«حرية الإبداع» العربي في ندوة أصيلة

فنانون ونقاد يرصدون تحولات الفن التشكيلي المعاصر في ظل الأوضاع السياسية

جانب من ندوة «الفن التشكيلي العربي المعاصر الرهانات والتحديات»
جانب من ندوة «الفن التشكيلي العربي المعاصر الرهانات والتحديات»
TT

«حرية الإبداع» العربي في ندوة أصيلة

جانب من ندوة «الفن التشكيلي العربي المعاصر الرهانات والتحديات»
جانب من ندوة «الفن التشكيلي العربي المعاصر الرهانات والتحديات»

سلط ثلة من الفنانين والنقاد الضوء على موضوع «الفن التشكيلي العربي المعاصر والرهانات والتحديات» في ظل التطورات التي أفرزتها التحولات التاريخية والفنية التي عاشها العالم العربي في العقدين الأخيرين، وذلك ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته السادسة والثلاثين.
ورصد المشاركون في الندوة هموم حرية الإبداع من خلال تقديم نماذج من مختلف الدول العربية حسب الانتماء الجغرافي لكل مشارك، وناقشوا المشكلات التي يواجهها المبدع العربي في ظل الأوضاع السياسية المضطربة في المنطقة العربية.
محمد بن عيسى، الأمين العالم لمؤسسة أصيلة، استهل الندوة بتقديمه أسباب اختيار موضوع الفن التشكيلي العربي المعاصر، والذي عد أنه يعرض للنقاش ضمن ندوات موسم أصيلة من زاوية مختلفة عما هو معهود، إذ إنه جاء مصاحبا للظرف الكارثي الذي تعيشه مجموعة من الدول العربية، وبالتالي يعيشه الفنان والمبدع العربي سواء في فن التشكيل أو الشعر أو الآداب أو المسرح أو السينما وغيرها من الفنون، ذلك أن الفنان، حسب بن عيسى، هو الذي يحمل ثقل التوثيق الإبداعي للمجتمع وله تأثير على المؤسسات التعليمية وتوجهات المدارس المختلفة.
وأكد بن عيسى أن الفن والإبداع هما جزء من التوقعات، فالعالم يعرف تغييرات وتطورات ثورية في مجال التشكيل في حين يبقى مصير مستقبل المبدع العربي عالقا بالمآسي التي تعيشها بلاده.
وفي سياق ذلك، قدم إبراهيم العلوي وهو مؤرخ للفن ومدير غاليري آرتموس بباريس، لمحة عن تاريخ الفن العربي المعاصر من خلال أول مدرسة للفن التشكيلي أقيمت في مصر عام 1908، والتي أنجبت الجيل الأول من الفنانين التشكيليين المصريين ثم العرب، ومن خلالها استعان بنماذج من الفنانين التشكيليين الرواد في تلك الفترة، وعد أن هذا النموذج لم يجر تسجيله في تاريخ الفن المحلي لوضع تأويل في الوقائع الفنية. كما دعا إلى ضرورة إعادة مراجعة كتابة الفن الحديث.
من جهتها، تحدثت الناقدة اللبنانية مها عزيزة سلطان عن موجات الأصول الإسلامية المتطرفة المضادة للفن والتاريخ، مشيرة إلى أن المبدع أصبح يواجه معضلة التصدي لغياب خطاب ديمقراطي، وقالت إن كل المواضيع المطروحة للنقاش تتهاوى أمام الواقع العربي المتأزم الذي تكتسحه موجات القتل والتدمير والنزوح والتطهير العرقي والموجات الأصولية، موضحة أن الإبداع يواجه معضلة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة والأحداث اليومية التي «تمزقنا وتضعنا في حجم جديد مستمر لكياننا وحريتنا في التعبير والنقد». وقدمت سلطان نماذج لفنانين تشكيليين عرب لقوا حتفهم في البحث عن الحرية في إبداعاتهم في ظل الرقابة والأوضاع السياسية القاسية وظروفهم الصعبة. وفي السياق نفسه، قال محمد الخزاعي وهو ناقد فني بحريني، إنه لا تكاد حضارة تخلو من الفن التشكيلي والنحت «والتي خلفت لنا ما لا يحصى من التماثيل التي تثير الدهشة، إذ كان يبدو جليا ارتباط الأعمال التشكيلية بالديانات القديمة وفي دور العبادة من خلال الكنائس التي برز من خلالها فنانون تشكيليون كبار من خلال نحت ورسم لوحات مستوحاة من الكتاب المقدس، إذ إن الفن انتشر وازدهر في أوروبا من خلال نحت الفنانين لشخصيات الأباطرة والمشاهير آنذاك تخليدا لهم وهو ما أظهر براعة وإبداع الفنانين الأوروبيين».
وتحدث الخزاعي عن البحرين كنموذج للفن التشكيلي في العالم العربي من خلال منحوتاتها القديمة، وقدم لمحة عن فن النحت في العالم العربي قبل وبعد ظهور الإسلام إذ إن عصر الجاهلية عرف تقدما كبيرا في مجال فن النحت من خلال التداول الكبير حينها للأصنام والتماثيل، لكن هذا الفن اختفى بعد ظهور الإسلام واختفت معه أحد الأصناف التشكيلية، إلا أن البلاد الإسلامية حسب الخزاعي توجهت للأشكال الزخرفية التي وجدت فيها ضالتها وكذا الفنون المعمارية خصوصا في المساجد والقصور من خلال الزخارف وكتابة الآيات حيث أصبح من خلالها الخط العربي أداة من أدوات التشكيل.
وفي مداخلتها، ركزت رشيدة التريكي، ناقدة فنية وباحثة في الفلسفة بتونس على التمييز بين الحداثة والمعاصرة في الفن التشكيلي الذي وصل حسب قولها إلى مرحلة تصنيف لمفهوم نظري، ومن بين ملامحه قدرته النقدية، مؤكدة أن الفن يلعب دورا محوريا في قياس الأوضاع في العالم العربي وهو عبارة عن بصيص أمل في هذا العالم.
وترى التريكي أن الإبداع هو عبارة عن إخراج شيء غير مرئي للوجود وهو شيء محدد وفردي، وهو تجربة تنتقل إلى المتلقي ويمكن أن تتحول إلى نشاط فعالي ثقافي سياسي وجمالي.
وأضافت أن حرية الإبداع تتعلق بالسياق السياسي والاجتماعي والثقافي والبيئي الذي يولد فيها وهو ما يمكن المبدع من ممارسة إبداعه، إذ لا يقتصر الأمر على إعطاء الضوء الأخضر لممارسة الفن ومحاربة الرقابة بل يتعلق بخلق مؤسسات تعليمية وتربوية توفر الفضاء المشجع للإبداع من معارض ومنتديات للمبدعين والعمل على نشر أعمال الفنانين وذلك عن طريق أجندة سياسية وثقافية ليتمكن الفنان التشكيلي من البقاء على قيد الحياة.
وتحدثت التريكي عن وضع الفنانين العرب في ظل الأزمات التي تعرفها الكثير من الدول العربية وأولها تونس، وتبعيات ذلك على الفنانين العرب وعلى المشهد الفني ككل، والذي تعرض، حسب قولها، لاضطرابات أبدى الفنانون خلالها حماسا لممارسة الفن المعاصر دون رقابة أو منع لممارسة الإبداع حيث سقطت جميع الحواجز القمعية وعاشت تونس فترة من الضوء كان يبدو فيها كل شيء ممكن.
وقدم فاروق يوسف وهو ناقد فني عراقي بعض النماذج من العالم العربي مثل سوريا والعراق التي عرفت كما هائلا من الإنتاجات الفنية والإنفاق الهائل من طرف المؤسسات على الفن التشكيلي، لكنه عد أن ذلك الإنفاق كان يسير في الطريق الخطأ لأنه كان يحول الفنان إلى راع لدى المؤسسة ويحرمه بذلك من مواطنته.
وقال يوسف إن زمن الرعاية مزق النسيج الفني لكل التجارب الثقافية وفقط الفردية منها أصبح من السهل اختراقها. وأردف أن مجال الفنون عرف بعد ذلك في هذه الدول تحولا من نظام المؤسسة الراعية إلى نظام الوصاية الأجنبية من خلال أسواق الفن التي صارت بديلا للحياة الفنية الطبيعية وأسست لحياة فنية مصطنعة عبر مديري المزادات والمعارض والقاعات الفنية، وصنعوا بذلك حياة فنية ليست للفنانين على حد قوله.
وركز يوسف على الأسواق الفنية التي عد أنها لا تحتاج إلى النقد الذي أصبح بدوره مهنة فائضة، وقال إن مديري المعارض والمزادات بحاجة لمروجين مثل الصحافة لتلعب دور الوسيط مع الفئة الغنية التي تقتني الفن، حيث أصبح الفنان يعمل لتنفيذ مزاج وإرادة وذوق وفكر صاحب القاعة الذي أصبح يفرض على الفنان طرقا معينة للرسم تتماشى مع ما يتطلبه السوق. وأشار خالد خريس المدير العام للجمعية الملكية الأردنية للفنون التشكيلية إلى أهمية تنمية المجتمعات العربية ونشر الوعي لأن الوطن العربي بحاجة ماسة للوعي بدءا من وزارة التربية والتعليم مرورا بباقي المؤسسات، واتخذ خالد من المتحف الأردني للفنون الجميلة نموذجا للمؤسسات التي تعنى بدعم الفن العربي المعاصر من خلال إقامة معارض داخل وخارج الدول العربية، ومن خلال جمع مقتنيات من فنانين في مختلف الدول العربية وفي مختلف الفنون التشكيلية، وكذلك إنشاء متاحف متنقلة للقرى ومخيمات اللاجئين وإنشاء ورشات العمل. واختارت نادرة أكلوش وهي ناقدة فنية وأستاذة محاضرة في المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر التحدث عن وجهة نظر أوروبا للفن العربي من خلال أسواق الفنون في الخليج التي تعد طريقا للفنانين لاكتساب الشهرة في الغرب، مشيرة إلى أن جل الفنانين الذين استطاعوا أن يثبتوا أنفسهم في هذه السوق يعيشون بالمهجر ويمررون رسالة الفن العربي من المهجر.
وأوضحت أن المديرين وأصحاب الصالونات في الخليج في الغالب أوروبيون وهم من يختارون الفنانين المشاركين حسب توجهاتهم، وبالتالي لا يوجد شيء محايد أو بريء في هذه العملية، وأضافت أنه دائما ما نجد علامة على لوحات الفنانين العرب تشير للإسلام أو البلدان الإسلامية والعربية وهي تعد كلاصقة أو علامة للفنانين العرب، وتساءلت عن سبب الامتناع عن استعمال قيم جمالية أخرى.
من جهة ثانية، قالت إن الفنانين الغربيين مستعدون للطعن في الأمور الممنوعة لكنهم عندما يدخلون السوق الخليجية يفرضون على أنفسهم نفس القيود للدخول للسوق وبذلك يفقد العمل رؤيته النقدية ويصبح أمرا فاخرا للمقتنين الأغنياء وبين هذه الأشياء فإن الأخطر هو تصدير الأعمال من أوروبا إلى الخليج لاكتساب الشرعية الفنية.
وأكدت أكلوش على ضرورة أن نتقن كتابة تاريخ الفنون وأن نتفق على صيغة لكتابة تاريخ الفن العربي المعاصر باستعمال النقد الفني والبحث في الماضي والحاضر والمستقبل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)