بعد عامين من الضجة التي أثارها بانتقاده لبعض الصحابة (رضي الله عنهم)، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وما تبعه من تعليق لبرنامجه التلفزيوني «وأخر متشابهات» الذي يبث من دبي، عاد رجل الدين العراقي السني أحمد الكبيسي، وهو من أقطاب أهل السنة والجماعة، لإثارة الجدل مجددا، عبر مقابلة تلفزيونية زعم فيها أن مؤسس المدرسة السلفية الحديثة، العالم محمد بن عبد الوهاب «إيراني فارسي».
والكبيسي طلق اللسان، يوصف أحيانا بـ«المدفع الرشاش»، أو كما يقول هو في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأنه «لا يخاف في الله لومة لائم». يهاجم بحدة ولا يرحم، رذاذه يصيب ويصدم. مشاكس من الدرجة الأولى، وعذره دوما أن العالم بأمور الدين وحافظ القرآن سيقفان يوما أمام المولى عز وجل ليحاسبهما عن السكوت عن قول الحق.
لا يهتم كثيرا عندما يصوب مدفعيته حتى لمن باتوا تحت التراب.. يقول «التشيع المزيف مزق الأمة.. أما الأئمة الأربعة الكبار فكانوا على الحق»، ثم وجه سهامه إلى أهل السلف الصالح، الذين زعم أنهم يقصرون الجلباب ويطيلون اللحى، ويكفرون بقية المسلمين»، وقال «مهاجمة هؤلاء مش بإيدي.. أنا مش بتاع مشاكل.. ولكن يجب أن يعلم جميع العلماء وطلاب العلم أنهم سيقفون بين يدي الله فيسألهم لِمَ لم تقل الحق، وقد عرفته؟».
تعود الكبيسي طوال حياته على الصدامات، ففي العهد الملكي هاجم حلف بغداد، فحبسوه. ثم في العهد الشيوعي في العراق تكرر الأمر بمهاجمتهم فحبسوه مرة أخرى، ثم مرة ثالثة ذاق طعم الحبس في عهد البعثيين. ثم هاجم السلف وغيرهم. يقول «أشعر بأنهم يريدون قتلي». وينفي أن تكون مشاكسته للآخرين ستقلل من شعبيته التلفزيونية، ويقول «هذا آخر شيء أهتم به أو أتطلع إليه، وبيني وبين الله عمار، ويا ليت الذي بيني وبينك يا ربي عامر، وبيني وبين العالمين خراب».
أثار ضجة كبرى بعد وصفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه فارسي و«صناعة يهودية». وقال الكبيسي لـ«الشرق الأوسط»: «الحمد لله نالني من النقد الكثير من أعمدة الدولة في الإمارات التي أعيش فيها.. وأحمد الله أنني عربي أعيش في الإمارات من جهة نعمة التسامح بين أهلها».
وعن تغريدات ضاحي خلفان، قائد شرطة دبي السابق، وشنه هجوما حادا عليه، يقول الكبيسي «شيء جيد، لأنه برأ الدولة مما قلت، وحملني هكذا المسؤولية عما قلت». وكان خلفان غرد عبر «تويتر» قائلا «الشيخ أحمد الكبيسي أساء إلينا كإماراتيين قبل أن يسيء إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب».
وبالنسبة لدعوة الشيخ سعود الشريم، إمام الحرم المكي، للكبيسي لـ«الاستتابة»، قال الكبيسي «ركعتا التوبة إلى الله مش مشكلة». وعلق الشيخ سعود بن شريم، عبر حسابه في «تويتر»، على حديث الكبيسي قائلا «ضاقوا ذرعا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لموافقتها منهج السلف، فزعموا أنه صناعة يهودية، وهذا ديدن أعداء الحق». وأضاف «قالوا أساطير الأولين اكتتبها».
وتوالت الردود الغاضبة، وطالب إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ، الكبيسي، بسرعة التوبة إلى الله، والرجوع إلى الحق، ومعالجة ما تفوه به من باطل وزور في حق الدعوة السلفية النقية.
وقال إمام الحرم النبوي في بيانه «لقد ساءت كل مسلم تلك الكلمات المعبرة عن الجهل والتخبط في طمس الحقائق. إنها كلمات من يسمى بالكبيسي، حينما وصف الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بأنه صنيعة يهودية. إن هذا كلام باطل ووصف مغرق في بحار الجهل بالحقائق التي يعرفها أعداء الإسلام قبل أهله، فهذا الإمام قامت دعوته على الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وعلى منهج فهم الصحابة (رضي الله عنهم)، وعلى مقتضى ما رسمه أئمة الإسلام من التابعين ومن يتبعهم، فقامت مدرسته على تعظيم نصوص الوحيين، والدعوة لأصل التوحيد الخالص الذي عليه مدار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وصنعت دعوته جيلا يمارس نقاء الإسلام ويسره وسماحته وعلو مقاصده وسمو أهدافه».
