاكماً للجزيرة حتى انتخابات 2020. وأضاف: «سيبقى في المنصب إلاّ إذا قدر الله ورفضه أهل الجزيرة». وهو عادة ما كان يقول عنه دائماً إنه «هديته لأهل الجزيرة». ولم تفلح كل محاولات حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الإسلامية في ولاية الجزيرة في الإطاحة بالرجل.
ولم تكن المطالبات بعزل أيلا من قبل البعض في ولاية الجزيرة حالة وحيدة، فإبان ولايته على البحر الأحمر - وعاصمتها مدينة ود مدني - نشطت حملة في 2014 لجمع «مليون توقيع» لإقالته من منصبه، وكوّنت لذلك لجنة حملت اسم «اللجنة العليا للمطالبة بسحب الثقة عن الوالي»، لكن النصر على خصومه الحزبيين، عادة ما كان يأتيه عاجلاً من القصر الرئاسي في الخرطوم. وبحسب صحيفة «الصيحة» المحلية، فإن الصراع بين أيلا وحزب المؤتمر الوطني الحاكم - والغرابة أنه كان يترأس الحزب بحكم منصبه - مرحلة عظيمة، واستخدمت فيه مختلف الأساليب، ووجهت خلاله انتقادات حادة لـ«مشاريع أيلا في مدني»، وخاصة الطرق، التي كشفت الأمطار، بحسب الصحيفة، عن وجود أخطاء هندسية لافتة في تصميمها.
ونقلت الصحيفة عن عبد القادر أبو ضريس، رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية في المجلس - وهو من المؤيدين لأيلا - أن الحملة ضد الرجل لا تتعدّى كونها «ناموسة في أذن فيل»، وأنها لا يمكن أن تؤدي إلى إزاحة الرجل، لأن المجموعة التي تشن الحملة، تعمل ضد الرجل لأنه «ضرب مصالحها». وتابع: «ما يثيرونه من إخفاقات ومخالفات مالية ضد أيلا لا تتعدّى كونها محض إشاعات وافتراءات مغرضة»، مضيفا: «كانت هناك مراكز قوى في الولاية، ضُربت بمجيء أيلا للولاية».
ويرى كثيرون في الجزيرة، أن أيلا نفذ مشاريع كثيرة خلال إدارته للولاية، وعلى وجه الخصوص، الطرق والسياحة، ويقللون من أخطاء هندسية صاحبت إنشاء طرق وأرصفة، باعتبارها أخطاء عمل، وأن تضخيم الأخطاء يقلل من العمل.
لكن مناوئي أيلا ينظرون إلى الرجل بعين السخط ويقللون منه. وفي هذا نقلت «الصيحة» عن وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق بالولاية الحارث عبد القادر، أن أيلا «يتخذ القرارات منفرداً ولا يشاور حولها»، وهو ما أنتج أخطاء دفعت أعضاء بالمجلس التشريعي لصياغة «مخالفاته» في مذكرة قدمت له، لكنه «صم آذانه» عنها ما أدى لتفجر الصراع. ويعرف عن أيلا بحسب الحارث، أنه ينشئ فرقاً موازية موالية له في كل الوزارات يدير من خلالها العمل بعيداً عن الرقابة، وهو الشيء الذي جعل المجلس التشريعي يسقط قانون «صندوق إنفاذ التنمية» المقدم من قبله.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.