بومبيو: أستمتع بكل دقيقة من وقتي... والعقد الماضي كان أشبه بالرحلة المجنونة

حديث عن الأفلام والموسيقى والعائلة في منزل وزير خارجية الولايات المتحدة

مايك وسوزان بومبيو مع ضيوفهما خلال تصوير حلقة تلفزيونية (الصورة من: بيل غوناستي)
مايك وسوزان بومبيو مع ضيوفهما خلال تصوير حلقة تلفزيونية (الصورة من: بيل غوناستي)
TT

بومبيو: أستمتع بكل دقيقة من وقتي... والعقد الماضي كان أشبه بالرحلة المجنونة

مايك وسوزان بومبيو مع ضيوفهما خلال تصوير حلقة تلفزيونية (الصورة من: بيل غوناستي)
مايك وسوزان بومبيو مع ضيوفهما خلال تصوير حلقة تلفزيونية (الصورة من: بيل غوناستي)

أضاف صعود وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى القمة، منذ انتخاب دونالد ترمب رئيساً للبلاد، الكثير من التحديات على كاهل جماعات الضغط السياسي، والمستشارين من مختلف التيارات، والمحنكين بأعمال السياسة في العاصمة واشنطن لسنوات.
وعلى غرار ترمب، لا يعد مايك بومبيو من أبناء المؤسسة الحاكمة الخلصاء في العاصمة الأميركية. وعلى غرار الرئيس الأميركي أيضاً، لا تزال شخصية بومبيو تحمل الكثير من الغموض والألغاز بالنسبة إلى المشتغلين بألاعيب السياسة الأميركية والعالمين بخفاياها ودهاليزها الكثيرة.
فالرائد البارز خريج كلية الحرب في ويست بوينت، والذي ترجع أصوله إلى ولاية كانساس، والمنتخب لعضوية الكونغرس الأميركي، كان قد اقتنصه الرئيس ترمب لشغل ذلك المنصب الرفيع بالغ الحساسية على رأس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) عام 2017.
ومنذ ذلك الحين، صار أحد كبار رجال البيت الأبيض القلائل الذين يعرفون تماماً كيفية التعامل مع الرئيس دونالد ترمب، وأن ينالوا ثقته الأكيدة، وأن يشيع مناخاً من الارتياح لدى الجانبين عبر علاقات العمل الدافئة والرصينة. ولهذا السبب فوجئ عدد غير كبير من المتابعين بقرار ترمب تعيين السيد بومبيو، عام 2018، على رأس وزارة الخارجية التي كان لوزيرها السابق – ريكس تيلرسون – قدر لا بأس به من التوترات المعروفة مع الرئيس الأميركي.
لقد عرفت دونالد ترمب منذ أن كنت في العشرينات من عمري. إنني من أصدقائه، ومن أنصاره الأوائل، ولقد كنت أنا وبيل مندوبيه في ولاية كاليفورنيا. وكنت، أنا وبيل، صبيحة يوم التنصيب نتناول الإفطار رفقة أخته إليزابيث وزوجها جيم. وكنا ضمن «العائلة والأصدقاء» المدعوين إلى فندق ترمب في واشنطن خلال هذا الأسبوع التاريخي. ولقد سألتني إليزابيث قائلة: ما أكبر التحديات التي يمكن أن تواجه أخي؟
فأجبتها مباشرة: «أن يعمل مع حكومة كبيرة. لم يشرف على تعيين أغلب رجالها بنفسه. والبعض الآخر ممن اختارهم بنفسه، لكن لم يسبق له العمل المباشر معهم من قبل». واستطردت: «بعضهم لن يحترم وجوده رئيساً عليه. وبعضهم لن يفهم أسلوبه الخاص في العمل. والبعض الآخر لن يحظى بالمقدرة على تبني رسالته بإيمان وفاعلية».
وقد برز نجم مايك بومبيو إلى صدارة الأحداث بالفعل، ولا سيما في ضوء إبعاد الكثير من الأعضاء الرئيسيين في مجلس وزراء ترمب الأول.
كنت شغوفة كي ألتقي بومبيو في مناخ يتسم بالهدوء والراحة؛ حتى أعرف المزيد عن شخصية الدبلوماسي الأول للولايات المتحدة، فضلاً عن الأسباب التي جعلته يواصل العمل مع الرئيس ترمب حتى الآن، بخلاف بعض أقرانه.
كما سمعت أيضاً من بعض المطلعين في واشنطن أن بومبيو يفضّل دائماً أن يبدأ خطابه بعبارة: «سوزان وأنا سعيدان بتواجدنا هنا».
وكان إلحاقه اسمه بعد اسم زوجته دوماً من الأمور التي أزعجت البعض في واشنطن. لكن ذلك كان من اللفتات التي أثارت إعجابي للغاية. إن الرجل يحب العمل مع زوجته، ويمكن للجميع الاستفادة من ذلك. إنه نوع من أنواع العمل الجماعي، فما الضير من ذلك؟!
ولقد أعربت جهات معنية بمراقبة أخلاقيات العمل الدبلوماسي عن ملاحظاتها بأن «شريك الحياة ليس من شأنه توجيه دفة العمل العام أو موظفي الحكومة». وأصدر بعضهم صخباً بسؤاله عن أهمية مشاركة سوزان بومبيو لزوجها في ثماني رحلات أثناء فترة توقف الحكومة الأميركية عن العمل مؤخراً. وزعموا أن سفرها يستلزم وجود وعمل الموظفين لمساعدتها في حين أنهم لا يتقاضون أجرهم عن ذلك. ومن جهة أخرى، علمت من بعض الأصدقاء المشتركين في واشنطن أن سوزان بومبيو، وهي امرأة ذات معدن أصيل، تفضّل معاونة زوجها في أعماله، ودعمه بكل ما تستطيع الزوجة أن تدعم زوجها.
فلِمَ لا؟
لذا؛ عندما شرعت في برنامج تلفزيوني جديد وتقابلت مع السكرتير الصحافي الأسبق للبيت الأبيض شون سبايسر، مع أصدقائي في شركة وارنر براذرز (ليزا وتيريزا)، رحبت بإجراء مقابلة خاصة مع الزوجين مايك وسوزان بومبيو.
وصلنا إلى منزل الزوجين في أمسية باردة وعاصفة. وكانت سوزان مريضة بعض الشيء، لكنها تجمّلت بوجه شجاع كالمعتاد، وقررت الظهور على شاشات التلفزيون بالطريقة نفسها؛ الأمر الذي أبهجني وأسعدني كثيراً.
وأثناء محاولة طاقم العمل المرافق العثور على الموضع المناسب للتصوير، انخرطت أنا وبيل في محادثة شيّقة مع الزوجين بومبيو. وأدركت على الفور سبب الانسجام الواضح الذي استشعره الرئيس ترمب حيال مايك بومبيو.
حتى أثناء حديثنا عن بعض القضايا بالغة الأهمية مثل الكتاب القادم من تأليف بيل، والمعرفة العميقة التي يملكها حول شخصية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أو صداقتي القديمة مع رئيس الوزراء الباكستاني الحالي عمران خان، كان تبادل الآراء مع الرجل ظريفاً وممتعاً ومنيراً، مع الكثير من المزحات اللطيفة التي نتلقفها من بعضنا البعض جيئة وذهاباً.
ولمّا تذكرت كيف استمتع الرئيس ترمب والسيدة الأولى ميلانيا بالضحكات اللطيفة معي، في لقائنا الأخير معه، أدركت الأمر تماماً.
فإنه في خضم أجواء التوتر المستمرة، والأخبار المتواترة من هنا وهناك، والتحقيقات الجارية، يكون الاجتماع مع بومبيو من أفضل اللحظات التي يحظى بها ترمب. حتى مع الأنباء السيئة أو المزعجة، فإن الرجل يبثها لرئيسه بطريقة ذكية وسريعة لا تثير حفيظته. أجل... لا مانع من مزحة أو اثنتين تلطيفاً للأجواء الملبدة بالغيوم السياسية الكئيبة.
ولقد أثار بومبيو إعجابي كذلك؛ لأنه الرجل الذي يملك الإجابة السريعة المتوازنة عن كل سؤال قد يتبادر إلى ذهننا أثناء اللقاء. ومن المعروف عن الرئيس ترمب أن يحب طرح الأسئلة طيلة الوقت؛ إذ يعتبر ذلك من أدوات صناعة القرار السياسي السليم. كما أن مجال انتباهه للتفاصيل موجز بحكم كثرة القضايا والمسائل التي يتناولها في كل يوم. وبالتالي، يعد بومبيو هو الشخصية المثالية للتعامل مع السيد الرئيس. ويمكنني تصور مباراة كرة الطاولة السريعة للغاية التي قد يستمتع بها الرجلان!
ولقد تغيّرت رؤيتي كثيراً، إثر تمضية تلك الأمسية الرائعة رفقة الزوجين بومبيو، بشأن بعض المسائل، عندما بدا وزير خارجية الولايات المتحدة متبسماً في الوقت الذي توقع الكثيرون من حولنا أن يروا وجهه عابساً. إن مايك بومبيو رجل مرح دمث الأخلاق. إنه دائم الترحيب والابتسام لكل من حوله. إنها طبيعته الشخصية، من دون تكلّف دبلوماسي ظاهر. لكن، لا يجب الخلط بين أخلاقياته الهادئة وبين صرامته وتركيزه الكبير على أهداف الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية.
وكما أخبرتني زوجته سوزان: «يا لها من أمسية ممتعة. لقد استمتعنا بالحديث عن جملة من الموضوعات الأخرى مثل الأفلام، والموسيقى، والعائلة، والطعام. وهي ليست من الأمور التي يجيب مايك عن الأسئلة بشأنها في كل يوم».
وبالعودة إلى مشهد العائلة اللطيف الهادئ.
أثناء استعداد سوزان للتصوير، لفت «شيرمان» – كلب الأسرة – اهتمام الجميع. وهو كلب أبيض أنيق، يزن نحو 120 رطلاً. ويشتكي بومبيو من بدانة كلبه المفرطة. ولقد أدلى كل منا بدلوه في أفكار غير مألوفة حتى يفقد «شيرمان» بعض السعرات الحرارية اللازمة.
يتسم المنزل الذي استأجرته العائلة بأنه قديم، ولا أستطيع الكشف عن موقعه للقراء. لكنهم اختاروه لأسباب رسمية كما تبدّى لي. وقالت زوجته إنها تناقشت معه بشأن صعوبات صيانة المنازل القديمة. ورغم أنه منزل متواضع، فإنهما نجحا في تحويله إلى منزل أسري دافئ ولطيف. وعلى الرغم من جدول السفريات الساخن والمحموم لوزير خارجية البلاد، فإن العائلة والمنزل من القيم الأصيلة لديهما رغم كل شيء.
فكلاهما ينحدر من ولاية كانساس. وقالت لي السيدة سوزان إنها أمضت جُل حياتها هناك، وإنها انتقلت إلى العاصمة واشنطن فقط مع تولي زوجها منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية. وحينها تغيّرت حياتها كلياً. وهي تحاول دعم وإسناد زوجها على الدوام. أجل... ما زلنا نفتقد كانساس كثيراً، كما قالت.
يمكنك ملاحظة أنهما يحملان حباً وتعلقاً وشغفاً كبيراً بالريف الأميركي في قلوبهما. فهو يحب الاسترخاء، والاستماع إلى الموسيقى الريفية، هذا إن أتيحت له برهة من الوقت أثناء سفره وترحاله المستمرين. وقالت سوزان: «إنني أحب الاستماع لأغنيات توبي كيث. وأعشق الموسيقى الريفية للغاية. كما أحب الاستماع إلى الأغاني القديمة من المرحلة الثانوية».
استمر زواجهما منذ 20 عاماً، ولديهما نجل واحد بالغ يدعى نيكولاس.
طاف مايك بومبيو مختلف عواصم العالم خلال الشهور القليلة الماضية. ومع ذلك لا يزالان يشكلان فريقاً عائلياً مترابطاً ومتماسكاً للغاية.
تقول سوزان: «عندما يكون مسافراً وأبقى أنا هنا، نحاول الحديث مرة على الأقل يومياً».
ويجيب مايك: «أجل، إننا نبذل قصارى جهدنا للتواصل المستمر». وتضيف سوزان: «وعندما يهاتفه ولدنا، فإن ذلك يكون على قائمة أولوياته بالطبع».
وفي حال الإقامة من دون سفريات، فإن العائلة تفضل الذهاب إلى دور السينما سوياً.
تقول سوزان: «يحب مايك فريق (كوين) الغنائي؛ ولذلك ذهبنا لمشاهدة فيلم (بوهيميان رابسودي) في عطلة نهاية الأسبوع». ويعلّق مايك قائلاً: «يا إلهي... لكم أحببت هذا الفيلم». وتردف سوزان بالقول: «كما ذهبنا لمشاهدة فيلم (مولد النجم)، إنني أحب هذا الفيلم كثيراً».
وقد ثارت في الآونة الأخيرة بعض الإشاعات عن ترشح مايك بومبيو لمقعد مجلس الشيوخ عن ولاية كانساس، مع تردد أنباء عن قرب تقاعد السيناتور الجمهوري الحالي عن الولاية باتريك روبرتس؛ مما يفتح الأجواء أمام سباق انتخابي على المقعد الشاغر. وافترض الكثيرون أن السيد بومبيو سيغادر منصبه في الخارجية الأميركية لأجل ذلك، والانتقال إلى الاهتمام بالسباق الانتخابي المتوقع، ومحاولة التواصل مع الجهات المانحة ومع الناخبين. وكان زعيم الأغلبية بمجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل يحض مايك بومبيو على المضي قدماً في هذا الطريق.
وأشار بعض المراقبين إلى أن المرشحين الرئاسيين قد يحتاجون إلى مؤازرة من بعض الشخصيات في مجلس الشيوخ، إضافة إلى وجود لقب وزير الخارجية الأسبق على رأس الأوصاف الوظيفية في السيرة المهنية. فضلاً عن الخلفية العسكرية الرفيعة التي يحظى بها السيد بومبيو، كما هو معروف.
ومن يدري ماذا سوف يجلب المستقبل بعد عهد دونالد ترمب؟ وحتى الآن، لماذا لا نتخير أنسب الأماكن لأنفسنا؟
ومع كل شيء، فإن بومبيو لا ينوي السير في هذه الطريق. ليس الآن على أدنى تقدير.
وقال مايك بنفسه: «لقد كان العقد الماضي أشبه بالرحلة المجنونة، ومثيراً للروع والإعجاب في آن واحد. من نيابة الكونغرس، إلى الاستخبارات المركزية، إلى الخارجية الأميركية. لا يزال على قائمتي عدد من الأمور أنوي القيام بها في وزارة الخارجية. وآمل أن أتمكن من ذلك خلال مزيد من الوقت. إنني أستمتع بكل دقيقة من وقتي هناك (في الخارجية)».
وكان السيد مايك بومبيو يتأهب، مرة أخرى، للسفر إلى الخارج عقب لقائنا الممتع مباشرة!


مقالات ذات صلة

ترمب يكشف عن سلسلة تعيينات جديدة في حكومته

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بمناسبة سابقة برفقة روبيو في يوليو 2024 (أ.ف.ب)

ترمب يكشف عن سلسلة تعيينات جديدة في حكومته

أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب عن أسماء جديدة لشغل مناصب رفيعة ضمن حكومته المقبلة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي تساؤلات حول نوع الضغوطات التي قد يمارسها ترمب على نتنياهو (أ.ف.ب)

تقرير: ترمب سيشرف شخصياً على المفاوضات بشأن أزمة غزة

قالت كارولين ليفيت، التي أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب أنها ستكون متحدثةً باسم البيت الأبيض، لموقع «أكسيوس»، إن ترمب سيشرف شخصياً على المفاوضات

الاقتصاد الملياردير إيلون ماسك يظهر أمام الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

إيلون ماسك أكثر ثراءً من أي وقت مضى... كم تبلغ ثروته؟

أتت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024 بفوائد على الملياردير إيلون ماسك بحسب تقديرات جديدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ دمار جراء غارة إسرائيلية في غزة في 22 نوفمبر 2024 (رويترز) play-circle 01:41

ترمب ووعد إنهاء الحروب: ورقة انتخابية أم خطط واقعية؟

انتزع ترمب الفوز من منافسته الديمقراطية، معتمداً وعوداً انتخابية طموحة بوقف التصعيد في غزة ولبنان، واحتواء خطر إيران، ووضع حد للحرب الروسية - الأوكرانية.

رنا أبتر (واشنطن)
الولايات المتحدة​ سكوت بيسنت مؤسس شركة الاستثمار «كي سكوير غروب» يتحدث في مناسبة انتخابية للرئيس ترمب (رويترز)

ترمب يكشف عن مرشحيه لتولي وزارات الخزانة والعمل والإسكان

رشّح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، سكوت بيسنت، مؤسس شركة الاستثمار «كي سكوير غروب»، لتولي منصب وزير الخزانة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!