ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة

تنفيذ «إصلاحات» المؤتمر الاقتصادي يحسم بين الإنقاذ والانهيار

ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة
TT

ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة

ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة

تحلو للبعض تسمية الحكومة اللبنانية الجديدة - التي أراد لها رئيسها سعد الحريري تسمية «حكومة إلى العمل» - بـ«حكومة سيدر». في إشارة إلى المؤتمر الذي عُقد في العاصمة الفرنسية باريس، في أبريل (نيسان) الماضي، وحصّل خلاله لبنان منحاً وقروضاً ميسرة بقيمة 11.5 مليار دولار أميركي، لإعادة تأهيل بنيته التحتية. ذلك أن القوى السياسية، رغم بعض السجالات الجانبية، ملتزمة على ما يبدو (أقله في المدى المنظور) بالانصراف إلى تعبيد الطريق أمام عشرات المشروعات التي يفترض أن تبصر النور خلال السنوات القليلة المقبلة لانتشال الاقتصاد اللبناني من الأزمة الكبيرة التي يرزح تحتها، ما أدى إلى شح في السيولة، وخاصة بالعملات الأجنبية. ويتعاطى الحريري مع «سيدر» على أنه بداية لعملية تحديث الاقتصاد اللبناني، وإعادة تأهيل البنية التحتية، إضافة إلى إطلاق إمكانات القطاع الخاص، وصولاً إلى تحقيق النمو المستدام.

تكفّل البنك الدولي بتأمين ثلث المبلغ، الذي وعد به المانحون خلال مؤتمر «سيدر»، الذي استضافته العاصمة الفرنسية باريس أخيراً لدعم لبنان، ووعد بمنح وقروض قيمتها 11.5 مليار دولار، بينما تكفلت دول الاتحاد الأوروبي بثلث آخر. أما الثلث الباقي فتعهدت بتأمينه الدول العربية وصناديقها التنموية. ولا تخرج نتائج «سيدر» بأي هبات، بل هي قروض ميسرة بفائدة لا تتعدى الواحد والنصف في المائة، مع فترات سماح تتراوح بين 7 و10 سنوات، وآجال تتعدى 25 سنة.
ولقد بدأت عملياً الاستعدادات للاستفادة من مبالغ «سيدر» ومشاريعه، مع زيارة المبعوث الفرنسي بيار دوكين، المكلف مواكبة تنفيذ مقررات المؤتمر إلى بيروت، أخيراً، حاملاً «رزمة» نصائح للمسؤولين اللبنانيين، مرتبطة بشكل أساسي بوجوب إقرار خطة للإصلاحات في القطاعات المتفق عليها كي تكون الصورة واضحة عند المستثمرين لكسب ثقتهم. وقال دوكين، في اختتام زيارته، إنه استخلص أن لبنان مستعد للبدء بالإصلاحات والاستثمارات.

- انطلاق ورشة الإصلاحات
أطلقت الدولة اللبنانية خلال الأشهر الماضية ورشة لتنفيذ إصلاحات إدارية ومالية، كان مؤتمر «سيدر» قد اشترط تنفيذها، وبدأت بقرارين وجّههما الرئيس الحريري إلى الوزارات والإدارات، دعاها فيهما إلى ترشيد الإنفاق وضبط الهدر، وصولاً إلى إجراءات تأديبية باشرت المؤسّسات القضائية والرقابية اتخاذها. وترافق ذلك مع وضع لجنة المال والموازنة النيابية ملف التوظيفات العشوائية التي حصلت خلال العام الماضي على الطاولة لمحاسبة المرتكبين، بالتزامن مع عمل رئيس المجلس النيابي نبيه برّي على تسريع عملية تشكيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
ولعل أبرز الاجتماعات التي عقدها الحريري قبل اجتماعه بدوكين، للبحث في الخطوات اللازمة للإسراع في تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر»، كان اجتماعه بمدير مكتب البنك الدولي لدول المشرق ساروج كومار جا، وممثلين عن المؤسسات المالية العربية والأوروبية والدولية المانحة. ونوقشت أولوية المشاريع التي يتضمّنها «سيدر»، والتأكيد لأول مرة بعد تشكيل الحكومة بعد 9 أشهر من التعطيل، على دعم كل المؤسسات من جديد للبنان، لتطبيق هذا البرنامج. وجزم البنك الدولي بأن التعهدات المالية التي التزم بها في باريس العام الماضي لا تزال قائمة، معرباً عن تطلعه إلى العمل مع حكومة لبنان، للمساعدة في تطبيق المشاريع ذات الأولوية في مختلف القطاعات.
ويبدو أن التوجّه هو لتشكيل لجنة تقنية، مقرها بيروت، تعقد اجتماعات دائمة كل شهر أو خلال شهرين، وترفع تقاريرها إلى هيئة دولية عليا، مقرها باريس، تتولّى تقويم ما نُفّذ، وأحياناً تتولى إدخال تعديلات على الاستراتيجية الموضوعة لضمان حسن تنفيذ المشروعات التي اتفق عليها في «سيدر». وتحدثت مصادر «الشرق الأوسط» في وقت سابق عن اتفاق بين دوكين والحريري على أن تجتمع الهيئة العليا في باريس على مستوى وزراء، أو على مستوى رئيس الوزراء، بحضور ممثلين عن الدول والمؤسسات المالية المانحة، على أن تكون اجتماعاتها سنوية، مع إمكانية أن تلتئم بصورة استثنائية إذا دعت الحاجة.
ووفق الدكتور نديم المنلا، مستشار رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية، فإن التركيز الأساسي في المرحلة الراهنة هو على المواءمة بين المشاريع والتمويل، أي التأكد من أنه لن تحظى بعض القطاعات بتمويل كبير، في حين تبقى قطاعات أخرى من دون تمويل، إضافة إلى ضمان عملية الإسراع في إقرار وتنفيذ المشاريع، بحيث لا تتجاوز الفترة ما بين تحديد المشروع والبدء بالصرف عليه ما بين 12 إلى 15 شهراً.
ومن جهته، يعتبر الخبير المالي والاقتصادي الدكتور غازي وزنة أن المهلة التي حدّدها المنلا «منطقية جداً، فكل مشروع قبل انطلاق تنفيذه يحتاج إلى دراسة لتحديد الجدوى الاقتصادية والمالية منه، على أن ننتقل بعدها لعملية الموافقة عليه من قبل الحكومة، قبل إحالته إلى المجلس النيابي، وصولاً لعرضه على المجتمع الدولي للسير به واختيار الشركات المناسبة لتنفيذه، وهذا مسار طويل يحتاج للوقت». ويشير وزنة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن قدرة الاقتصاد اللبناني أصلاً لا تتخطى المليار أو المليار ونصف المليار من المشاريع الاستثمارية سنوياً، علماً بأن كل مشروع يحتاج 3 أو 4 سنوات للتنفيذ.

- ثلاث مراحل
قُسمت الحصيلة المرتقبة لمؤتمر «سيدر» على 3 مراحل؛ الأولى من 5 سنوات، ورصد نحو 11 مليار دولار لها لتنفيذ 106 مشاريع، علماً بأن 30 في المائة من المبلغ هو من القروض و7 في المائة فقط من الهبات. والثانية رصد لها نحو 6.5 مليار دولار. والثالثة رصدت لها الحكومة اللبنانية نحو 5.8 مليار دولار، ليكون مجموع المبلغ الذي طلبته الحكومة نحو 23 مليار دولار، على أن يتراوح موعد التنفيذ بين 12 و15 سنة.
هذا، وقدّم لبنان خلال مؤتمر «سيدر» رؤية شاملة من أجل الاستقرار والنمو وفرص العمل. وتقوم هذه الرؤية على 4 ركائز متكاملة...
أولاً - برنامج إنفاق استثماري بالبنى التحتية، يتضمّن 250 مشروعاً، بكلفة 23 مليار دولار، مقسّم على 12 عاماً، وينفّذ على 3 مراحل.
ثانياً - إصلاح مالي، بمعدل واحد في المائة سنوياً.
ثالثاً - إصلاحات هيكلية لتحديث الإدارة ومكافحة الفساد وتحديث التشريعات لعمل القطاع الخاص، وإصلاحات قطاعية لتحقيق الفائدة القصوى من الاستثمارات بالقطاعات.
ورابعاً - استراتيجية لتطوير القطاعات الإنتاجية وزيادة حجم الصادرات.
وبحسب الرئيس الحريري، فإن الـ11.5 مليار دولار، التي تم الالتزام بها في مؤتمر باريس، تغطي الحاجات التمويلية للمرحلة الأولى من برنامج الإنفاق الاستثماري، وأكثر قليلاً. ولفت إلى أن المجال ما زال مفتوحاً لمساهمة دول جديدة كالصين واليابان وكوريا الجنوبية، موضحاً أنه يتابع اتصالاته في هذا المجال.

