الابتكار والمعرفة من أجل سلامة الكوكب

توقعات «البيئة العالمية» السادس

جانب من جلسات جمعية الأمم المتحدة العامة للبيئة في نيروبي أمس (أ.ف.ب)
جانب من جلسات جمعية الأمم المتحدة العامة للبيئة في نيروبي أمس (أ.ف.ب)
TT
20

الابتكار والمعرفة من أجل سلامة الكوكب

جانب من جلسات جمعية الأمم المتحدة العامة للبيئة في نيروبي أمس (أ.ف.ب)
جانب من جلسات جمعية الأمم المتحدة العامة للبيئة في نيروبي أمس (أ.ف.ب)

تقرير توقعات البيئة العالمية السادس «جيو 6»، الذي تم إطلاقه اليوم، قد يكون أبرز حدث في الدورة الرابعة لجمعية الأمم المتحدة العامة للبيئة.
وتعقد هذه الدورة من 11 إلى 15 مارس (آذار) الحالي، في مقر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) في نيروبي، بمشاركة نحو 200 دولة، تحت شعار «حلول مبتكرة للتحديات البيئية ومن أجل الاستهلاك والإنتاج المستدامين».
ومنذ صدور التقرير الأول سنة 1997، حصل تحسُّن في بعض المجالات، حيث أمكن تحديد المشكلات جيداً، وتمت إدارتها بفضل الحلول التشريعية والتقنية المناسبة. لكن التقرير الجديد يُظهر استمرار تراجع الوضع العام للبيئة عالمياً خلال السنوات الثلاثين الماضية، نتيجة عوامل عدة، من بينها أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدامة وتغير المناخ.
يحمل تقرير توقعات البيئة العالمية السادس عنوان «كوكب معافى، ناس أصحاء»، وقد جاء نتيجة عملية تشاورية وتشاركية لإعداد تقييم مستقل عن حالة البيئة ومدى فاعلية السياسات المتبعة لمواجهة المخاطر التي تهدد كوكب الأرض، ويهدف لتوفير معلومات قائمة على الدلائل والمؤشرات لمساعدة المجتمعات وصانعي القرار. وعمل على التقرير، الذي جاء في 750 صفحة، أكثر من ألف باحث وعالم لفترة خمس سنوات.
* حان وقت العمل
يشير تقرير «جيو 6» إلى أن اتجاهات الإنتاج والاستهلاك غير المستدامة تحت تأثير النمو السكاني، إلى جانب غياب المساواة نتيجة فوارق واسعة في الناتج المحلي من منطقة إلى أخرى، تهدد سلامة كوكبنا وتضع التنمية المستدامة على المحك. وتؤدي هذه الاتجاهات إلى تراجع البيئة العالمية بمعدلات غير مسبوقة، وتنذر بعواقب وخيمة على المجتمعات الفقيرة والمناطق المهمشة.
ويواجه البشر مجموعة من التحديات المصيرية نتيجة استغلال الموارد الطبيعية، بما فيها المياه العذبة، بشكل مفرط. ويزداد الأمر سوءاً مع التلويث المستمر والإدارة غير السليمة التي لا تراعي متطلبات الاستدامة والتحول إلى السكن في المدن بشكل غير مسبوق، حيث من المتوقع أن يرتفع عدد سكان المدن في العالم إلى 66 في المائة بحلول عام 2050. علما بأن نحو 30 في المائة من سكان المدن حالياً لا يحصلون على الخدمات الأساسية أو الحماية الاجتماعية.
ووفقاً للتقديرات الحالية، تسببت غازات الدفيئة في إدخال العالم ضمن حقبة متواصلة عنوانها «التغير المناخي»، مما سيؤدي إلى مضاعفة وزيادة المخاطر البيئية والاجتماعية التي تطال النظم البيئية وصحة الإنسان. ومن أبرز هذه المخاطر تعريض جميع المدن الساحلية والدول الجزرية الصغيرة للغرق بفعل ارتفاع منسوب مياه البحر، إلى جانب الأضرار التي تتسبب بها العواصف المتطرفة.
ومن المتوقع أن يستمر تلوث الهواء كأحد أكبر المخاطر على صحة البيئة، حيث يتسبب بوفاة ما بين ستة وسبعة ملايين شخص سنوياً، إلى نهاية منتصف القرن الحالي.
كما يتراجع التنوع الحيوي بشكل كبير نتيجة تغير استخدامات الأراضي وتجزئة الموائل والإفراط في الصيد وانتشار الأنواع الغازية، إلى جانب الضغوط الكبيرة التي يفرضها التلوث وتغير المناخ. علما بأن 42 في المائة من اللافقاريات الأرضية و34 في المائة من اللافقاريات في المياه العذبة و25 في المائة من اللافقاريات البحرية تعد مهددة بالانقراض حالياً.
ويوصي التقرير بإيلاء اهتمام خاص وعاجل لمشكلة النفايات البلاستيكية، لا سيما في الأوساط المائية، نظراً لتأثيرها المحتمل على النظام البيئي البحري وصحة الإنسان، حيث لا تزال هناك فجوة معرفية حول حجم هذا التأثير. وتلعب المحيطات دورا مهما في الاقتصاد العالمي، إذ تنتج المصايد والمزارع السمكية حالياً ما قيمته 252 مليار دولار سنوياً.
ومن ناحية أخرى، يتوقع التقرير أن تصبح العدوى المقاومة للمضادات الحيوية أحد الأسباب الرئيسية للوفاة بفعل الأمراض المعدية في جميع أنحاء العالم بحلول سنة 2050. وللحد من هذه المشكلة، يقترح التقرير توفير تقنيات معالجة المياه العادمة ذات التكلفة المعقولة على نطاق واسع، لإزالة بقايا المضادات الحيوية. وقد يكون للاستثمار في التقنيات الجديدة، بما فيها أنظمة إزالة التلوث عند المصدر، وإتاحتها للبلدان النامية، فوائد مهمة تعود بالنفع على الجميع.
ولا تزال الآثار الضارة للاستخدام غير الملائم لمبيدات الآفات والمعادن الثقيلة والمنتجات البلاستيكية ومواد أخرى مصدر قلق كبير. علاوة على ذلك، من المحتمل أن تمتد لأجيال تأثيرات المواد الكيميائية المسببة للسمية العصبية، وتلك التي تؤدي إلى خلل في عمل الغدد الصماء.
* كيف نصحح المسار؟
كثيراً ما تتجاوز التكاليف الاجتماعية والاقتصادية لعدم العمل تكاليف العمل ذاته، وغالباً ما تتحمل فئات المجتمع الأفقر والأكثر ضعفاً معظمها، خاصة في البلدان النامية.
كمثال على ذلك، يؤكد تقرير «جيو 6» أن الفوائد الصحية لتقليل انبعاثات غازات الدفيئة وملوثات الهواء تفوق تكاليف الإجراءات التلطيفية التي تستهدف النتائج لا الأسباب. وينتج عن تقليل الانبعاثات تحقيق أهداف المناخ وجودة الهواء وتحسين صحة الإنسان وزيادة الإنتاج الزراعي والحد من فقدان التنوع الحيوي.
وفي حين شهد العالم تضاعف القوانين البيئية خلال السنوات القليلة الماضية، فإن تبني سياسة بيئية محددة لا يعد نهاية المطاف ما لم يتم اتخاذ تدابير غير مسبوقة من جانب الحكومات وأصحاب المصلحة، تشمل جميع القطاعات، لمواجهة التحديات بشكل منهجي وإلزامي يضمن تحقيق التنمية المستدامة اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً.
وينبغي أن تحقق التحولات البيئية المنظمة العدالة بين الفئات المختلفة، وتحترم المساواة بين الجنسين، مع تحديد التأثيرات المتباينة على النساء والرجال، وتكون مرنة تجاه المخاطر الاجتماعية التي قد تنطوي عليها.
ويجب ألا يتعارض السعي لاستدامة الإنتاج والاستهلاك مع مراعاة متطلبات الصحة العامة والحد من استخدام الموارد وضمان الكفاءة والثبات على المبدأ وأنماط الحياة المستدامة، فضلاً عن التمسك بأهداف الإدارة التي تراعي النظم الإيكولوجية وتستفيد من المعارف والخبرات المحلية.
* إدارة الابتكار: الابتكار في الإدارة
يشير التقرير إلى وجود حاجة ماسة للابتكار من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والوصول إلى كوكب معافى وناس أصحاء بشكل تشاركي ومتبادل.
وتعتبر نظم الغذاء والطاقة والنقل والبنى الحضرية من بين نظم الإنتاج والاستهلاك التي تتطلب إدارة مستدامة وسياسات فاعلة تجمع بين العناية بالبيئة وتوظيف الابتكار. ويمكن للابتكارات العميقة والمتخصصة والتقنية أن تحقق الاستدامة في هذه النظم، إلى جانب توسيع نطاق الممارسات المستدامة التي أثبتت جدواها من خلال التجربة والاختبار.
وفي حين يمثل الابتكار جزءاً من الحل، فإنه في المقابل قد يؤدي إلى مخاطر جديدة ذات تأثيرات بيئية سلبية. وفي هذه الحالة يمكن للمقاربات الوقائية المستندة إلى العلم أن تقلل من هذه المخاطر، لا سيما التي تخلف آثاراً لا رجعة عنها.
إن البلدان والبلديات والمؤسسات والجهات المعنية الأخرى، التي تشجع الابتكار التقني وتعيد ترتيب الأولويات لصالح الاستفادة من الطاقة المتجددة وخفض انبعاث غازات الدفيئة وتعزيز الكفاءة في إدارة الموارد، تحظى عادة بمزيد من الفرص التنافسية في الاقتصاد العالمي.
وكلما كانت الرؤية أقل وضوحاً كانت هناك حاجة لوجود تحالفات بين مختلف المؤسسات، بما فيها الجهات الحكومية وقطاع الأعمال والمجتمع المدني والمؤسسات البحثية، للاتفاق على المسارات المحتملة لتحقيق التحول المنشود.
ويمكن تطوير كثير من المشروعات الخلاقة في المناطق الحضرية والريفية وإعادة تطبيقها في أماكن مختلفة، ما سيساعد بشكل جماعي على تحقيق أهداف التنمية المستدامة والاتفاقات البيئية المتعددة الأطراف والغايات البيئية ذات الصلة المتفق عليها دولياً.
* المعرفة من أجل الاستدامة
ويوصي تقرير جيو 6 بأن تكفل نماذج إدارة الاستدامة الجديدة توفير استثمارات كافية في المعرفة، وأن تعمل على بناء شبكة رصد متفق عليها من قبل المجتمعات والمؤسسات العلمية لتجنب أي أضرار أو تكاليف غير ضرورية.
وعلى الرغم من أن رصد البيانات على أرض الواقع لا يزال أمراً ضرورياً، فإن تدفق المعلومات البيئية عن طريق الأقمار الاصطناعية سمح باتخاذ إجراءات أسرع في جميع أنحاء العالم من أجل مواجهة الأحوال الطارئة كأحداث الطقس المتطرفة.
ويمكن الإفادة من أنظمة الاستشعار عن بعد لاستكشاف المزيد من المعطيات وجمعها، مع الأخذ بعين الاعتبار تعزيز الوصول الحر إلى البيانات والمعلومات والمعرفة بشكل عام من أجل تحسين تقييم السياسات ومراقبة مدى التقدم المنجز.
كما توجد حاجة لبذل جهد أكبر في مجال المحاسبة البيئية لضمان إدراج تكاليف الإصحاح البيئي في صنع القرار الاقتصادي لتحقيق الاستدامة. ومن المتوقع أن يؤدي تسخير ثورة البيانات والمعرفة المتواصلة في ضمان صحة المعطيات وصلاحيتها لدعم التنمية المستدامة وتعزيز القدرات على مواجهة التحديات والتعجيل بتحقيق التقدم المنشود.

* يُنشر بالتعاون مع مجلة «البيئة والتنمية»


مقالات ذات صلة

علوم إلى اليسار: الطلاء الداكن يمتص الحرارة ويدفئ الداخل
وإلى اليمين: الطلاء الفاتح اللون يعكس الحرارة ويبرد الداخل

طلاء جديد يُغيّر لونه مع الطقس

يؤمن تدرجات لونية تتكيف مع درجات الحرارة ويقلص النفقات 30 %

إليسافيتا إم براندون (واشنطن)
يوميات الشرق انخفض عدد الفراشات البيضاء ذات الأوردة الخضراء (غيتي)

الصيف الماضي كان خامس أسوأ موسم للفراشات الشائعة في بريطانيا

كان الصيف الماضي خامس أسوأ صيف منذ ما يقرب من نصف قرن بالنسبة للفراشات في بريطانيا، وفقا لأكبر مسح علمي لأعداد الحشرات في العالم، حسب صحيفة «الغارديان»

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد أعلام دول العالم في مدخل «كوب 16» في الرياض (الشرق الأوسط) play-circle 01:46

ثلث سكان العالم مهددون بالجفاف وتدهور الأراضي... والسعودية تقود مساعي دولية لمواجهتهما

قادت السعودية جهوداً دولية لمكافحة التصحر والجفاف خلال مؤتمر (كوب 16) وانتهى بتعهدات مالية بـ12 مليار دولار، على أن تستكمل الجهود في منغوليا 2026.

عبير حمدي (الرياض)

عالم الجيوبوليتيك... بين الترابط والانفصال

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)
TT
20

عالم الجيوبوليتيك... بين الترابط والانفصال

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)

يشهد عالم اليوم ما يُسمّى «التحوّل النموذجي» (Paradigm Shift)، وفي أبعاد عدّة، منها الاجتماعي والاقتصاديّ، والتكنولوجي وبالطبع الجيوسياسيّ. التحوّل النموذجيّ يعني أن العالم يمرّ بمرحلة الانتقال من منظومة قديمة، كانت لها قواعدها وقوانينها وثقافتها وتوازناتها، إلى مرحلة لم تتّضح فيها الضوابط بعد. تُعدّ هذه المرحلة الانتقالية الأخطر على الأمن والسلم العالميّين.

في تسعينات القرن الماضي، أطاحت العولمة بكل الضوابط والحدود، لكن بطريقة سلميّة. يشهد عالم اليوم الانكماش والتراجع عن الانفتاح. وفي الحالتَيْن، يكون التأثير على التوازنات الجيوسياسيّة في النظام العالمي مختلفاً. في التسعينات، فتحت أميركا نفسها، وانفتحت على العالم بشكل لم يسبق له مثيل.

صورة من فيديو لمناورات صينية بالذخيرة الحية في محيط بحر الصين الشرقي (أرشيفية - رويترز)
صورة من فيديو لمناورات صينية بالذخيرة الحية في محيط بحر الصين الشرقي (أرشيفية - رويترز)

قرّرت أميركا اليوم الانحسار. عندما انفتحت على العالم ثبّتت نفسها بصفتها أولى بين متساوين، حتى الوصول إلى درجة الأحاديّة. تنحسر اليوم أميركا، مع الرئيس ترمب، في شكل لم تتظهّر معالمه وتداعياته الكاملة بعد، على العالم وعلى الداخل الأميركيّ أيضاً. وعليه يمر عالم اليوم بحالة من اللاتوازن. وفي حالة اللاتوازن، تستغلّ عادة القوى العظمى، والكبرى، وضمنها القوى الإقليميّة، هذا الوضع، وهذه الفرصة الجيوسياسيّة، لتحقيق أحلامها وأهدافها، خاصة عبر التوسّع الجغرافي، أو عبر الهروب من التحالفات، والاصطفاف في مكان آخر.

الترابط والانفصال

تفتح روسيا الباب أمام أميركا الآن، لكنها مع الصين في شراكة لا حدود لها. تقاتل الوحدات الخاصة من كوريا الشمالية في روسيا ضدّ أوكرانيا، كما تمدّ كوريا الشمالية روسيا بالذخيرة والصواريخ، علماً بأن ترمب سبق أن هدّد في ولايته الأولى بتدمير كوريا الشمالية، قبل أن يعقد محادثات مع زعيمها كيم جونغ أون. تُصنّف كوريا الشمالية اليوم ضمن مجموعة الدول التي تملك أسلحة نوويّة، وبذلك تشكّل، بسبب قربها الجغرافيّ من الصين، خطراً استراتيجياً على الأمن القومي الصيني، علماً بأن التنين الصيني يحاول حالياً فرض منطقة نفوذ في محيطه تشمل بحر الصين الجنوبي وتايوان وفيتنام وكوريا بشطرَيْها الشمالي والجنوبي.

وزير الدفاع الأميركي الجديد بيت هيغسيث ورئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا في طوكيو 30 مارس 2025 (أ.ف.ب)
وزير الدفاع الأميركي الجديد بيت هيغسيث ورئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا في طوكيو 30 مارس 2025 (أ.ف.ب)

هناك شراكة «دون حدود» بين الصين وروسيا، لكن منطقة نفوذ الصين الحالية في آسيا الوسطى، تهدّد منطقة النفوذ الروسية التاريخيّة. كما أن المشروع الكوني للرئيس الصيني شي جينبينغ، «الحزام والطريق»، يمرّ حكماً في مناطق النفوذ الروسي.

