مطاعم البلدة القديمة لا تكتمل الرحلة الدينية إلى القدس من دونها

غريبٌ أمر مطاعم البلدة القديمة في مدينة القدس؛ إنها ما زالت تتمسك بشكلٍ أو بآخر بقانون «الستاتيكو» الذي وضعته الدولة العثمانية بهدف الحفاظ على المقدسات والأماكن الدينية في المدينة العتيقة؛ حتى لا يمسّها تغيير من أي طائفة دينية؛ هذا القرار من الواضح أنه انسحب أيضا على أصناف الأطعمة الشعبية فيها.
تعجب وإعجاب يتجاذبان الإعلامي الفلسطيني أحمد البديري؛ كل منهما يشده من طرفٍ أثناء تأمله لمشهد الحياة لدى أصحاب المطاعم التاريخية الثابتين على أسلوبهم في تقديم الطعام على مدار مئات السنين.
«الستاتيكو» هنا جمود له سحره؛ فالتاريخ يُغدق بكرمه على المارّين به؛ إذ أن من يأكل من أطعمة القدس اليوم لا يختلف أبدا عن أي شخص أتى قبل 200 أو حتى 500 عام.
تأخذ «الشرق الأوسط» جولة مع البديري الذي سبق وأن قدم برامج تنقل الحياة على حقيقتها في مدينة القدس؛ ليحدثنا عن وجه آخر لمطاعم قُدّر لها أن تقام في واحدة من أقدس بقاع الأرض وتحظى بشرف جِيرة المسجد الأقصى.
يبدو لذيذا الحمص الذي يقدمه مطعم «أبو شكري»؛ فــ«الحمص البيروتي» المزيّن بالبقدونس لا يقاومه أحد؛ أبو شكري توفاه الله منذ سنوات؛ وورثه 3 أبناء؛ صار لكل منهم دكان؛ الدكاكين الثلاثة تقدم نفس الصحن بكل حذافيره؛ وأنت تختار أقربهم إليك؛ إذا كنت متجها إلى الصلاة في الأقصى ستجد محلاً في «طريق الواد»؛ وإن كنت تسير في حارة النصارى ستجد محلاً آخر؛ أما الثالث فقد انتقل إلى بيت حنينا أي خارج البلدة القديمة.
«مطعم جعفر» وجهتنا الثانية؛ والذي يقدم حلويات شرقية متنوعة من أهمها الكنافة؛ وهذا ما في جعبة الرجل: «يقال بأنك إذا جئت إلى القدس ولم تأكل من كنافة جعفر فأنت لم تأتِ؛ جعفر لا يقبل التنويع؛ الكنافة بنفس النوع والطعم والشكل؛ ومن يشكو الملل من نوعها الوحيد فذلك شأنه».
يضيف البديري: «يوجد مطعم «حبيبة» في الأردن للحلويات وتربطه صلة نسب بجعفر؛ لقد أصبح «حبيبة» شبكة مطاعم رائعة تواكب المستجدات؛ لكن ما باليد حيلة؛ فــ«جعفر» يغسل الأطباق باليد وبنفس طريقة جدّ جده؛ في هذا المحل لا توجد مياه معدنية للشرب؛ كل ما هنالك إبريق ماء حديدي مع كاسات زجاجية قديمة».
في «زلاطيمو» يمكنك أن تستمتع بحلوى المّطبق، ولا شيء غير المطّبق سواء جئت في الصيف أم الشتاء؛ اليوم أو قبل 200 عام؛ هذا المحل يقع عند بوابة كنيسة القيامة؛ وخلف جدار المطعم الباب الرئيسي للكنيسة؛ يحاول قائد الجولة الوصف: «أنت في الحقيقة لا تأكل مطبقا بل تاريخ؛ أي أحد تصادفه هناك لا بد أن يسرد على مسامعك قصة؛ إنه أكثر مطعم كلاسيكي يمكن أن تصادفه في حياتك؛ إلى درجة أنه قد يسقط من سقفه المهترئ شيء من «الطِراشة» في طبقك؛ والمفارقة أن أبناء عم «زلاطيمو» افتتحوا مطاعم كبرى في دبي والأردن ونجحوا في استثماراتهم في مجال الحلويات».
لم ننتهِ بعد؛ هيا بنا إلى «مطعم كوستا» ستشعر حتماً أنك تدلف إلى مطعم بالخمسينات؛ حَمام محشي وستيك دجاج ولا ثالث لهما ويشهد المطعم إقبالا كبيرا على حَمامه؛ لديه خمس طاولات فقط و«السفرجي» عمره 70 عاما يرتدي بدلة من الزمن الجميل مع ببيونة؛ ومطبخه لا يتجاوز المترين مما يحول دون تنويع الوجبات التي يتطلب إعدادها مساحة أكبر بطبيعة الحال.
إنها حقيقة لا يختلف عليها اثنان؛ من يزور مدينة القدس مسلماً كان أو مسيحياً لن تكتمل رحلته إلا بالاستمتاع بنكهة الطعام التاريخية، وعلى هذا الوتر تعزف جولتنا.
في أول سوق العطارين الذي يتسم بالضيق والعتمة؛ هناك مطعم صغير بالكاد تبلغ مساحته 5 أمتار؛ لا حاجة له للائحة طعام فهو يبيع فقط الكباب الذي يضيف إليه الكثير من البقدونس وذلك بسعر زهيد «دولارين ونصف الدولار» أي نحو 10 شواكل؛ وهذا يعد رخيصا مقارنة بأي مطعم كباب يقع في منطقة أخرى؛ لديه 3 طاولات لا تفرغ طوال اليوم؛ وعدد الواقفين أكثر من الجالسين؛ وفق ما تنقله لنا عين البديري.
وعن عمر هذه المطاعم، يذكر أنه لا أحد يعرف عمرها الحقيقي؛ وكل له روايته؛ وكلهم يروق لهم التفاخر أن مطاعمهم أقيمت من أيام الصليبيين.
ويلفت الانتباه إلى أن الشكل الإداري لهذا النوع من المطاعم مستمر بالنسق ذاته؛ فلا يمكن أن تجد امرأة تعمل نادلة أو طاهية؛ هنا تقتصر وظيفة الخدمة على الشباب فقط؛ ويفصح عن السبب: «منذ قديم الزمان لم يسمح العُرف بأن تعمل المرأة في مطعم على اعتبار أن ذلك عيباً؛ ولو عدنا إلى التاريخ سنجد أن نساء العائلات المرموقة في المدينة كان يصلهن الطعام جاهزا؛ فالسيدة المقدسية في الماضي حظيت بمكانة مميزة في المجتمع وهذا انطبق على نساء بعض المدن مثل نابلس ودمشق والقاهرة؛ هي مَلكة وأمرها مُجَاب؛ لا تطبخ بل يأتيها المطعم إلى بيتها».
ثمة نقطة تسجل لصالح مطاعم البلدة القديمة تكمن في حفاظها على الأسعار الرخيصة؛ يتطرق ابن «مدينة المدائن» في كلامه مع «الشرق الأوسط» إلى الجانب الاقتصادي: «قبل 100 عام لم يَملك الناس الكثير من المال كما اليوم؛ أي أن الفقر فرض أسعاراً مناسبة؛ لم يكن بوسعهم شراء اللحم إلا مرة واحدة شهريا؛ حتى الغني لم يأكل اللحم كل يوم لأنه لا ثلاجة في البيت في ذلك العهد؛ وحينها كان يضطر للذهاب إلى اللحام ليتناولها في اليوم نفسه؛ الناس كانوا يستبدلون «شُقف الخروف» بالكباب لأن ثمنه في متناول الجميع؛ ولو نظرنا إلى أسعار الحمص والكنافة فإنه لم يطرأ عليها تغيير منذ عشر سنوات».
«الأسعار الزهيدة سببها الطلب المرتفع من الوفود التي لا تنقطع»... لا يتفق البديري تماماً مع هذا الرأي؛ فمن وجهة نظره أن ثمة سببا أقوى؛ وهو أن الأكلات الشعبية مثل الحمص لا يجوز أن يرتفع ثمنها؛ إنها «شعبية» اسم على مسمى، ومن يسكن في البلدة القديمة حتى لو كان غنيا فإنه يتناول هذه الأطعمة لأنها تذكره بجذوره وتاريخه.