يقبع رئيس تحرير صحيفة «التيار» المستقلة عثمان ميرغني، الذي أُلقي عليه القبض من مكتبه بالصحيفة غداة إعلان الرئيس السوداني عمر البشير، «حالة الطوارئ» في البلاد منذ قرابة أسبوعين، في السجن، ولا تعلم أسرته أو زملاؤه أسباب اعتقاله، ولا يعرف أحد أين اعتُقل ولا أوضاعه الصحية، فالسلطات الأمنية لم تسمح لأسرته بتفقده طوال هذه الفترة.
وقال شقيقه الصحافي علي ميرغني لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسرة تلقت بعد أسبوعين اتصالاً هاتفياً من الاعتقال، لكنها لم تتمكن من زيارته حتى لحظتها، ولا تعرف أوضاعه الصحية، سيما وأن الرجل يعاني بعض الأمراض المزمنة التي تحتاج إلى رعاية طبية حثيثة.
وأوضح ميرغني، أن شقيقه اقتيد إلى جهة مجهولة من مكتبه في الصحيفة، قبيل منتصف ليلة الجمعة 22 فبراير (شباط) الماضي، وذلك بعد ساعات من إعلان البشير «حالة الطوارئ» في البلاد، وتابع: «جاء مَن عرَّف نفسه بأنه ضابط أمن إلى مكاتب الصحيفة نحو العاشرة والنصف واقتاد شقيقي عثمان».
وعادةً لا يقدّم جهاز الأمن السوداني تفسيراً لإجراءاته ضد الصحافة والصحافيين، لكن ميرغني يرجِّح أن يكون اعتقال شقيقه جاء على خلفية أحاديث أدلى بها للفضائيات انتقد فيها نظام الحكم، وأعلن فيها تأييده للحراك المنادي بتنحي الرئيس البشير وحكومته. ويؤشر اعتقال ميرغني والكيفية التي تم بها إلى التدهور الذي وصلت إليه «الحريات الصحافية» في البلاد، عقب اندلاع الاحتجاجات والمظاهرات المستمرة منذ ثلاثة أشهر.
ميرغني ليس وحده الذي واجه ويواجه الاعتقال، إذ حسب «شبكة الصحافيين السودانيين» –موازية لاتحاد الصحافيين الحكومي- فإنّ أكثر من 90 صحافياً وصحافية تعرضوا للاعتقال خلال أشهر، إلى جانب منع بعضهم من الكتابة، وسحب تراخيص مراسلين لفضائيات ووكالات أنباء دولية.
وواجهت صحف «الجريدة» المستقلة، و«الميدان»، و«البعث»، و«أخبار الوطن» الحزبية، المصادَرة والمنع من الطباعة، والرقابة المشددة التي تَحُول في كثير من الأحيان دون صدورها، بينما تُمنع الصحف قاطبةً من تجاوز ما تطلق عليه الأجهزة الأمنية «الخطوط الحمراء»، بل وتلزَم بنشر ما يفرضه الرقيب على بعضها، وتخضع لإجراءات تأديبية. وقال رئيس تحرير صحيفة «الجريدة» أشرف عبد العزيز، لـ«الشرق الأوسط»، أمس، إن صحيفته مُنعت من الصدور أو تمَّت مصادرتها لـ(66) يوماً عقب اندلاع الاحتجاجات في 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وأوضح عبد العزيز أن أجهزة الرقابة الأمنية فرضت إجراءات تعسفية على صحيفته ما اضطرها إلى التوقف عن الصدور، وتابع: «كان الرقيب الأمني يأتي إلى الصحيفة ويراجعها قبل الطباعة، لكن بعد الأحداث انتقل إلى المطبعة، ليحذف الكثير من المواد، ما يجعل من المستحيل على الصحيفة الصدور». وحسب عبد العزيز، فإن «الخطوط الحمراء الخمسة» التي تمنع انتقاد «الرئيس ونوابه ومساعديه والجيش والشرطة والأمن والعلاقات الخارجية»، ارتفعت عقب اندلاع المظاهرات إلى ستة بإضافة منع «تغطية الاحتجاجات والمظاهرات». وقال إن صحيفته مُنعت «تناول المظاهرات» بالرأي أو التغطية، وأضاف: «سياسة الصحيفة التحريرية تقول إنها لا يمكن أن تجاوز الاحتجاجات لكونها واقعاً يلمسه الناس، وإن حجبها عن قرائها يُفقدها مصداقيتها».
وخاطبت الصحيفة المؤسسات المعنية بأمر الصحافة والإعلام (مجلس الصحافة، اتحاد الصحافيين، لجنة الإعلام في البرلمان) في البلاد بشأن الرقابة المفروضة عليها دون جدوى، وتابع عبد العزيز: «حاولنا تسليم مذكرة لإدارة الإعلام بجهاز الأمن، لكن المحصلة أن اعتُقلنا (نحو 27 صحافياً» لست ساعات، واستمرت الرقابة المتعسفة».
ولم تقف الرقابة المفروضة على النسخة الورقية من «الجريدة»، بل مُنعت من النشر على موقعها على الإنترنت وعلى صفحتها في وسائط التواصل الاجتماعي. يقول عبد العزيز: «حاولنا النشر في الموقع، فتم استدعاؤنا، الناشر ورئيس التحرير، إلى جهاز الأمن وطُلبت منا معلومات، وبعد أسبوع أُبلغنا بوقف النشر على الموقع، ما لم تُجز المادة من الرقيب الأمني».
وتعهد عبد العزيز بعدم الخضوع للإجراءات الاستثنائية ضد صحيفته، وقال: «أوضحنا لقرائنا في بيان، الموقف، وخاطبنا مدير جهاز الأمن ومجلس الصحافة، وقدمنا له مذكرة فحواها إلى جانب كبت الحريات، أن النتيجة ستكون تشريد العاملين في الصحيفة».
ووفقاً لعبد العزيز فإن الإجراءات التي اتُّخذت بحق صحيفته تسببت لها بأضرار مهنية ومادية فادحة، أثّرت وتؤثر على مستقبلها، وقال: «لن نسكت وسنصعّد قضيتنا إلى أن تعود الصحيفة إلى قرائها، ولن نلتزم بشيء سوى ميثاق الشرف الصحافي وأخلاق المهنة».
من جهته، نفى الأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات الصحافية عبد العظيم عوض، باعتباره السلطة الحكومية المعنية بأوضاع الصحافة في البلاد، «علمه بوجود رقابة قبلية - مباشرة»، بيد أنه قال إن البلاد تعيش ظروفاً استثنائية بموجب قانون الطوارئ، وأضاف: «حالة الطوارئ مسألة مقدَّرة بالنسبة إلينا، لأنها مستندة إلى الدستور والقانون»، ودعا الصحافيين للنظر إلى الأشياء بـ«موضوعية باعتبارها ظرفاً استثنائياً». ورأى أن البعض يحاول تمرير مواقفه السياسية من خلال الصحافة، بما يخلق مواجهة بينهم وبين الأجهزة الأمنية، وقال: «بعض الصحافيين يخلطون بين نشاطهم السياسي ومسؤولياتهم المهنية المحكومة بالقانون وميثاق الشرف الصحافي، وهو ما قد يدفع السلطات الأمنية إلى التحرك وفقاً لقانونها ونظمها».
وأوضح عوض أن مجلسه يعمل على حماية «الأطر المهنية» عن طريق التواصل مع السلطات الأمنية، وبحث أسباب توقف صدور بعض الصحف، وتابع: «ما يهمنا أن تلتزم الحكومة بتوفير المعلومات من مصادرها الأصلية، وتمكين الصحافي من الحصول على هذه المعلومات، باعتبارها حقاً قانونياً ودستورياً، وفي ذات الوقت يهمنا أن يلتزم الصحافي بقواعد المهنة وقانون الصحافة وميثاق الشرف الصحافي».
وتعهد -حال التزام الصحافيين بتلك المحددات- بحل المشكلة الناشبة بين بعض الصحف والأجهزة الأمنية، وأضاف: «نقدّر مواقف زملائنا وآراءهم السياسية، لكن خلط الموقف السياسي بالمعطيات المهنية يوقعهم في المحظور، سيما وأن البلاد تعيش ظروفاً استثنائية، لذلك نناشدهم الالتزام بالقانون وقواعد المهنة».
لكن الصحافي الحائز على جائزة «بيتر ماكلر» المكافئة للنزاهة والصحافة فيصل محمد صالح، يرى أن الصحافة ظلت تعيش أوضاعاً سيئة ومستمرة منذ سنوات حتى قبل فرض حالة الطوارئ.
وتابع: «قبل بداية هذا الحراك الجماهيري المعارض، فإن سلوك السلطة كان تسليط الأجهزة الأمنية على الصحافة، لمصادرتها وإيقافها، وفرض الرقابة عليها والتضييق على الصحافيين».
ويقول صالح إن أوضاع الصحافة ساءت جداً بعد فرض حالة الطوارئ، ووصلت بأزمة المهنة إلى قمتها، ويضيف: «لو حصرنا الأوضاع خلال الفترة الماضية، فهناك صحف يومية لم تصدر عشر مرات خلال شهرين، وصحف أخرى تمارَس عليها رقابة مباشرة، فيما يُمنع معظم الصحف من تغطية الأحداث».
ويوضح أن صحفاً يُسمح لها بنقل وتغطية الاحتجاجات والمظاهرات، لأنها تتيح «مساحات تغطية تغلب عليها وجهة النظر الحكومية»، بيد أن الصحف المصنفة على أنها «معارِضة أو غير متعاونة»، فتُمنع من تغطية الاحتجاجات تماماً، ويضيف: «هناك قائمة طويلة من الصحافيين تم اعتقالهم، وفي أثناء تغطية المظاهرات يتم استهداف الصحافيين بشكل مباشر لتعطيل التغطية».
من جهته، يصف رئيس الاتحاد العام للصحافيين السودانيين الصادق الرزيقي، واقع الصحافة الآن بأنه «ليس جيداً وليس مطمئناً، سيما بعد إعلان الطوارئ»، ويقول: «بذلنا كاتحاد جهوداً مكثفة لإطلاق سراح عدد من الزملاء الصحافيين، وعقدنا لقاءً مع رئيس الجمهورية حول أوضاع الصحافة، ووجدنا منه تجاوباً جيداً».
ويرى الرزيقي أن الأوضاع «تراجعت فجأة، خصوصاً بعد اعتقال الزميل عثمان ميرغني لأسباب غير معلومة، وزادت حدة الرقابة، وأُوقف صحافيون عقب كل مظاهرة أو احتجاج»، وأضاف: «يتم توقيف الزملاء لكن بأي اتصال مع الحكومة يتم إطلاق سراحهم».
وبدا الرزيقي قلقاً من حدوث المزيد من التدهور في الحريات الصحافية بعد إعلان حالة الطوارئ، واصفاً الأوضاع بأنها «مخيفة»، وقال: «بعد إعلان الطوارئ أصبح الموقف مخيفاً، لأن الطوارئ فيها مقيدات للعمل الصحافي، وحد لحرية الصحافة». بيد أن الرزيقي يرى «بصيص أمل» يتمثل في أن باب الحوار لا يزال مفتوحاً بين اتحاده والسلطات الحكومية، وقال: «نحن في حوار مستمر لتعزيز الحريات الصحافية ومعالجة المشكلات الناشئة عن الطوارئ».
وتوقع رئيس اتحاد الصحافيين معالجة أمر اعتقال رئيس تحرير صحيفة «التيار» عثمان ميرغني، في وقت قريب، وقال: «نتوقع أن نصل إلى حل لقضية اعتقاله في غضون أيام».
وتواجه الصحافة السودانية إلى جانب الرقابة الأمنية والتضييق على الحريات والمصادرات ومنع الطباعة، صعوبات عديدة تهدد وجودها واستمرارها، فهي تعاني من ارتفاع كلفة إنتاجها بسبب الضرائب الباهظة التي تفرضها السلطات على مدخلات إنتاجها، ومن تأثير السلطات الأمنية على توزيع الإعلان، إضافة إلى فرض القيود على «حق الحصول على المعلومات».
وأدى مجمل هذه الصعوبات إلى تراجع ترتيب البلاد حسب «مؤشر حريات الصحافة» الذي تصدره «منظمة مراسلون بلا حدود» لعام 2018، إلى المركز 174 من المؤشر البالغ 180، بعد كانت في الأعوام السابقة تحتل المركز 172 منه، وهو ما دفع الحائز على «القلم الذهبي» وعميد الصحافيين محجوب محمد صالح، إلى القول باكراً: «الصحافة السودانية تعيش أسوأ أوضاعها».
الصحافة السودانية... الحريات تحت مطرقة «الطوارئ»
اتحاد الصحافيين يصف الأوضاع بـ«المخيفة» والحكومة تحذّر من أجندات
الصحافة السودانية... الحريات تحت مطرقة «الطوارئ»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة