في يونيو (حزيران) 2016، وقعت مذبحة مروعة في أورلاندو، بالولايات المتحدة، حين قتل شاب أميركي من أصل أفغاني، يُدعى عمر متين، 50 شخصاً في نادٍ للمثليين، بإصرار وبدم بارد.
من تحت ركام هذه الجريمة المفجعة، أمكننا أن نستخلص عدداً من الوقائع اللافتة؛ فقد تبين أن متين، الذي عُرف بانطوائه ومحدودية علاقاته الاجتماعية، تصفح التحديثات على حسابه في «فيسبوك» أثناء المجزرة.
كما اكتشفت شركات الإنترنت الكبرى أنه أجرى عمليات بحث على «غوغل» أثناء القتل، مستخدماً الكلمات التالية: «إطلاق نار+ أورلاندو»، والأخطر من ذلك ما كشفت عنه سلطات التحقيق، في يوليو (تموز) من العام نفسه، حين أكدت أن متين أرسل رسالة نصية إلى زوجته خلال قيامه بقتل ضحاياه، سائلاً إياها: «هل شاهدت الأخبار؟».
لو كانت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر حية الآن لأعادت الإلحاح على تحذيرها الصارم، الذي أطلقته منتصف ثمانينات القرن الفائت: «الإعلام أكسجين الإرهاب... لا يجب أن نمنح الإرهابيين فرصة أن يظهروا على التلفاز، لأن ذلك يمثل أفضل دعاية لهم».
في بحث مهم، وجد مايكل جيتر، الباحث في جامعة ويسترن، بأستراليا، علاقة مؤكدة بين التغطية الإعلامية الكبيرة للعمليات الإرهابية واستفحال ظاهرة الإرهاب من جانب، وإصراراً واضحاً من الإرهابيين على الترويج لأنشطتهم الإجرامية عبر وسائل الإعلام من جانب آخر.
تثبت هذه الوقائع والإفادات أن الإعلام جزء من استراتيجية الإرهاب، وهو أمر لا يقتصر فقط على الجماعات الضخمة المنظمة تنظيماً جيداً والممولة بسخاء، ولكنه يمتد أيضاً إلى الإرهابيين الأفراد، الذين يستندون إلى آيديولوجيا أو ينطلقون في عملهم الإجرامي من دوافع نفسية واجتماعية.
لم يكن هناك جديد في هذا الملف إلى أن وقعت حادثة نيوزيلندا يوم الجمعة الماضي؛ إذ حدث تطور جوهري سيأخذ مراكز التفكير إلى مبحث جديد يتعلق بـ«البث الحي للعمليات الإرهابية»، إذ حرص مرتكب مذبحة نيوزيلندا، التي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، على أن ينقل مذبحته على الهواء من خلال «فيسبوك»، لمدة 17 دقيقة.
كان مجرمون وقتلة استخدموا «فيسبوك» سابقاً في نقل وقائع جرائم عبر البث الحي مرات عدة، ولعل أشهرها واقعة البث المباشر لعملية قتل جرت في كليفلاند، في يناير (كانون الثاني) 2017، حيث ظلت تُعرض على الموقع لأكثر من ساعتين. لكن جديد «بريندون تارانت»، منفذ مذبحة نيوزيلندا، يتمثل في أنه صاحب أول بث إرهابي حي عبر وسائط التواصل الاجتماعي في التاريخ.
لم تعد جدلية الإرهاب والإعلام تقف عند حدود تصريحات ثاتشر، أو تنشغل بتحليل دوافع «عمر متين»، التي قادته إلى تصفح تحديثاته على «فيسبوك» أثناء ارتكابه مذبحة أورلاندو، أو تحلل استراتيجية زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، التي يرى أن «نصفها في الإعلام»، لكن تلك الجدلية ذهبت بعيداً عن ذلك، وبلغت ذروة جديدة... «إرهاب على الهواء».
لا يستبعد كثيرون أن تكون مذبحة المسجدين صُممت من أجل وسائل التواصل الاجتماعي، أو هذا على الأقل ما قالته «ديلي تلغراف» في مقال افتتاحي نشرته غداة الحادث، وهو أمر يجسد كابوساً في حد ذاته؛ إذ سنكون قد اكتشفنا للتو دافعاً جديداً لارتكاب العمليات الإرهابية، وهو، كما يبدو، دافع شديد الإغراء.
لا يجب أن يدفع العالم هذه التكلفة الفادحة بينما تبقى شركات الإنترنت العملاقة بمنأى عن المساءلة والمحاسبة، خصوصاً أن الأدلة متوافرة بخصوص إخفاق الشركات المالكة لوسائط التواصل الاجتماعي في لجم أنشطة الدعاية الإرهابية والحد من ترويج خطاب الكراهية والعنف عبر وسائطها.
بسبب تباطؤ شركات التكنولوجيا العملاقة في القيام بواجبها نحو إزالة الدعاية الإرهابية والحد من خطاب الكراهية، وفي ظل الإخفاق في تعيين الحد الفاصل بين حرية التعبير على وسائط التواصل الاجتماعي والتحريض على العنف، لا يجب أن نستبعد ارتكاب مذابح إرهابية أخرى بغرض بث تفاصيلها على الهواء.
لقد كسب الوجه الشائن لمواقع التواصل الاجتماعي ملمحاً جديداً يوم الجمعة الماضي، وهو ملمح يخصم بوضوح من مزايا وجهها الحسن، الذي باتت سماته الأخاذة تتآكل باطراد.
وجه «السوشيال ميديا» الشائن

وجه «السوشيال ميديا» الشائن

لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة