خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

قراءة في جريمة كرايست تشيرش العنصرية بنيوزيلندا

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
TT

خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)

«إن الغازي غير المسلح يشكل خطورة أكبر لأهالينا من الغازي المسلح»، «ليس لدينا أدنى فكرة عن كيفية التعامل معهم، ونحن لسنا قادرين على مهاجمتهم أو إبعادهم بأي طريقة معبرة».
هذه اقتباسات من بيان نشره الأسترالي بيرنتون تارانت (28 عاماً) أحد المعتدين على مسجدي مدينة كرايست شيرش في نيوزيلندا أثناء صلاة الجمعة الماضي، والذي أسفر عن 50 من القتلى وعشرات الجرحى، ذكر فيه أنه يمقت أكثر من أي أمر آخر المسلمين المسالمين.

الحادثة تعيد إلى الأذهان نظرية صراع الحضارات التي ناقشها المفكر الاستراتيجي صموئيل هنتنغتون، وأن المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم، حسب منظوره، سيهيمن عليه الجانب الثقافي، وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط قتال في المستقبل. مثل هذا الهجوم ارتكب من منطلق «شيطنة» الآخرين والرغبة في التخلص منهم بعد أن شكلوا تهديداً وجودياً حسب منظور المعتدي.

دعاة تفوق العرق الأبيض

الصراع بين الثقافات الذي تطرق إليه هنتنغتون عززته «العولمة» التي جعلت مدينة نيوزيلندية منزوية تتعرض لحادثة إرهاب عنصري من متطرف يميني أسترالي الجنسية استوحى الفكرة من النرويجي المتطرف أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في هجوم في 22 يوليو 2011. وقد ذكر بريفيك إبان محاكماته أن الهدف من هجومه حماية النرويج من «اجتياح إسلامي»، وبأنه كان ضد فكرة دعم الهجرة والتعددية الثقافية، الأمر الذي ألهم تارانت التخطيط للعملية المتطرفة. في البيان الذي سمي بـ«المانيفستو» بمعنى «الاستبدال الكبير» وصف تارانت نفسه بأنه رجل أبيض ولد في أستراليا من طبقة كادحة، وينتمي لأسرة ذات دخل منخفض. وتضمن البيان انعكاسات تدفق المهاجرين على الدول الغربية بشكلٍ يهدد مجتمعاتها، ويرقى إلى ما وصفه بـ«حقن دماء البيض» وأن وقف الهجرة وإبعاد «الغزاة» الموجودين على أراضيها ليس «مسألة رفاهية لشعوب هذه الدول، بل هو قضية بقاء ومصير». بمعنى أن الأهداف للقيام بالعملية حسب تارانت، تقليص الهجرة بترهيب «الغزاة» وترحيلهم. يتجلى من خلال البيان الذي نشر على الشبكة العنكبوتية رغبة في استقطاب الإعلام ولفت الانتباه لفكر يميني متطرف أقرب للفاشية يصبو إلى إلغاء الثقافات غير الغربية. ولقد نما مؤخراً مصطلح غريب يطلق عليه «إبادة العرق الأبيض» ويشار فيه إلى تصاعد القلق من التهديد الوجودي نتيجة تزايد الأعراق المختلفة في مجتمعات كان يطغى عليها وجود الرجل الأبيض، الأمر الذي تسبب إلى ما هو أشبه «بانقراض» لوجود الرجل الأبيض. الأمر الذي دفع رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن إلى أن تصف إطلاق النار بهجوم خطط له جيداً. وأضافت في مؤتمر صحافي: «من الواضح لدينا الآن أنه يمكن وصف ذلك بأنه هجوم إرهابي» كما وصف رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون منفذ الهجوم المسلح تارانت بأنه إرهابي من اليمين المتطرف. كما أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش شدد على أنه يتعين «الوقوف ضد كراهية المسلمين وكل أشكال التعصب والإرهاب».

الحملات الدعائية للمتطرفين

البيان العنصري الذي نشره تارانت ظهر على موقع «تويتر»، قبل أن ينقل مقاطع من التسجيل المرئي الذي قام فيه بإطلاق النار عشوائياً على المصلين. كما نقل المقطع كاملاً ومباشرة عبر موقع «فيسبوك»، والذي يظهر فيه وهو يصل بسيارته إلى مسجد النور ثم يبدأ بإطلاق النار لدى دخوله إليه عشوائياً على المصلين. وقد حجب موقع «تويتر» حساب مرتكب الهجوم الإرهابي، كما دعت السلطات النيوزيلندية إلى عدم نشر فيديو حادثة إطلاق النار، فيما يظهر نشر البث المباشر من خلال موقع «فيسبوك» إخفاقه عن مراقبة ومنع كل حادثة متطرفة عبر التسجيلات التي يتم نشرها، إذ تم إخطار الموقع الإلكتروني من خلال السلطات النيوزلندية. ويعيد نشر البث المباشر للهجمة الإرهابية الجدل حول مدى استغلال المتطرفين وسائل التواصل الاجتماعي في نشر رسائلهم الإعلامية، ويعتبر البث المباشر لقتل بهذا الأسلوب غير معتاد من قبل متطرفي اليمين بالغرب، وقد برع عدد من التنظيمات ذات التوجهات الراديكالية وأبرزها تنظيم «داعش»، في قدرته على نشر رسائله الإعلامية من خلال الاستعانة بأحدث التقنيات واستغلالها لبث جرائم بشعة، سواء من أجل بث الذعر لدى الآخرين، أو لتحفيز المتعاطفين من أجل ارتكاب أعمال مشابهة من خلال مشاهد عنف تثير الحماسة لديهم.
في 13 يونيو (حزيران) 2016. قام الداعشي «لعروسي عبالة» (25 عاماً) بطعن الضابط الفرنسي جون بابتيست ومن ثم طعن زوجته وبث كل تفاصيل عملية القتل مباشرة عبر موقع «فيسبوك» في بث استمر لمدة اثنتي عشرة دقيقة، ذكر فيها أسباب اقترافه لذلك، وانتمائه لتنظيم «داعش»، ودعا إلى المزيد من الهجمات المشابهة في فرنسا. ويتجلى تحور الحملات الإعلامية الدعائية للتنظيمات مؤخراً إذا ما قورنت بالتنظيمات القديمة مثل «القاعدة» التي اعتمدت على ارتكاب هجمات إرهابية كبيرة أشبه بالمسرح من أجل استعراض التنظيم مثل ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والارتكاز على تغطية وسائل الإعلام التقليدية لها والذي قنن فيما بعد من أجل عدم الترويج لأفكار هذه الجماعات، وقد كانت وسائل الإعلام في السابق في أحايين عديدة قد نقلت خطابات قادة التنظيمات، مثل ما فعلته المحطات الفضائية مراراً من نقل لخطابات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وقد تم استبدال ذلك بوسائل التواصل الإلكترونية التي بإمكانها ليس فقط الوصول إلى أدنى أنحاء العالم، وإنما التفاعل مع المشاهدين ومحاورتهم من أجل استقطابهم وتجنيدهم مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد برع تنظيم داعش في اختيار قادة لحملاتهم الإعلامية التي استقطبت كل الجنسيات بأسلوب ولغة خاصة حسب الفئة التي يتم استهدافها من أجل إقناعهم.

استهداف دور العبادة

يعد استهداف دور العبادة مؤشراً على تنامي خطاب الكراهية والخوف من هيمنة الآخر و«شيطنته» واعتباره دخيلاً على المجتمع مهدداً لوجوده. ويظهر مصطلح الإسلاموفوبيا، لا سيما مع تصاعد هجرة المسلمين إلى الدول الغربية، بالأخص وأن غالبية المسلمين في المجتمعات الغربية من أصول عربية وآسيوية. إلا أنه في الآن ذاته، فإن جرائم الكراهية والعنصرية ليست مقتصرة فقط على المسلمين وإنما الأقليات بشكلٍ عام، ففي الولايات المتحدة وحدها انتشرت عدد من الهجمات الإرهابية أو جرائم الكراهية استهدفت أقليات مثل الأفارقة السود واليهود. مثل ما حدث في مدينة بيتسبورغ بولاية بنسلفانيا حين اقتحم المسلح روبرت باورز معبداً يهودياً مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً، وقد كان يصيح أثناء هجومه: «الموت لكل اليهود». فيما قام الأميركي ديلان روف بإطلاق النار على كنيسة تشارلستون في ولاية جنوب كارولاينا والتي يرتادها أميركيون متحدرون من أصول أفريقية، مما تسبب بمقتل تسعة أشخاص.
والأمر ذاته يظهر عبر الجماعات الراديكالية المتشددة مثل تنظيم داعش الذي استهدفت أقليات في العديد من الدول. بدءاً بما قاموا به في مساحة ضيقة باستهدافهم مساجد للشيعة في منطقة الخليج بهدف إضرام الطائفية مثل ما حدث في الكويت والسعودية، أو في مناطق أخرى مثل أفغانستان وباكستان. وأول ما ارتكبه «الدواعش» بشكل مكثف في مصر من استهداف للأقباط عبر العديد من الهجمات على الكنائس أو أماكن تجمعهم.
وفي يناير (كانون الثاني) 2019 قتل ضابط في الشرطة المصرية أثناء محاولته تفكيك عبوة ناسفة قرب كنيسة شرقي القاهرة إبان احتفالهم بعيد الميلاد. وقد نشر بيان حديث باسم تنظيم داعش عبر عن استنكارهم لعدم دخول الأقباط في مصر إلى الإسلام رغم استهدافهم بعمليات إرهابية. وقد قال الناطق باسم «داعش» في مصر قال أبو الغلام المزبيري إنه «حاول بشتى الطرق هداية الأقباط إلى دين الرحمة»، «لقد أبى الأقباط واستكبروا، ولم تلن قلوبهم لدعوتنا الرحيمة، كما لانت أطراف وأجساد أقربائهم وأحبائهم تحت صليات رصاصنا، وصدوا عن سبيل الله واستمروا بكفرهم وضلالهم يعمهون» وأكد المزبيري أنه لن ييأس من هداية الأقباط، ولن يتخلى التنظيم عن مسؤوليته تجاههم. أما في مناطق الصراع فيستحيل استهداف الأقليات إلى عنفٍ وبطشٍ مطلق، مثل ما حدث في العراق بما يبدو أشبه بالتطهير العرقي باستهداف الشيعة والإيزيديين والمسيحيين بدرجة بلغت حد الإبادة والمجازر الجماعية، وتدمير الرموز الدينية والأضرحة والمساجد الشيعية في كل من سوريا والعراق. ليس فقط من أجل استهداف الأقليات وإنما من أجل تأجيج الطائفية التي يزيد من مسبباتها العنف المرتكب من قبل الميليشيات السنية والشيعية فيها، واستهداف لدور العبادة الذي يفترض أنه يوفر الحماية والملاذ للمصلين، إلا أن ذلك الاحترام للمقدسات يتضح انتهاكه من قبل المتطرفين من أجل إرسال تهديد واضح لدين ما أو لطائفة معينة مباشرة دون غيرها، كما أن في هذا الفعل المقترف إمكانية قتل أكبر عدد من طائفة أو ديانة معينة كما ذكر مقترف هجوم مسجدي كرايست شيرش، إذ إن اختياره لهما جاء نتيجة أنهما يستقبلان أكبر عدد من المصلين. الأمر الذي يجعل من المسجدين مسرحاً كبيراً يستعرض جريمته ويتسبب بتخويف المسلمين وقد عبر من قبل أنه يرغب في التخلص منهم، فيما في نفس الوقت قد يؤثر ذلك على المتعاطفين مع القضية ويحفز فيهم ذلك الحس العنصري الكامن في أعماقهم تجاه الآخر.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