الكبيسي.. الشيخ المشاكس

تصريحاته النارية جعلته في مهب الريح.. والعشرات يطالبون بطرده من الإمارات

الكبيسي.. الشيخ المشاكس
TT

الكبيسي.. الشيخ المشاكس

الكبيسي.. الشيخ المشاكس

بعد عامين من الضجة التي أثارها بانتقاده لبعض الصحابة (رضي الله عنهم)، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وما تبعه من تعليق لبرنامجه التلفزيوني «وأخر متشابهات» الذي يبث من دبي، عاد رجل الدين العراقي السني أحمد الكبيسي، وهو من أقطاب أهل السنة والجماعة، لإثارة الجدل مجددا، عبر مقابلة تلفزيونية زعم فيها أن مؤسس المدرسة السلفية الحديثة، العالم محمد بن عبد الوهاب «إيراني فارسي».
والكبيسي طلق اللسان، يوصف أحيانا بـ«المدفع الرشاش»، أو كما يقول هو في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأنه «لا يخاف في الله لومة لائم». يهاجم بحدة ولا يرحم، رذاذه يصيب ويصدم. مشاكس من الدرجة الأولى، وعذره دوما أن العالم بأمور الدين وحافظ القرآن سيقفان يوما أمام المولى عز وجل ليحاسبهما عن السكوت عن قول الحق.
لا يهتم كثيرا عندما يصوب مدفعيته حتى لمن باتوا تحت التراب.. يقول «التشيع المزيف مزق الأمة.. أما الأئمة الأربعة الكبار فكانوا على الحق»، ثم وجه سهامه إلى أهل السلف الصالح، الذين زعم أنهم يقصرون الجلباب ويطيلون اللحى، ويكفرون بقية المسلمين»، وقال «مهاجمة هؤلاء مش بإيدي.. أنا مش بتاع مشاكل.. ولكن يجب أن يعلم جميع العلماء وطلاب العلم أنهم سيقفون بين يدي الله فيسألهم لِمَ لم تقل الحق، وقد عرفته؟».
تعود الكبيسي طوال حياته على الصدامات، ففي العهد الملكي هاجم حلف بغداد، فحبسوه. ثم في العهد الشيوعي في العراق تكرر الأمر بمهاجمتهم فحبسوه مرة أخرى، ثم مرة ثالثة ذاق طعم الحبس في عهد البعثيين. ثم هاجم السلف وغيرهم. يقول «أشعر بأنهم يريدون قتلي». وينفي أن تكون مشاكسته للآخرين ستقلل من شعبيته التلفزيونية، ويقول «هذا آخر شيء أهتم به أو أتطلع إليه، وبيني وبين الله عمار، ويا ليت الذي بيني وبينك يا ربي عامر، وبيني وبين العالمين خراب».
أثار ضجة كبرى بعد وصفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه فارسي و«صناعة يهودية». وقال الكبيسي لـ«الشرق الأوسط»: «الحمد لله نالني من النقد الكثير من أعمدة الدولة في الإمارات التي أعيش فيها.. وأحمد الله أنني عربي أعيش في الإمارات من جهة نعمة التسامح بين أهلها».
وعن تغريدات ضاحي خلفان، قائد شرطة دبي السابق، وشنه هجوما حادا عليه، يقول الكبيسي «شيء جيد، لأنه برأ الدولة مما قلت، وحملني هكذا المسؤولية عما قلت». وكان خلفان غرد عبر «تويتر» قائلا «الشيخ أحمد الكبيسي أساء إلينا كإماراتيين قبل أن يسيء إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب».
وبالنسبة لدعوة الشيخ سعود الشريم، إمام الحرم المكي، للكبيسي لـ«الاستتابة»، قال الكبيسي «ركعتا التوبة إلى الله مش مشكلة». وعلق الشيخ سعود بن شريم، عبر حسابه في «تويتر»، على حديث الكبيسي قائلا «ضاقوا ذرعا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لموافقتها منهج السلف، فزعموا أنه صناعة يهودية، وهذا ديدن أعداء الحق». وأضاف «قالوا أساطير الأولين اكتتبها».
وتوالت الردود الغاضبة، وطالب إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ، الكبيسي، بسرعة التوبة إلى الله، والرجوع إلى الحق، ومعالجة ما تفوه به من باطل وزور في حق الدعوة السلفية النقية.
وقال إمام الحرم النبوي في بيانه «لقد ساءت كل مسلم تلك الكلمات المعبرة عن الجهل والتخبط في طمس الحقائق. إنها كلمات من يسمى بالكبيسي، حينما وصف الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بأنه صنيعة يهودية. إن هذا كلام باطل ووصف مغرق في بحار الجهل بالحقائق التي يعرفها أعداء الإسلام قبل أهله، فهذا الإمام قامت دعوته على الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وعلى منهج فهم الصحابة (رضي الله عنهم)، وعلى مقتضى ما رسمه أئمة الإسلام من التابعين ومن يتبعهم، فقامت مدرسته على تعظيم نصوص الوحيين، والدعوة لأصل التوحيد الخالص الذي عليه مدار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وصنعت دعوته جيلا يمارس نقاء الإسلام ويسره وسماحته وعلو مقاصده وسمو أهدافه».
وتنوعت ردود فعل المتابعين عبر «تويتر» بين الدعوة إلى وقف برامج الكبيسي والمطالبة بطرده من دولة الإمارات، إلى جانب التذكير بما سبق له أن أدلى به تجاه الصحابة، ومن بينهم معاوية ابن أبي سفيان.
بينما انتصر مغردون إماراتيون وخليجيون للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مطالبين بطرد الكبيسي بعد انتقاداته لمؤسس السلفية الحديثة، وتفاعل المغردون مع هاشتاغ «اطردوا الكبيسي» من الإمارات على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر».
وعلى الرغم من المواقف التي تبدو متناقضة هنا وهناك للداعية الكبيسي فإنه بقي يحتفظ بمسافة مقبولة على صعيد الانتماء المذهبي والموقف الفكري. فالكبيسي الذي ينتمي إلى محافظة الأنبار (غرب العراق) وإلى مدينة كبيسة، التي ولد فيها عام 1934، بدأ حياته الفكرية كداعية إسلامي بعد إكمال دراسته الأكاديمية بما في ذلك الماجستير والدكتوراه في العلوم الإسلامية. وكان أول ظهور له في برنامج تلفزيوني على الفضائية العراقية (وهي غير التلفزيون الحكومي الرسمي) أواخر تسعينات القرن الماضي حتى خروجه من العراق بعد عام 2000.
وطبقا لمصدر مقرب منه طلب عدم الكشف عن اسمه في حديث لـ«الشرق الأوسط» قال إن «البرنامج الذي كان يظهر فيه الشيخ الكبيسي شارحا ومفسرا ومؤولا للآيات القرآنية قد أثار إعجاب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي كان التقى الكبيسي وعرض عليه منصب وزير الأوقاف لكنه اعتذر».
ويمضي المصدر المطلع قائلا إن «عرض صدام حسين للكبيسي جاء بعد أن طلب الأخير من صدام إغلاق الملاهي والبارات في العراق فوافق على ذلك فورا. وهنا قال صدام للكبيسي (أنا لي طلب منك، وهو أن تتولى منصب وزير الأوقاف)» لكن الكبيسي اعتذر بلباقة. وبشأن ظروف نشأة الكبيسي يقول المصدر إن «الكبيسي ينتمي إلى عائلة متشددة دينيا، حيث كان أبوه يوقظه مع إخوته فجرأ لأداء الصلاة وهم صغار، وبالفعل فقد تسنم هو وشقيقان له مناصب منها عمادة كليات في الفقه والشريعة.
وحول ظروف خروجه من العراق يقول المصدر إن «الكبيسي لم تكن لديه مشكلة مباشرة مع صدام حسين على الرغم من أن إعجاب صدام ببرنامجه ربما قد يكون لفت أنظار النظام إليه، وهذا الأمر في ذلك الوقت كان سلاحا ذا حدين، غير أن هناك أطرافا دينية معروفة كانت مقربة من النظام هي التي خشيت أن يكون للكبيسي دور بعد إعجاب صدام، فضغطت عليه من أجل الخروج من العراق حيث غادره إلى اليمن ومن ثم إلى بلد إسلامي، قبل أن يستقر في دولة الإمارات العربية المتحدة».
ويمضي المصدر المقرب من الكبيسي قائلا «بعد اشتداد الحصار على العراق قبيل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 كان الكبيسي اتصل ببعض معارفه من المسؤولين لغرض المجيء بشحنة من المساعدات إلى العراق، وبالفعل جاء على متن طائرة خاصة حملت مساعدات غذائية ودوائية، لكنه لم يهبط من الطائرة».
بعد الاحتلال الأميركي إلى العراق جاء الشيخ الكبيسي إلى مدينة الرمادي وألقى خطبة شهيرة في جامع الشيخ عبد الجليل. ويؤثر عنه طبقا لشهود عيان كانوا قد حضروا الخطبة أنه «بينما كان الكبيسي يلقي خطبته في الهواء الطلق مرّ رتل أميركي، فما كان من الكبيسي إلا أن طلب من الحاضرين الهتاف ضد هذا الرتل بوصفه احتلالا، وما كان من المصلين إلا أن رجموا أفراد هذا الرتل بأحذيتهم.
في بغداد، أسس الكبيسي حركة سياسية هي الحركة الوطنية صدرت عنها جريدة «الساعة»، لكنه وجد بعد فترة ليست طويلة أن الأمور تتجه إلى غير ما كان يحلم به، على الرغم من أنه كان صاحب أول خطبة شهيرة انطلقت من جامع الإمام الأعظم في مدينة الأعظمية، والتي ضمت عشرات الآلاف من الشيعة والسنة، وهي المظاهرة التي انطلقت منها الأهزوجة الشهيرة التي يرددها العراقيون حتى اليوم وهي «إخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن ما نبيعه».
وادعى الكبيسي، في تسجيل فيديو يُتداول على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، ردا على سؤال حول تفجير المراقد الدينية في مدينة الموصل الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش»، أنه «فليسمعني هذا (....) أبو بكر البغدادي.. قاتل الحسين أشرف منه، هذا عميل يهود وليس أكثر.. دعهم يقتلوني إذا أرادوا».
وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط»، لم ينكر إساءته للعالم الجليل محمد بن عبد الوهاب، بل تمسك بها، وسخر من دعوة الذين طالبوا باستتابته. وقال لـ«الشرق الأوسط» إن تنظيم داعش صنعته إسرائيل بهدف تمزيق الأمة، وهو ما نجحت فيه بشكل أولي حتى الآن بقيادة العميل اليهودي زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي. وأضاف «أنا مسؤول عن هذا الكلام أمام رب العالمين».
وانتقد الكبيسي، في برنامج أسبوعي عبر قناة «سما دبي»، الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، مما دفع الكثير من المشايخ والدعاة إلى الرد عليه مشككين في سلامة منهجه، ومحذرين من شذوذ أفكاره. يقول إسلاميون في لندن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إن السبب الحقيقي لردود الفعل الغاضبة هو «الحشد المذهبي بين السنة والشيعة، والذي تصاعد أكثر إثر مواقف إيران وحلفائها المناهضة لثورة الشعب السوري».
وكان الكبيسي وصف معاوية ابن أبي سفيان بأنه «شقّ الأمة»، قائلا لأحد المشاهدين الذين اتصلوا به إن «مصيبة هذه الأمة في معاوية». واستنكر أن يصف بعض الناس معاوية بـ«سيدنا»، وختم رده قائلا للمتصل «اللهم احشرني مع علي، وأنت.. الله يحشرك مع معاوية»، بعدها أصدرت مؤسسة «دبي للإعلام» بيانا تبرأت فيه من تصريحات الكبيسي.
وأكدت المؤسسة أن «ما ورد على لسان الكبيسي وتهجمه على بعض الصحابة ضمن برنامج (وأخر متشابهات) على قناة دبي؛ يعكس وجهة نظره الشخصية وقناعته الذاتية، ولا يعبر عن رأي المؤسسة أو موقفها تجاه ذلك الشأن». كما أعلنت المؤسسة عن بث حلقة استثنائية خاصة عن فضل الصحابة والدفاع عنهم، على كل من قناة «دبي»، وقناة «نور دبي»، وإذاعة «دبي»، يقدمها الشيخ وسيم يوسف.
وتبدو الآراء الجريئة التي يطلقها الدكتور الكبيسي (78 عاما)، من حين لآخر مثيرة للجدل، لكنها مسموعة من قطاع كبير من الناس، فالرجل لا يتحرج عن الحديث عن حوار الحضارات وأصول الدين حتى طبيعة الحور العين والولدان والنشوة الدائمة. ويشن الكبيسي من وقت لآخر هجمات عنيفة على السلفيين المتشددين وعموم السلفيين وكذلك الأحزاب والجماعات الإسلامية، وهو يرى أن معظم المشكلات التي يعاني منها المسلمون هي بسبب «الإسلاميين وتسييسهم للدين».
وشارك الكبيسي في كثير من المؤتمرات الإسلامية، كما أسهم في العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومن أهم مؤلفاته «الكلمة وأخواتها في القرآن»، و«في رحاب القرآن»، و«فلسفة نظام الأسرة في الإسلام»، و«القضاء في الإسلام»، و«الفقه الجنائي في الإسلام». ومن أهم المناصب التي تقلدها، رئيس قسم الشريعة بجامعة بغداد، ورئيس قسم الدراسات العليا بجامعة بغداد أيضا، ورئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الإمارات، وهو عضو كثير من المجامع العلمية الإسلامية في منطقة الخليج، وشغل من قبل رئيس الحركة الوطنية العراقية الموحدة، وعلى الـ«فيسبوك» لديه أكثر من 6 آلاف متابع.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.