ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة

تنفيذ «إصلاحات» المؤتمر الاقتصادي يحسم بين الإنقاذ والانهيار

ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة
TT

ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة

ثمار «سيدر» الموعودة... فرصة لبنان الأخيرة

تحلو للبعض تسمية الحكومة اللبنانية الجديدة - التي أراد لها رئيسها سعد الحريري تسمية «حكومة إلى العمل» - بـ«حكومة سيدر». في إشارة إلى المؤتمر الذي عُقد في العاصمة الفرنسية باريس، في أبريل (نيسان) الماضي، وحصّل خلاله لبنان منحاً وقروضاً ميسرة بقيمة 11.5 مليار دولار أميركي، لإعادة تأهيل بنيته التحتية. ذلك أن القوى السياسية، رغم بعض السجالات الجانبية، ملتزمة على ما يبدو (أقله في المدى المنظور) بالانصراف إلى تعبيد الطريق أمام عشرات المشروعات التي يفترض أن تبصر النور خلال السنوات القليلة المقبلة لانتشال الاقتصاد اللبناني من الأزمة الكبيرة التي يرزح تحتها، ما أدى إلى شح في السيولة، وخاصة بالعملات الأجنبية. ويتعاطى الحريري مع «سيدر» على أنه بداية لعملية تحديث الاقتصاد اللبناني، وإعادة تأهيل البنية التحتية، إضافة إلى إطلاق إمكانات القطاع الخاص، وصولاً إلى تحقيق النمو المستدام.

تكفّل البنك الدولي بتأمين ثلث المبلغ، الذي وعد به المانحون خلال مؤتمر «سيدر»، الذي استضافته العاصمة الفرنسية باريس أخيراً لدعم لبنان، ووعد بمنح وقروض قيمتها 11.5 مليار دولار، بينما تكفلت دول الاتحاد الأوروبي بثلث آخر. أما الثلث الباقي فتعهدت بتأمينه الدول العربية وصناديقها التنموية. ولا تخرج نتائج «سيدر» بأي هبات، بل هي قروض ميسرة بفائدة لا تتعدى الواحد والنصف في المائة، مع فترات سماح تتراوح بين 7 و10 سنوات، وآجال تتعدى 25 سنة.
ولقد بدأت عملياً الاستعدادات للاستفادة من مبالغ «سيدر» ومشاريعه، مع زيارة المبعوث الفرنسي بيار دوكين، المكلف مواكبة تنفيذ مقررات المؤتمر إلى بيروت، أخيراً، حاملاً «رزمة» نصائح للمسؤولين اللبنانيين، مرتبطة بشكل أساسي بوجوب إقرار خطة للإصلاحات في القطاعات المتفق عليها كي تكون الصورة واضحة عند المستثمرين لكسب ثقتهم. وقال دوكين، في اختتام زيارته، إنه استخلص أن لبنان مستعد للبدء بالإصلاحات والاستثمارات.

- انطلاق ورشة الإصلاحات
أطلقت الدولة اللبنانية خلال الأشهر الماضية ورشة لتنفيذ إصلاحات إدارية ومالية، كان مؤتمر «سيدر» قد اشترط تنفيذها، وبدأت بقرارين وجّههما الرئيس الحريري إلى الوزارات والإدارات، دعاها فيهما إلى ترشيد الإنفاق وضبط الهدر، وصولاً إلى إجراءات تأديبية باشرت المؤسّسات القضائية والرقابية اتخاذها. وترافق ذلك مع وضع لجنة المال والموازنة النيابية ملف التوظيفات العشوائية التي حصلت خلال العام الماضي على الطاولة لمحاسبة المرتكبين، بالتزامن مع عمل رئيس المجلس النيابي نبيه برّي على تسريع عملية تشكيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
ولعل أبرز الاجتماعات التي عقدها الحريري قبل اجتماعه بدوكين، للبحث في الخطوات اللازمة للإسراع في تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر»، كان اجتماعه بمدير مكتب البنك الدولي لدول المشرق ساروج كومار جا، وممثلين عن المؤسسات المالية العربية والأوروبية والدولية المانحة. ونوقشت أولوية المشاريع التي يتضمّنها «سيدر»، والتأكيد لأول مرة بعد تشكيل الحكومة بعد 9 أشهر من التعطيل، على دعم كل المؤسسات من جديد للبنان، لتطبيق هذا البرنامج. وجزم البنك الدولي بأن التعهدات المالية التي التزم بها في باريس العام الماضي لا تزال قائمة، معرباً عن تطلعه إلى العمل مع حكومة لبنان، للمساعدة في تطبيق المشاريع ذات الأولوية في مختلف القطاعات.
ويبدو أن التوجّه هو لتشكيل لجنة تقنية، مقرها بيروت، تعقد اجتماعات دائمة كل شهر أو خلال شهرين، وترفع تقاريرها إلى هيئة دولية عليا، مقرها باريس، تتولّى تقويم ما نُفّذ، وأحياناً تتولى إدخال تعديلات على الاستراتيجية الموضوعة لضمان حسن تنفيذ المشروعات التي اتفق عليها في «سيدر». وتحدثت مصادر «الشرق الأوسط» في وقت سابق عن اتفاق بين دوكين والحريري على أن تجتمع الهيئة العليا في باريس على مستوى وزراء، أو على مستوى رئيس الوزراء، بحضور ممثلين عن الدول والمؤسسات المالية المانحة، على أن تكون اجتماعاتها سنوية، مع إمكانية أن تلتئم بصورة استثنائية إذا دعت الحاجة.
ووفق الدكتور نديم المنلا، مستشار رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية، فإن التركيز الأساسي في المرحلة الراهنة هو على المواءمة بين المشاريع والتمويل، أي التأكد من أنه لن تحظى بعض القطاعات بتمويل كبير، في حين تبقى قطاعات أخرى من دون تمويل، إضافة إلى ضمان عملية الإسراع في إقرار وتنفيذ المشاريع، بحيث لا تتجاوز الفترة ما بين تحديد المشروع والبدء بالصرف عليه ما بين 12 إلى 15 شهراً.
ومن جهته، يعتبر الخبير المالي والاقتصادي الدكتور غازي وزنة أن المهلة التي حدّدها المنلا «منطقية جداً، فكل مشروع قبل انطلاق تنفيذه يحتاج إلى دراسة لتحديد الجدوى الاقتصادية والمالية منه، على أن ننتقل بعدها لعملية الموافقة عليه من قبل الحكومة، قبل إحالته إلى المجلس النيابي، وصولاً لعرضه على المجتمع الدولي للسير به واختيار الشركات المناسبة لتنفيذه، وهذا مسار طويل يحتاج للوقت». ويشير وزنة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن قدرة الاقتصاد اللبناني أصلاً لا تتخطى المليار أو المليار ونصف المليار من المشاريع الاستثمارية سنوياً، علماً بأن كل مشروع يحتاج 3 أو 4 سنوات للتنفيذ.

- ثلاث مراحل
قُسمت الحصيلة المرتقبة لمؤتمر «سيدر» على 3 مراحل؛ الأولى من 5 سنوات، ورصد نحو 11 مليار دولار لها لتنفيذ 106 مشاريع، علماً بأن 30 في المائة من المبلغ هو من القروض و7 في المائة فقط من الهبات. والثانية رصد لها نحو 6.5 مليار دولار. والثالثة رصدت لها الحكومة اللبنانية نحو 5.8 مليار دولار، ليكون مجموع المبلغ الذي طلبته الحكومة نحو 23 مليار دولار، على أن يتراوح موعد التنفيذ بين 12 و15 سنة.
هذا، وقدّم لبنان خلال مؤتمر «سيدر» رؤية شاملة من أجل الاستقرار والنمو وفرص العمل. وتقوم هذه الرؤية على 4 ركائز متكاملة...
أولاً - برنامج إنفاق استثماري بالبنى التحتية، يتضمّن 250 مشروعاً، بكلفة 23 مليار دولار، مقسّم على 12 عاماً، وينفّذ على 3 مراحل.
ثانياً - إصلاح مالي، بمعدل واحد في المائة سنوياً.
ثالثاً - إصلاحات هيكلية لتحديث الإدارة ومكافحة الفساد وتحديث التشريعات لعمل القطاع الخاص، وإصلاحات قطاعية لتحقيق الفائدة القصوى من الاستثمارات بالقطاعات.
ورابعاً - استراتيجية لتطوير القطاعات الإنتاجية وزيادة حجم الصادرات.
وبحسب الرئيس الحريري، فإن الـ11.5 مليار دولار، التي تم الالتزام بها في مؤتمر باريس، تغطي الحاجات التمويلية للمرحلة الأولى من برنامج الإنفاق الاستثماري، وأكثر قليلاً. ولفت إلى أن المجال ما زال مفتوحاً لمساهمة دول جديدة كالصين واليابان وكوريا الجنوبية، موضحاً أنه يتابع اتصالاته في هذا المجال.

- الفرصة الأخيرة
وفي حين يعتبر خبراء اقتصاديون أن مؤتمر «سيدر» يشكل «خشبة الخلاص» للبنان، يفضّل الدكتور سامي نادر مدير «معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية» القول إن ما أقرّه المؤتمر «يشكل الفرصة شبه الأخيرة للبلد لانعدام البدائل، خاصة أنه ضخ سيولة في الاقتصاد اللبناني، الذي يعاني من ضغط في السيولة، إن لم نقل من شح، وخاصة في العملات الأجنبية». ويوضح نادر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أنه منذ العام 2011، تاريخ اندلاع الأزمة في سوريا، يمكن الحديث عن «توأمة في العجزين»، أي عجز ميزان المدفوعات وعجز الخزينة، الذي يفاقم العجز الأول، شارحاً أنه في السنوات الـ4 الماضية تفاقم العجز بـ20 مليار دولار، في وقت لم يكبر اقتصادنا إلا بنحو 4 مليارات دولار. ويستخلص: «نحن بحاجة إلى نفقات استثمارية لتكبير الاقتصاد».
من ناحية ثانية، عقدت الجهات اللبنانية المعنية منذ أبريل الماضي اجتماعات ثنائية عدة مع البنك الدولي والبنك الأوروبي ومع كل المؤسسات، جرى خلالها الاتفاق على عدد من المشاريع، على أن تأخذ طريقها إلى مجلسي الوزراء والنواب. ويؤكد المنلا، مستشار الحريري، أنه «لا شروط فرضتها الدول والمؤسسات المقرضة»، رغم الحديث عن ربط تنفيذ المشاريع بإقرار الإصلاحات اللازمة، وعن أن المؤتمر ألزم النازحين (أي اللاجئين) السوريين العمل في المشاريع التي يموّلها. وبينما أشار المنلا إلى أن القانون اللبناني يسمح بعمالة سورية في قطاعات ثلاثة، منها البنى التحتية والبيئة والزراعة، اعتبر أن هذه العمالة «ستكون طبيعية، خاصة أن أكثر من نصف مليون سوري يعملون في البنى التحتية، وهذا أمر ليس غريباً على لبنان، ولا مستحدثاً بسبب النزوح، وذلك نتيجة النقص في العمالة بالبنى التحتية».
الأمر نفسه أشار إليه غازي وزنة، مذكّراً بأن اليد العاملة اللبنانية «غير متوافرة في كثير من المشروعات، كالعمل في الطرقات والسدود والصرف الصحي والبناء». وأوضح أنه لا أرقام دقيقة بخصوص اليد العاملة التي ستستلزمها مشروعات «سيدر»، متحدثاً عما بين 70 و80 فرصة عمل.
أما فيما يخصّها، فقد التزمت الحكومة في بيانها الوزاري، بالتنفيذ السريع والفعال لبرنامج اقتصادي، إصلاحي، استثماري، خدماتي واجتماعي وإنمائي متوازن، يستند إلى الركائز الواردة في رؤية الحكومة اللبنانية السابقة المقدمة إلى مؤتمر «سيدر»، وتوصيات المجلس الاقتصادي الاجتماعي. ووفق البيان، فإن هذا البرنامج هو سلة متكاملة من التشريعات المالية والاستثمارية والقطاعية ومن الإجراءات الإصلاحية التي يرتبط نجاحها بعدم تجزئتها أو تنفيذها انتقائياً، وأن يستكمل بما يقرّ من توصيات دراسة «ماكينزي» الاقتصادية.
أيضاً تم الالتزام بالتسريع في تنفيذ المشاريع التي تيسّر تأمين التمويل لها قبل انعقاد «سيدر»، والتي تقدر قيمتها بــ3.3 مليار دولار أميركي، والشروع في تنفيذ برنامج الإنفاق الاستثماري، كما جاء في مؤتمر «سيدر»، وتقدر قيمته بـ17 مليار دولار أميركي. وسيستثمر هذا المبلغ الأخير على مدى 8 سنوات بعد إقرار المشاريع والأولويات في مجلس الوزراء، ويُلحظ فيه مبلغ 5 مليارات دولار أميركي، من أصل قيمته الإجمالية، ويأتي من القطاع الخاص المحلي والخارجي، ضمن آلية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، على أن تجري مراجعة دورية للبرنامج الاستثماري، بهدف تحديثه وتطويره وفقاً لحاجات الدولة، وأولوياتها، وتأمين التمويل اللازم للاستملاكات.

- شراكة لبنانية - دولية
الحريري وصف مؤتمر «سيدر» بأنه شراكة بين لبنان والمجتمع الدولي، لتأمين استقرار لبنان وتحقيق نمو مستدام وإيجاد فرص عمل للشباب، وشراكة لمواجهة تداعيات أزمة النازحين (اللاجئين) السوريين، ولحماية النموذج اللبناني للسلم الأهلي والعيش المشترك.
هذا، وتعهد البنك الدولي منح لبنان 4 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة لتمويل مشاريع استثمارية، حسب ما أعلنت المديرة التنفيذية للمؤسسة الدولية كريستالينا جورجيفا. ومن جهتها، قررت المملكة العربية السعودية تجديد قرض بقيمة مليار دولار، كانت قدمته للبنان في السابق، من دون استخدامه، بحسب نديم المنلا مستشار رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري. أما بما يخص الدول الأوروبية، فقد منحت فرنسا لبنان 550 مليون يورو من القروض بفوائد مخفضة وهبات لتمويل مشاريع استثمارية. وأعلن السفير الفرنسي لدى بيروت برونو فوشيه أن الاتحاد الأوروبي سيساهم بحجم 150 مليون يورو، وهولندا بـ300 مليون، والمملكة المتحدة بـ130 مليوناً، أما إيطاليا فستقدم 120 مليوناً.

- الكهرباء أولاً
في هذه الأثناء، يرى خبراء اقتصاديون في بيروت أن أهمية «سيدر» تكمن في تبنّيه مشروعات استثمارية يناهز عددها 250 مشروعاً، وفي المبالغ التي رصدها وكيفية توزيعها على قطاعات حيوية، كرصد 5 مليارات دولار لمشاريع النقل والموصلات، و4 مليارات دولار لمشاريع الكهرباء، و5 مليارات دولار لمياه الشرب والري والصرف الصحي، و1.5 مليار دولار للنفايات الصلبة.
ويعتبر هؤلاء الخبراء أن الخطوة الأولى باتجاه انطلاق العمل بمشاريع «سيدر» هي تحقيق إصلاح جذري بقطاع الكهرباء، وهو ما أشار إليه بوضوح البنك الدولي. وتلحظ أي عملية إصلاح - بحسب الدكتور نادر - «ضبط العجز في هذا القطاع» الذي يشكل 30 في المائة من إجمالي العجز العام، وتأمين قوة دفع للاقتصاد من خلال تفعيل استراتيجيات النمو وتخفيض كلفة الإنتاج. أما الدكتور وزنة فيشير إلى «توافق بين القوى السياسية على إعطاء الأولوية لمعالجة أزمة الكهرباء والصرف الصحي»، وإن كانت التحديات تطال المشاريع الأخرى، في ظل خلاف مرتقب على تحديد هذه المشاريع، بحسب الأولوية وتوزيعها مناطقياً.
للعلم، يبلغ عجز الكهرباء في لبنان نحو مليار و800 مليون دولار. ووفقاً للبنك الدولي، فإن الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، بسبب الأزمة السورية كانت 18 مليار دولار حتى عام 2015. وارتفعت نسبة الفقر والبطالة بشكل ملحوظ، وانخفضت الصادرات بمقدار الثلث.
وتعتبر دراسات اقتصادية حديثة أن لبنان بحاجة إلى ترشيد الإنفاق الاستهلاكي، وإلى تحسين الإمكانات التصديرية وضبط نمو الاستيراد الوطني. وفي الوقت ذاته، يحتاج إلى ترشيق حجم القطاع العام، وزيادة الاستثمارات الخاصة والعامة، باعتبار أن الاقتصاد اللبناني اقتصاد استهلاكي، يعتمد بشكل كبير على الإنفاق الاستهلاكي للقطاع الخاص الذي يشكّل نحو 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن حجم القطاع العام يكبر، إذ إن مساهمته الاقتصادية باتت تقارب 26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. كل هذا في الوقت الذي يساهم الإنفاق الاستثماري الخاص بنحو 42 في المائة، بينما صافي التصدير أو العجز التجاري يساهم سلباً بنحو 38 في المائة من الناتج ذاته.
وفق «المركز اللبناني للدراسات»، فإن «سيدر» فشل في تقديم رؤية إنمائيّة ترشّد الاستثمار، معتبراً أن الوثائق الداعمة تخلط بين تنمية البنية التحتيّة وتلزيم المشاريع، وهي تحصر البنية التحتيّة بقائمة من الصفقات الكبيرة، وتمزج بين مفهوم «التنمية الوطنيّة» وبناء فرادى الطرق السريعة، والسدود، ومحطّات تكرير مياه الصرف، ومعامل توليد الطاقة، وشبكات الألياف الضوئيّة، والمطارات، والمرافئ.
وتعتبر إحدى دراسات «المركز» أنه لا يمكن لتنمية البنية التحتيّة أن تقتصر ببساطة على قائمة من فرادى المشاريع الشديدة الاعتماد على رأس المال. ويرى أنه تفادياً لإجراء رحلاتٍ مستقبليّة إلى باريس، يتوجب على الحكومة إعادة هيكلة أولويّات الإنفاق، واعتماد نظام ضريبي أكثر إنصافاً.

- «سيدر وهواجس «حزب الله»
> إذا كانت كل القوى السياسية اللبنانية تجمع على أهمية الأموال التي رصدها مؤتمر «سيدر» للنهوض بالاقتصاد اللبناني، فإن أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، كان قد استبق المؤتمر بالتحذير من أبعاده السياسية والمالية، ورأى فيه «مجرّد إغراق لبنان في الديون، ورهن قراره للخارج».
وتشير مصادر مطلعة على أجواء الحزب إلى أن موقفه لم يتغير بالمطلق، وتذكر هذه المصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن الحزب سيتعاطى مع مشاريع «سيدر» على «القطعة» وليس بالجملة، بحيث يلجأ إلى التدقيق بالملفات قبل إقرارها، بحيث يمكن أن توافق قيادة الحزب على صفقة بـ5 مليارات دولار، «إذا رأت أنها مفيدة، وترفض أي مشروع آخر». وتكشف المصادر أن الحزب أنشأ لجاناً متخصصة تضم 85 خبيراً ومراقباً، مقسمة على 3 خلايا، لمتابعة هذه الملفات، والشأن الاقتصادي كله، علماً بأنه يولى هذا الشأن أهمية قصوى. وتنحصر مهام الخلية الأولى بجمع المعلومات، بينما تقوم الخلية الثانية بالدراسات القانونية اللازمة، وتراقب الخلية الثالثة تقدير الجدوى. وبحسب المصادر، «اتفق على ألا يُعمم جدول أعمال أي جلسة حكومية على الوزراء - من الآن فصاعداً - قبل 24 ساعة، إنما قبل أسبوع على الأقل، ليتسنى للحزب إجراء الدراسات اللازمة لكل ما ورد فيه».
وهنا، يشير الدكتور غازي وزنة إلى أن «أكثر ما يقلق الحزب (كما تقول مصادره) سوء استخدام الأموال، فيتم تفعيل منطق المحاصصة»، إضافة إلى خوفه من أن تترافق المشاريع مع فرض إجراءات ضريبية جديدة، ووصولاً إلى مخاوفه مما يعتبره «خصخصة غير مدروسة»، باعتبار أن «سيدر» يلحظ إشراك القطاع الخاص بما نسبته 40 في المائة من المشاريع. أما الدكتور سامي نادر، فيرى أن أبرز نقاط ضعف «سيدر» أنه يرتب على الدولة ديوناً كان يمكن تفاديها، فيما لو شكلت الدول المانحة صندوقاً مخصّصاً للاستثمار في لبنان، «لكن حسابات داخلية وخارجية مختلفة عرقلت مثل هذا الخيار».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.