- الفرصة الأخيرة
وفي حين يعتبر خبراء اقتصاديون أن مؤتمر «سيدر» يشكل «خشبة الخلاص» للبنان، يفضّل الدكتور سامي نادر مدير «معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية» القول إن ما أقرّه المؤتمر «يشكل الفرصة شبه الأخيرة للبلد لانعدام البدائل، خاصة أنه ضخ سيولة في الاقتصاد اللبناني، الذي يعاني من ضغط في السيولة، إن لم نقل من شح، وخاصة في العملات الأجنبية». ويوضح نادر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أنه منذ العام 2011، تاريخ اندلاع الأزمة في سوريا، يمكن الحديث عن «توأمة في العجزين»، أي عجز ميزان المدفوعات وعجز الخزينة، الذي يفاقم العجز الأول، شارحاً أنه في السنوات الـ4 الماضية تفاقم العجز بـ20 مليار دولار، في وقت لم يكبر اقتصادنا إلا بنحو 4 مليارات دولار. ويستخلص: «نحن بحاجة إلى نفقات استثمارية لتكبير الاقتصاد».
من ناحية ثانية، عقدت الجهات اللبنانية المعنية منذ أبريل الماضي اجتماعات ثنائية عدة مع البنك الدولي والبنك الأوروبي ومع كل المؤسسات، جرى خلالها الاتفاق على عدد من المشاريع، على أن تأخذ طريقها إلى مجلسي الوزراء والنواب. ويؤكد المنلا، مستشار الحريري، أنه «لا شروط فرضتها الدول والمؤسسات المقرضة»، رغم الحديث عن ربط تنفيذ المشاريع بإقرار الإصلاحات اللازمة، وعن أن المؤتمر ألزم النازحين (أي اللاجئين) السوريين العمل في المشاريع التي يموّلها. وبينما أشار المنلا إلى أن القانون اللبناني يسمح بعمالة سورية في قطاعات ثلاثة، منها البنى التحتية والبيئة والزراعة، اعتبر أن هذه العمالة «ستكون طبيعية، خاصة أن أكثر من نصف مليون سوري يعملون في البنى التحتية، وهذا أمر ليس غريباً على لبنان، ولا مستحدثاً بسبب النزوح، وذلك نتيجة النقص في العمالة بالبنى التحتية».
الأمر نفسه أشار إليه غازي وزنة، مذكّراً بأن اليد العاملة اللبنانية «غير متوافرة في كثير من المشروعات، كالعمل في الطرقات والسدود والصرف الصحي والبناء». وأوضح أنه لا أرقام دقيقة بخصوص اليد العاملة التي ستستلزمها مشروعات «سيدر»، متحدثاً عما بين 70 و80 فرصة عمل.
أما فيما يخصّها، فقد التزمت الحكومة في بيانها الوزاري، بالتنفيذ السريع والفعال لبرنامج اقتصادي، إصلاحي، استثماري، خدماتي واجتماعي وإنمائي متوازن، يستند إلى الركائز الواردة في رؤية الحكومة اللبنانية السابقة المقدمة إلى مؤتمر «سيدر»، وتوصيات المجلس الاقتصادي الاجتماعي. ووفق البيان، فإن هذا البرنامج هو سلة متكاملة من التشريعات المالية والاستثمارية والقطاعية ومن الإجراءات الإصلاحية التي يرتبط نجاحها بعدم تجزئتها أو تنفيذها انتقائياً، وأن يستكمل بما يقرّ من توصيات دراسة «ماكينزي» الاقتصادية.
أيضاً تم الالتزام بالتسريع في تنفيذ المشاريع التي تيسّر تأمين التمويل لها قبل انعقاد «سيدر»، والتي تقدر قيمتها بــ3.3 مليار دولار أميركي، والشروع في تنفيذ برنامج الإنفاق الاستثماري، كما جاء في مؤتمر «سيدر»، وتقدر قيمته بـ17 مليار دولار أميركي. وسيستثمر هذا المبلغ الأخير على مدى 8 سنوات بعد إقرار المشاريع والأولويات في مجلس الوزراء، ويُلحظ فيه مبلغ 5 مليارات دولار أميركي، من أصل قيمته الإجمالية، ويأتي من القطاع الخاص المحلي والخارجي، ضمن آلية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، على أن تجري مراجعة دورية للبرنامج الاستثماري، بهدف تحديثه وتطويره وفقاً لحاجات الدولة، وأولوياتها، وتأمين التمويل اللازم للاستملاكات.

- شراكة لبنانية - دولية
الحريري وصف مؤتمر «سيدر» بأنه شراكة بين لبنان والمجتمع الدولي، لتأمين استقرار لبنان وتحقيق نمو مستدام وإيجاد فرص عمل للشباب، وشراكة لمواجهة تداعيات أزمة النازحين (اللاجئين) السوريين، ولحماية النموذج اللبناني للسلم الأهلي والعيش المشترك.
هذا، وتعهد البنك الدولي منح لبنان 4 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة لتمويل مشاريع استثمارية، حسب ما أعلنت المديرة التنفيذية للمؤسسة الدولية كريستالينا جورجيفا. ومن جهتها، قررت المملكة العربية السعودية تجديد قرض بقيمة مليار دولار، كانت قدمته للبنان في السابق، من دون استخدامه، بحسب نديم المنلا مستشار رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري. أما بما يخص الدول الأوروبية، فقد منحت فرنسا لبنان 550 مليون يورو من القروض بفوائد مخفضة وهبات لتمويل مشاريع استثمارية. وأعلن السفير الفرنسي لدى بيروت برونو فوشيه أن الاتحاد الأوروبي سيساهم بحجم 150 مليون يورو، وهولندا بـ300 مليون، والمملكة المتحدة بـ130 مليوناً، أما إيطاليا فستقدم 120 مليوناً.

- الكهرباء أولاً
في هذه الأثناء، يرى خبراء اقتصاديون في بيروت أن أهمية «سيدر» تكمن في تبنّيه مشروعات استثمارية يناهز عددها 250 مشروعاً، وفي المبالغ التي رصدها وكيفية توزيعها على قطاعات حيوية، كرصد 5 مليارات دولار لمشاريع النقل والموصلات، و4 مليارات دولار لمشاريع الكهرباء، و5 مليارات دولار لمياه الشرب والري والصرف الصحي، و1.5 مليار دولار للنفايات الصلبة.
ويعتبر هؤلاء الخبراء أن الخطوة الأولى باتجاه انطلاق العمل بمشاريع «سيدر» هي تحقيق إصلاح جذري بقطاع الكهرباء، وهو ما أشار إليه بوضوح البنك الدولي. وتلحظ أي عملية إصلاح - بحسب الدكتور نادر - «ضبط العجز في هذا القطاع» الذي يشكل 30 في المائة من إجمالي العجز العام، وتأمين قوة دفع للاقتصاد من خلال تفعيل استراتيجيات النمو وتخفيض كلفة الإنتاج. أما الدكتور وزنة فيشير إلى «توافق بين القوى السياسية على إعطاء الأولوية لمعالجة أزمة الكهرباء والصرف الصحي»، وإن كانت التحديات تطال المشاريع الأخرى، في ظل خلاف مرتقب على تحديد هذه المشاريع، بحسب الأولوية وتوزيعها مناطقياً.
للعلم، يبلغ عجز الكهرباء في لبنان نحو مليار و800 مليون دولار. ووفقاً للبنك الدولي، فإن الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، بسبب الأزمة السورية كانت 18 مليار دولار حتى عام 2015. وارتفعت نسبة الفقر والبطالة بشكل ملحوظ، وانخفضت الصادرات بمقدار الثلث.
وتعتبر دراسات اقتصادية حديثة أن لبنان بحاجة إلى ترشيد الإنفاق الاستهلاكي، وإلى تحسين الإمكانات التصديرية وضبط نمو الاستيراد الوطني. وفي الوقت ذاته، يحتاج إلى ترشيق حجم القطاع العام، وزيادة الاستثمارات الخاصة والعامة، باعتبار أن الاقتصاد اللبناني اقتصاد استهلاكي، يعتمد بشكل كبير على الإنفاق الاستهلاكي للقطاع الخاص الذي يشكّل نحو 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن حجم القطاع العام يكبر، إذ إن مساهمته الاقتصادية باتت تقارب 26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. كل هذا في الوقت الذي يساهم الإنفاق الاستثماري الخاص بنحو 42 في المائة، بينما صافي التصدير أو العجز التجاري يساهم سلباً بنحو 38 في المائة من الناتج ذاته.
وفق «المركز اللبناني للدراسات»، فإن «سيدر» فشل في تقديم رؤية إنمائيّة ترشّد الاستثمار، معتبراً أن الوثائق الداعمة تخلط بين تنمية البنية التحتيّة وتلزيم المشاريع، وهي تحصر البنية التحتيّة بقائمة من الصفقات الكبيرة، وتمزج بين مفهوم «التنمية الوطنيّة» وبناء فرادى الطرق السريعة، والسدود، ومحطّات تكرير مياه الصرف، ومعامل توليد الطاقة، وشبكات الألياف الضوئيّة، والمطارات، والمرافئ.
وتعتبر إحدى دراسات «المركز» أنه لا يمكن لتنمية البنية التحتيّة أن تقتصر ببساطة على قائمة من فرادى المشاريع الشديدة الاعتماد على رأس المال. ويرى أنه تفادياً لإجراء رحلاتٍ مستقبليّة إلى باريس، يتوجب على الحكومة إعادة هيكلة أولويّات الإنفاق، واعتماد نظام ضريبي أكثر إنصافاً.

- «سيدر وهواجس «حزب الله»
> إذا كانت كل القوى السياسية اللبنانية تجمع على أهمية الأموال التي رصدها مؤتمر «سيدر» للنهوض بالاقتصاد اللبناني، فإن أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، كان قد استبق المؤتمر بالتحذير من أبعاده السياسية والمالية، ورأى فيه «مجرّد إغراق لبنان في الديون، ورهن قراره للخارج».
وتشير مصادر مطلعة على أجواء الحزب إلى أن موقفه لم يتغير بالمطلق، وتذكر هذه المصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن الحزب سيتعاطى مع مشاريع «سيدر» على «القطعة» وليس بالجملة، بحيث يلجأ إلى التدقيق بالملفات قبل إقرارها، بحيث يمكن أن توافق قيادة الحزب على صفقة بـ5 مليارات دولار، «إذا رأت أنها مفيدة، وترفض أي مشروع آخر». وتكشف المصادر أن الحزب أنشأ لجاناً متخصصة تضم 85 خبيراً ومراقباً، مقسمة على 3 خلايا، لمتابعة هذه الملفات، والشأن الاقتصادي كله، علماً بأنه يولى هذا الشأن أهمية قصوى. وتنحصر مهام الخلية الأولى بجمع المعلومات، بينما تقوم الخلية الثانية بالدراسات القانونية اللازمة، وتراقب الخلية الثالثة تقدير الجدوى. وبحسب المصادر، «اتفق على ألا يُعمم جدول أعمال أي جلسة حكومية على الوزراء - من الآن فصاعداً - قبل 24 ساعة، إنما قبل أسبوع على الأقل، ليتسنى للحزب إجراء الدراسات اللازمة لكل ما ورد فيه».
وهنا، يشير الدكتور غازي وزنة إلى أن «أكثر ما يقلق الحزب (كما تقول مصادره) سوء استخدام الأموال، فيتم تفعيل منطق المحاصصة»، إضافة إلى خوفه من أن تترافق المشاريع مع فرض إجراءات ضريبية جديدة، ووصولاً إلى مخاوفه مما يعتبره «خصخصة غير مدروسة»، باعتبار أن «سيدر» يلحظ إشراك القطاع الخاص بما نسبته 40 في المائة من المشاريع. أما الدكتور سامي نادر، فيرى أن أبرز نقاط ضعف «سيدر» أنه يرتب على الدولة ديوناً كان يمكن تفاديها، فيما لو شكلت الدول المانحة صندوقاً مخصّصاً للاستثمار في لبنان، «لكن حسابات داخلية وخارجية مختلفة عرقلت مثل هذا الخيار».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».