وتنوعت ردود فعل المتابعين عبر «تويتر» بين الدعوة إلى وقف برامج الكبيسي والمطالبة بطرده من دولة الإمارات، إلى جانب التذكير بما سبق له أن أدلى به تجاه الصحابة، ومن بينهم معاوية ابن أبي سفيان.
بينما انتصر مغردون إماراتيون وخليجيون للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مطالبين بطرد الكبيسي بعد انتقاداته لمؤسس السلفية الحديثة، وتفاعل المغردون مع هاشتاغ «اطردوا الكبيسي» من الإمارات على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر».
وعلى الرغم من المواقف التي تبدو متناقضة هنا وهناك للداعية الكبيسي فإنه بقي يحتفظ بمسافة مقبولة على صعيد الانتماء المذهبي والموقف الفكري. فالكبيسي الذي ينتمي إلى محافظة الأنبار (غرب العراق) وإلى مدينة كبيسة، التي ولد فيها عام 1934، بدأ حياته الفكرية كداعية إسلامي بعد إكمال دراسته الأكاديمية بما في ذلك الماجستير والدكتوراه في العلوم الإسلامية. وكان أول ظهور له في برنامج تلفزيوني على الفضائية العراقية (وهي غير التلفزيون الحكومي الرسمي) أواخر تسعينات القرن الماضي حتى خروجه من العراق بعد عام 2000.
وطبقا لمصدر مقرب منه طلب عدم الكشف عن اسمه في حديث لـ«الشرق الأوسط» قال إن «البرنامج الذي كان يظهر فيه الشيخ الكبيسي شارحا ومفسرا ومؤولا للآيات القرآنية قد أثار إعجاب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي كان التقى الكبيسي وعرض عليه منصب وزير الأوقاف لكنه اعتذر».
ويمضي المصدر المطلع قائلا إن «عرض صدام حسين للكبيسي جاء بعد أن طلب الأخير من صدام إغلاق الملاهي والبارات في العراق فوافق على ذلك فورا. وهنا قال صدام للكبيسي (أنا لي طلب منك، وهو أن تتولى منصب وزير الأوقاف)» لكن الكبيسي اعتذر بلباقة. وبشأن ظروف نشأة الكبيسي يقول المصدر إن «الكبيسي ينتمي إلى عائلة متشددة دينيا، حيث كان أبوه يوقظه مع إخوته فجرأ لأداء الصلاة وهم صغار، وبالفعل فقد تسنم هو وشقيقان له مناصب منها عمادة كليات في الفقه والشريعة.
وحول ظروف خروجه من العراق يقول المصدر إن «الكبيسي لم تكن لديه مشكلة مباشرة مع صدام حسين على الرغم من أن إعجاب صدام ببرنامجه ربما قد يكون لفت أنظار النظام إليه، وهذا الأمر في ذلك الوقت كان سلاحا ذا حدين، غير أن هناك أطرافا دينية معروفة كانت مقربة من النظام هي التي خشيت أن يكون للكبيسي دور بعد إعجاب صدام، فضغطت عليه من أجل الخروج من العراق حيث غادره إلى اليمن ومن ثم إلى بلد إسلامي، قبل أن يستقر في دولة الإمارات العربية المتحدة».
ويمضي المصدر المقرب من الكبيسي قائلا «بعد اشتداد الحصار على العراق قبيل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 كان الكبيسي اتصل ببعض معارفه من المسؤولين لغرض المجيء بشحنة من المساعدات إلى العراق، وبالفعل جاء على متن طائرة خاصة حملت مساعدات غذائية ودوائية، لكنه لم يهبط من الطائرة».
بعد الاحتلال الأميركي إلى العراق جاء الشيخ الكبيسي إلى مدينة الرمادي وألقى خطبة شهيرة في جامع الشيخ عبد الجليل. ويؤثر عنه طبقا لشهود عيان كانوا قد حضروا الخطبة أنه «بينما كان الكبيسي يلقي خطبته في الهواء الطلق مرّ رتل أميركي، فما كان من الكبيسي إلا أن طلب من الحاضرين الهتاف ضد هذا الرتل بوصفه احتلالا، وما كان من المصلين إلا أن رجموا أفراد هذا الرتل بأحذيتهم.
في بغداد، أسس الكبيسي حركة سياسية هي الحركة الوطنية صدرت عنها جريدة «الساعة»، لكنه وجد بعد فترة ليست طويلة أن الأمور تتجه إلى غير ما كان يحلم به، على الرغم من أنه كان صاحب أول خطبة شهيرة انطلقت من جامع الإمام الأعظم في مدينة الأعظمية، والتي ضمت عشرات الآلاف من الشيعة والسنة، وهي المظاهرة التي انطلقت منها الأهزوجة الشهيرة التي يرددها العراقيون حتى اليوم وهي «إخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن ما نبيعه».
وادعى الكبيسي، في تسجيل فيديو يُتداول على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، ردا على سؤال حول تفجير المراقد الدينية في مدينة الموصل الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش»، أنه «فليسمعني هذا (....) أبو بكر البغدادي.. قاتل الحسين أشرف منه، هذا عميل يهود وليس أكثر.. دعهم يقتلوني إذا أرادوا».
وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط»، لم ينكر إساءته للعالم الجليل محمد بن عبد الوهاب، بل تمسك بها، وسخر من دعوة الذين طالبوا باستتابته. وقال لـ«الشرق الأوسط» إن تنظيم داعش صنعته إسرائيل بهدف تمزيق الأمة، وهو ما نجحت فيه بشكل أولي حتى الآن بقيادة العميل اليهودي زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي. وأضاف «أنا مسؤول عن هذا الكلام أمام رب العالمين».
وانتقد الكبيسي، في برنامج أسبوعي عبر قناة «سما دبي»، الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، مما دفع الكثير من المشايخ والدعاة إلى الرد عليه مشككين في سلامة منهجه، ومحذرين من شذوذ أفكاره. يقول إسلاميون في لندن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إن السبب الحقيقي لردود الفعل الغاضبة هو «الحشد المذهبي بين السنة والشيعة، والذي تصاعد أكثر إثر مواقف إيران وحلفائها المناهضة لثورة الشعب السوري».
وكان الكبيسي وصف معاوية ابن أبي سفيان بأنه «شقّ الأمة»، قائلا لأحد المشاهدين الذين اتصلوا به إن «مصيبة هذه الأمة في معاوية». واستنكر أن يصف بعض الناس معاوية بـ«سيدنا»، وختم رده قائلا للمتصل «اللهم احشرني مع علي، وأنت.. الله يحشرك مع معاوية»، بعدها أصدرت مؤسسة «دبي للإعلام» بيانا تبرأت فيه من تصريحات الكبيسي.
وأكدت المؤسسة أن «ما ورد على لسان الكبيسي وتهجمه على بعض الصحابة ضمن برنامج (وأخر متشابهات) على قناة دبي؛ يعكس وجهة نظره الشخصية وقناعته الذاتية، ولا يعبر عن رأي المؤسسة أو موقفها تجاه ذلك الشأن». كما أعلنت المؤسسة عن بث حلقة استثنائية خاصة عن فضل الصحابة والدفاع عنهم، على كل من قناة «دبي»، وقناة «نور دبي»، وإذاعة «دبي»، يقدمها الشيخ وسيم يوسف.
وتبدو الآراء الجريئة التي يطلقها الدكتور الكبيسي (78 عاما)، من حين لآخر مثيرة للجدل، لكنها مسموعة من قطاع كبير من الناس، فالرجل لا يتحرج عن الحديث عن حوار الحضارات وأصول الدين حتى طبيعة الحور العين والولدان والنشوة الدائمة. ويشن الكبيسي من وقت لآخر هجمات عنيفة على السلفيين المتشددين وعموم السلفيين وكذلك الأحزاب والجماعات الإسلامية، وهو يرى أن معظم المشكلات التي يعاني منها المسلمون هي بسبب «الإسلاميين وتسييسهم للدين».
وشارك الكبيسي في كثير من المؤتمرات الإسلامية، كما أسهم في العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومن أهم مؤلفاته «الكلمة وأخواتها في القرآن»، و«في رحاب القرآن»، و«فلسفة نظام الأسرة في الإسلام»، و«القضاء في الإسلام»، و«الفقه الجنائي في الإسلام». ومن أهم المناصب التي تقلدها، رئيس قسم الشريعة بجامعة بغداد، ورئيس قسم الدراسات العليا بجامعة بغداد أيضا، ورئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الإمارات، وهو عضو كثير من المجامع العلمية الإسلامية في منطقة الخليج، وشغل من قبل رئيس الحركة الوطنية العراقية الموحدة، وعلى الـ«فيسبوك» لديه أكثر من 6 آلاف متابع.
الكبيسي.. الشيخ المشاكس
تصريحاته النارية جعلته في مهب الريح.. والعشرات يطالبون بطرده من الإمارات
الكبيسي.. الشيخ المشاكس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة