خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

قراءة في جريمة كرايست تشيرش العنصرية بنيوزيلندا

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
TT

خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)

«إن الغازي غير المسلح يشكل خطورة أكبر لأهالينا من الغازي المسلح»، «ليس لدينا أدنى فكرة عن كيفية التعامل معهم، ونحن لسنا قادرين على مهاجمتهم أو إبعادهم بأي طريقة معبرة».
هذه اقتباسات من بيان نشره الأسترالي بيرنتون تارانت (28 عاماً) أحد المعتدين على مسجدي مدينة كرايست شيرش في نيوزيلندا أثناء صلاة الجمعة الماضي، والذي أسفر عن 50 من القتلى وعشرات الجرحى، ذكر فيه أنه يمقت أكثر من أي أمر آخر المسلمين المسالمين.

الحادثة تعيد إلى الأذهان نظرية صراع الحضارات التي ناقشها المفكر الاستراتيجي صموئيل هنتنغتون، وأن المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم، حسب منظوره، سيهيمن عليه الجانب الثقافي، وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط قتال في المستقبل. مثل هذا الهجوم ارتكب من منطلق «شيطنة» الآخرين والرغبة في التخلص منهم بعد أن شكلوا تهديداً وجودياً حسب منظور المعتدي.

دعاة تفوق العرق الأبيض

الصراع بين الثقافات الذي تطرق إليه هنتنغتون عززته «العولمة» التي جعلت مدينة نيوزيلندية منزوية تتعرض لحادثة إرهاب عنصري من متطرف يميني أسترالي الجنسية استوحى الفكرة من النرويجي المتطرف أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في هجوم في 22 يوليو 2011. وقد ذكر بريفيك إبان محاكماته أن الهدف من هجومه حماية النرويج من «اجتياح إسلامي»، وبأنه كان ضد فكرة دعم الهجرة والتعددية الثقافية، الأمر الذي ألهم تارانت التخطيط للعملية المتطرفة. في البيان الذي سمي بـ«المانيفستو» بمعنى «الاستبدال الكبير» وصف تارانت نفسه بأنه رجل أبيض ولد في أستراليا من طبقة كادحة، وينتمي لأسرة ذات دخل منخفض. وتضمن البيان انعكاسات تدفق المهاجرين على الدول الغربية بشكلٍ يهدد مجتمعاتها، ويرقى إلى ما وصفه بـ«حقن دماء البيض» وأن وقف الهجرة وإبعاد «الغزاة» الموجودين على أراضيها ليس «مسألة رفاهية لشعوب هذه الدول، بل هو قضية بقاء ومصير». بمعنى أن الأهداف للقيام بالعملية حسب تارانت، تقليص الهجرة بترهيب «الغزاة» وترحيلهم. يتجلى من خلال البيان الذي نشر على الشبكة العنكبوتية رغبة في استقطاب الإعلام ولفت الانتباه لفكر يميني متطرف أقرب للفاشية يصبو إلى إلغاء الثقافات غير الغربية. ولقد نما مؤخراً مصطلح غريب يطلق عليه «إبادة العرق الأبيض» ويشار فيه إلى تصاعد القلق من التهديد الوجودي نتيجة تزايد الأعراق المختلفة في مجتمعات كان يطغى عليها وجود الرجل الأبيض، الأمر الذي تسبب إلى ما هو أشبه «بانقراض» لوجود الرجل الأبيض. الأمر الذي دفع رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن إلى أن تصف إطلاق النار بهجوم خطط له جيداً. وأضافت في مؤتمر صحافي: «من الواضح لدينا الآن أنه يمكن وصف ذلك بأنه هجوم إرهابي» كما وصف رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون منفذ الهجوم المسلح تارانت بأنه إرهابي من اليمين المتطرف. كما أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش شدد على أنه يتعين «الوقوف ضد كراهية المسلمين وكل أشكال التعصب والإرهاب».

الحملات الدعائية للمتطرفين

البيان العنصري الذي نشره تارانت ظهر على موقع «تويتر»، قبل أن ينقل مقاطع من التسجيل المرئي الذي قام فيه بإطلاق النار عشوائياً على المصلين. كما نقل المقطع كاملاً ومباشرة عبر موقع «فيسبوك»، والذي يظهر فيه وهو يصل بسيارته إلى مسجد النور ثم يبدأ بإطلاق النار لدى دخوله إليه عشوائياً على المصلين. وقد حجب موقع «تويتر» حساب مرتكب الهجوم الإرهابي، كما دعت السلطات النيوزيلندية إلى عدم نشر فيديو حادثة إطلاق النار، فيما يظهر نشر البث المباشر من خلال موقع «فيسبوك» إخفاقه عن مراقبة ومنع كل حادثة متطرفة عبر التسجيلات التي يتم نشرها، إذ تم إخطار الموقع الإلكتروني من خلال السلطات النيوزلندية. ويعيد نشر البث المباشر للهجمة الإرهابية الجدل حول مدى استغلال المتطرفين وسائل التواصل الاجتماعي في نشر رسائلهم الإعلامية، ويعتبر البث المباشر لقتل بهذا الأسلوب غير معتاد من قبل متطرفي اليمين بالغرب، وقد برع عدد من التنظيمات ذات التوجهات الراديكالية وأبرزها تنظيم «داعش»، في قدرته على نشر رسائله الإعلامية من خلال الاستعانة بأحدث التقنيات واستغلالها لبث جرائم بشعة، سواء من أجل بث الذعر لدى الآخرين، أو لتحفيز المتعاطفين من أجل ارتكاب أعمال مشابهة من خلال مشاهد عنف تثير الحماسة لديهم.
في 13 يونيو (حزيران) 2016. قام الداعشي «لعروسي عبالة» (25 عاماً) بطعن الضابط الفرنسي جون بابتيست ومن ثم طعن زوجته وبث كل تفاصيل عملية القتل مباشرة عبر موقع «فيسبوك» في بث استمر لمدة اثنتي عشرة دقيقة، ذكر فيها أسباب اقترافه لذلك، وانتمائه لتنظيم «داعش»، ودعا إلى المزيد من الهجمات المشابهة في فرنسا. ويتجلى تحور الحملات الإعلامية الدعائية للتنظيمات مؤخراً إذا ما قورنت بالتنظيمات القديمة مثل «القاعدة» التي اعتمدت على ارتكاب هجمات إرهابية كبيرة أشبه بالمسرح من أجل استعراض التنظيم مثل ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والارتكاز على تغطية وسائل الإعلام التقليدية لها والذي قنن فيما بعد من أجل عدم الترويج لأفكار هذه الجماعات، وقد كانت وسائل الإعلام في السابق في أحايين عديدة قد نقلت خطابات قادة التنظيمات، مثل ما فعلته المحطات الفضائية مراراً من نقل لخطابات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وقد تم استبدال ذلك بوسائل التواصل الإلكترونية التي بإمكانها ليس فقط الوصول إلى أدنى أنحاء العالم، وإنما التفاعل مع المشاهدين ومحاورتهم من أجل استقطابهم وتجنيدهم مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد برع تنظيم داعش في اختيار قادة لحملاتهم الإعلامية التي استقطبت كل الجنسيات بأسلوب ولغة خاصة حسب الفئة التي يتم استهدافها من أجل إقناعهم.

استهداف دور العبادة

يعد استهداف دور العبادة مؤشراً على تنامي خطاب الكراهية والخوف من هيمنة الآخر و«شيطنته» واعتباره دخيلاً على المجتمع مهدداً لوجوده. ويظهر مصطلح الإسلاموفوبيا، لا سيما مع تصاعد هجرة المسلمين إلى الدول الغربية، بالأخص وأن غالبية المسلمين في المجتمعات الغربية من أصول عربية وآسيوية. إلا أنه في الآن ذاته، فإن جرائم الكراهية والعنصرية ليست مقتصرة فقط على المسلمين وإنما الأقليات بشكلٍ عام، ففي الولايات المتحدة وحدها انتشرت عدد من الهجمات الإرهابية أو جرائم الكراهية استهدفت أقليات مثل الأفارقة السود واليهود. مثل ما حدث في مدينة بيتسبورغ بولاية بنسلفانيا حين اقتحم المسلح روبرت باورز معبداً يهودياً مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً، وقد كان يصيح أثناء هجومه: «الموت لكل اليهود». فيما قام الأميركي ديلان روف بإطلاق النار على كنيسة تشارلستون في ولاية جنوب كارولاينا والتي يرتادها أميركيون متحدرون من أصول أفريقية، مما تسبب بمقتل تسعة أشخاص.
والأمر ذاته يظهر عبر الجماعات الراديكالية المتشددة مثل تنظيم داعش الذي استهدفت أقليات في العديد من الدول. بدءاً بما قاموا به في مساحة ضيقة باستهدافهم مساجد للشيعة في منطقة الخليج بهدف إضرام الطائفية مثل ما حدث في الكويت والسعودية، أو في مناطق أخرى مثل أفغانستان وباكستان. وأول ما ارتكبه «الدواعش» بشكل مكثف في مصر من استهداف للأقباط عبر العديد من الهجمات على الكنائس أو أماكن تجمعهم.
وفي يناير (كانون الثاني) 2019 قتل ضابط في الشرطة المصرية أثناء محاولته تفكيك عبوة ناسفة قرب كنيسة شرقي القاهرة إبان احتفالهم بعيد الميلاد. وقد نشر بيان حديث باسم تنظيم داعش عبر عن استنكارهم لعدم دخول الأقباط في مصر إلى الإسلام رغم استهدافهم بعمليات إرهابية. وقد قال الناطق باسم «داعش» في مصر قال أبو الغلام المزبيري إنه «حاول بشتى الطرق هداية الأقباط إلى دين الرحمة»، «لقد أبى الأقباط واستكبروا، ولم تلن قلوبهم لدعوتنا الرحيمة، كما لانت أطراف وأجساد أقربائهم وأحبائهم تحت صليات رصاصنا، وصدوا عن سبيل الله واستمروا بكفرهم وضلالهم يعمهون» وأكد المزبيري أنه لن ييأس من هداية الأقباط، ولن يتخلى التنظيم عن مسؤوليته تجاههم. أما في مناطق الصراع فيستحيل استهداف الأقليات إلى عنفٍ وبطشٍ مطلق، مثل ما حدث في العراق بما يبدو أشبه بالتطهير العرقي باستهداف الشيعة والإيزيديين والمسيحيين بدرجة بلغت حد الإبادة والمجازر الجماعية، وتدمير الرموز الدينية والأضرحة والمساجد الشيعية في كل من سوريا والعراق. ليس فقط من أجل استهداف الأقليات وإنما من أجل تأجيج الطائفية التي يزيد من مسبباتها العنف المرتكب من قبل الميليشيات السنية والشيعية فيها، واستهداف لدور العبادة الذي يفترض أنه يوفر الحماية والملاذ للمصلين، إلا أن ذلك الاحترام للمقدسات يتضح انتهاكه من قبل المتطرفين من أجل إرسال تهديد واضح لدين ما أو لطائفة معينة مباشرة دون غيرها، كما أن في هذا الفعل المقترف إمكانية قتل أكبر عدد من طائفة أو ديانة معينة كما ذكر مقترف هجوم مسجدي كرايست شيرش، إذ إن اختياره لهما جاء نتيجة أنهما يستقبلان أكبر عدد من المصلين. الأمر الذي يجعل من المسجدين مسرحاً كبيراً يستعرض جريمته ويتسبب بتخويف المسلمين وقد عبر من قبل أنه يرغب في التخلص منهم، فيما في نفس الوقت قد يؤثر ذلك على المتعاطفين مع القضية ويحفز فيهم ذلك الحس العنصري الكامن في أعماقهم تجاه الآخر.


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.