في المقابل، تنشر أميركا في الفلبين صواريخ «تايفون» القادرة على ضرب كل الساحل الصيني الشرقي، كما تعزز القدرات الدفاعية لتايوان. لكن روسيا تشارك الصين في الكثير من المناورات البحريّة على حدود اليابان، الحليف المركزي للعم سام في الشرق الأقصى.

تستعجل الصين التحضير العملانيّ لضم جزيرة تايوان بالقوة، إذا تعثّرت القوة الناعمة عن تحقيق الأهداف. وحسب بعض الخبراء، تعتمد الصين على استراتيجية تجاه تايوان ترتكز على أربعة أسس هي: الإذلال، والإكراه، والعقاب، ومن ثمّ الاجتياح بوصفه حلاً أخيراً. ولذلك تعتمد الصين في محيطها الشرقي، ولتأمين منطقة نفوذها، على استراتيجيّة «الملفوف» (Cabbage)، بدل «السلامي» (Salami Tactic). فما الفارق بين المقاربتَيْن؟ ترتكز مقاربة «السلامي» على القضم المتدرّج للشرائح واحدة بعد الأخرى. لكن ما يربط شرائح «السلامي» بعضها ببعض يبقى هشّاً. أما استراتيجيّة «الملفوف» فهي تقوم على حماية كل إنجاز بإنجاز آخر يحميه ويٌحصّنه، وعلى عدّة مستويات وطبقات (Layers) تلتف حول بعضها، كما تلتف أوراق «الملفوف» على القلب. فإذا ما أراد البعض الوصول إلى القلب، فعليه المرور بطبقات عدة، الأمر الذي يبدو مُكلفاً.

جندي أوكراني يطلق قذيفة مدفعية باتجاه مواقع روسية على الجبهة الأحد (رويترز)
جندي أوكراني يطلق قذيفة مدفعية باتجاه مواقع روسية على الجبهة الأحد (رويترز)

تعاني تايوان من استراتيجيّة الغموض الأميركيّ تجاه مصير الجزيرة؛ فهل سيكون مصيرها مثل مصير أوكرانيا مع الإدارة الجديدة؟ وماذا لو هاجمت الصين الجزيرة واستبقت أي تحضير أميركيّ؟ أتى الردّ الأميركيّ على القلق التايواني بطريقة غير مباشرة؛ ولكن كيف؟

عمّمت وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) مؤخراً مذكّرة تحت اسم «توجيهات سريّة ومؤقّتة» تشرح فيها رؤية الرئيس دونالد ترمب تجاه الصين. تطلب المذكّرة التحضير العسكري للانتصار في أيّ حرب مستقبليّة مع الصين. تعدّ المذكّرة أن الصين تشكّل الخطر الأوحد على الولايات المتحدة، ومن الضروري ردعها كي لا تفرض أمراً واقعاً (Fait Accompli) باحتلال الجزيرة.

وفي هذا الإطار، زار وزير الدفاع الأميركي الجديد، بيت هيغسيث، مؤخراً كلاً من الفلبين واليابان. ولإرضاء ترمب، قررت تايوان وعبر أهم شركة مُصنّعة للشرائح الذكيّة في العالم، استثمار ما يُقارب من 100 مليار دولار في الداخل الأميركي.

في الختام يُنظّر المفكّر والمحاضر في جامعة تكساس، إيونوت بوبيسكو، في كتابه «لا نظراء منافسون» (No Peer Rivals)، أن على الولايات المتحدة، وكي تبقى مهيمنة، وكي تحافظ على نفسها بصفتها القوة العظمى الوحيدة في العالم، أن تعتمد الواقعية الهجوميّة والاستراتيجية الكبرى التالية: «الهيمنة (الأميركية) على المحيط المباشر، ومنع الصين من الهيمنة على محيطها المباشر كي لا تنطلق منه إلى الهيمنة العالمية». فهل تشكّل تايوان مفتاح الهيمنة الصينيّة على محيطها، والباب للهيمنة العالميّة؟ وأين تصبّ سياسة ترمب الخاصة بغرينلاند وكندا وقناة بنما؟ وهل تدخل الحرب التجارية مع العالم في هذا الإطار؟ إن غداً لناظره قريب.