تاريخ يستعاد ولا يُعاد عن مجلات هوليوود الشعبية

«سوبرمان» عملة قديمة أكل الدهر عليها وشرب، وتم إطلاقها تلفزيونيا وسينمائيا في العديد من المرات. وإذا كان ذلك لا يكفي فإن بعض الكبار بيننا يتذكّرون محاولة نشر مجلة «كوميكس» بطلها شخصية ذلك البطل الطائر بحرف «S» كبيرة على صدره.
لكن لأنه عملة قديمة متآكلة، فإن سعر العدد الأول من مغامراته المطبوعة على ورق مرسوم باليد بلغ على موقع «إيباي» يوم أول من أمس مليونا و600 ألف دولار، وذلك من بعد 24 ساعة من إطلاق المزاد الذي قام به الموقع المذكور.
غلاف ذلك العدد لا يقدّم فقط القصّة المرسومة الأولى لسوبرمان في مجلة غابرة اسمها «Action Comics»، بل العدد الأول من تلك المجلة ذاتها وهي التي صدرت آنذاك شهريا ثم أسبوعيا ولا يزال صدورها متواليا حتى اليوم. أكثر من ذلك، يلخّص العدد ماهية هذا «السوبر هيرو»، فالغلاف يصوّره وهو يرفع سيارة من سيارات الثلاثينات من دون عناء لترتطم بصخرة وتتهشّم. وعلى الأرض رجل خائف وآخر يركض هربا بخوفه. أما في المقدمة فرجل ثالث يبتعد وعلى وجهه علامات دهشة كمن يقول «لا أصدّق ما أرى».
الصفحات، كما وعد مالك المجلة دارين آدامز المشترين، لم تتعرّض لغبار الأيام: «كان هناك شخص في عام 1938 اشترى العدد من كشك صحف واحتفظ وعاد به إلى منزله في وست فيرجينيا واحتفظ به داخل خزنة من خشب الأرز». داخل تلك الخزنة وفي ظلامها الدامس ودرجة رطوبتها شبه المعدومة حافظ الورق على قيمته وعلى لونه، فلم يتغير إلى لون أصفر وشاحب. لكن بالطبع لم يكن والد السيد آدامز هو الوحيد الذي اشترى تلك المجلة، بل هناك عديدون لا يمكن حصرهم الآن. أحدهم قام ببيع نسخته من العدد الأول من المجلة ذاتها سنة 2011 بمليونين و100 ألف دولار.

* المحرك الفعلي
في تلك الحقبة من الزمن لم تكن مجلات الكوميكس منتمية إلى عالم السينما كما هو حال هذه الصناعة الشعبية اليوم. إلى جانبها انتشرت وسائط مختلفة من التواصل مع الجمهور الكبير. فالروايات البوليسية الشعبية (المعروفة بـ«Pulp Fiction») كانت وجها آخر من هذه الوسائط، كذلك الأفلام التي لم ترد أن تحكي سوى أحداث تشويقية متحركة كانت وجها ثالثا. وفي كل من هذه الأوجه والحقول كانت هناك شخصيات بطولية لم يكن سوبرمان سوى واحد منها، بينما شهد الميدان العريض أبطالا آخرين أمثال التحري دك ترايسي، وبطلة عالم الخرافات «هي» (أو She) وملك الغابة الأفريقية الأبيض طرزان، وملك الغابة اللاتينية «ذا فانتوم»، وقاهر الفضاء «كابتن أميركا» ومثيله «فلاش غوردون». وعلى حافة الغرب الأميركي كان هناك «رد رانر» و«بيل هيكوك» و«تكس رانجر» و«زوزو» و«ذا لون رانجر» والعديد سواها.
لكن السينما هي التي تميّزت عن المسلسلات الإذاعية والمطبوعة بأنها كانت مصوّرة تنتقي من بين البشر من يمثّل هذه الأدوار ويمنحها الحياة. وبديهي أن هؤلاء الممثلين كانوا من الكثرة والتنوّع بحيث شكّلوا السبب الذي من أجله هب ملايين الأميركيين كل أسبوع إلى صالات السينما ليتابعوا ممثليهم. ما يُسمى بـ«النجومية» كلمة مطاطّة جدا ولا تصلح لوصف ذلك التعلّق الكبير من قِبل المشاهدين بالمرتسمين على الشاشة في الأدوار الأولى والثانية وبل حتى الثالثة في الكثير من الأحيان.
كل ذلك كان «موتور» الصناعة الفعلي الأول. المحرّك الذي يدفع بصناعة السينما إلى الأمام. ومثل كل صناعة كان بحاجة إلى صيانة. لهذا الغرض عرفت الأسواق، إلى جانب مجلات الكوميكس التي استعارت لقطاتها من التوزيع السينمائي (كلوز أب، لقطات متوسّطة وبعيدة، إلخ...)، مجلات تعنى فقط بنجوم السينما وتلاحق أخبارهم. العمل السينمائي بأسره كان بالنسبة لهذه المجلات محصورا في تلك الوجوه التي تظهر على الشاشة وحكايات الحياة والشهرة التي يمكن كشف النقاب عنها.
أولى هذه المجلات كانت «موشن بيكتشرز ستوري» التي أطلقها ج. ستيوارت بلاكتون، وهذا كان مخرجا في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ولردح من القرن العشرين. تبوأ منصب رئيس استوديو فيتاغراف في نيويورك التي كانت عاصمة السينما الأميركية لسنوات قبل النزوح غربا إلى هوليوود، وهو من تولى إصدار هذه المجلة التي واكبت السينما من عام 1911 وحتى عام 1977. في مطلع عمرها طبعت 50 ألف نسخة. في عام 1914 ارتفع توزيعها إلى 200 ألف نسخة، وفي عام 1919 وصل إلى 400 ألف نسخة.

* حكاية زقاق صغير
في عام 1911 ذاته تم نشر العدد الأول من مجلة أخرى أرادت مواكبة صناعة السينما الوليدة هي «فوتوبلاي». أكثر من «موشن بيكتشرز ستوري»، جاءت «فوتوبلاي» كنموذج لنوع المجلات الفنية الشعبية، تلك التي تتابع أخبار النجوم وتحتفي بالممثلين والممثلات. تجاوز توزيعها نصف مليون نسخة في بعض السنوات، لكن عموما حافظت على معدل قوامه 250 ألف نسخة شهريا.
على شاكلتها انطلقت عشرات المجلات المشابهة: «موفيلاند»، «راديو 47»، «سكرين لاند»، «موفي ستارز»، «سكرين ستوري»، «مودرن سكرين» «هوليوود لايف» والكثير سواها.
هذه المجلات، كشأن كل شيء أميركي، لم تكتف بالتوزيع المحلي. مثلها مثل صناعة السينما نفسها، ومثل المشروبات الغازية وشفرات الحلاقة وأقلام باركر وسراويل الجينز وسواها، غزت العالم. في أكثر من عاصمة عربية كان يمكن التقاط أي من هذه المجلات مع مطلع كل شهر ناقلة للجمهور العربي، كما لسواه، أخبار المشاهير السينمائية وحياتهم الخاصّة ومن يصادق من وهل هناك علاقة غرامية بين هذا الممثل وتلك أو أنها شائعة ينفيها الطرفان بشدّة.
في بيروت، ولمن كانت مثل هذه المجلات تشكل عبئا اقتصاديا على الجيب، كان القارئ يستطيع الانتظار حتى يوم الأحد من كل أسبوع ليزور زقاقا صغيرا كان يمتد ما بين شارعين في وسط بيروت. فمن بعد سينما روكسي وقبل الوصول إلى سينما دنيا (على مسافة عشرين مترا) امتد هذا الزقاق الذي يستعرض فيه أحد الباعة المجلات المذكورة والعشرات سواها. ما زالت جديدة ولو متأخرة شهرا أو شهرين عن الأعداد الأخيرة، لكن نصف صفحة الغلاف مقطوع. النصف الغائب هو الذي يحمل اسم المجلة وغيابه يعود إلى أن شركات التوزيع كانت ملتزمة بإرسال ما يثبت عدم بيع النسخ من أي مجلة كانت، وذلك بإرسال ذلك النصف إلى المصدر.
هذا لم يوقف الهواة عن شراء المجلات بسعر أقل من ربع ما كانت تباع به قبل أسابيع قليلة والجميع كان راضيا: الزبون احتوى على مجلة ليست قديمة جدا، والبائع الوسيط (الذي كان موظّفا لدى شركة التوزيع) استفاد واستفادت هي من عملية غسل منتوجاتها قانونيا.

* براثن الغزو
هواة السينما الشباب كانوا غالبا ما يطلبون من أولياء أمورهم تمويل حبّهم لهذه المجلات (وللأفلام أساسا) إذ كانت الأسعار رخيصة جدا. اليوم وبمزاد كالذي يطمح لبيع عدد واحد من مجلة غابرة بأكثر من مليوني دولار (مدة المزاد الخاص بمجلة «أكشن كوميكس» هي سبعة أيام من اليوم)، لن يتمكن أحد من تمويل حبّه أو فضوله.
في عهد الثقافة الإلكترونية كل ذلك اختفى. مجلات السينما الباقية هي تلك الجادة ونصف الجادّة، وهي أقل تنوّعا مما كانت عليه في الستينات والسبعينات. «سايت آند ساوند» ما زالت تصدر بعناد محبب، لكن «فيلمز آند فيلمينغ» و«سينما» و«موفي» و«سينما كوارترلي» و«فوكاس أون فيلم» وسواها العديد توقف. في فرنسا «بوزيتيف» و«كاييه دو سينما» تعاندان وتستمران (ومعهما عدد أقل شهرة وانتشارا من مجلات السينما) لكن عشرات سواها توقّـفت ربما أشهرها «لا ريفي دو سينما» (انطلقت أول مرة سنة 1928). في أميركا هناك – عمليا - مجلتان سينمائيتان ما زالتا تصدران هما «فيلم كومنت» و«سينياست» (ومجلات متخصصة مثل «سكريبت» عن السيناريو و«أميركان سينماتوغرافر» عن التصوير)، لكن تلك التي التصقت بالصبغة الصناعية ذاتها مثل «ذا هوليوود ريبورتر» و«فاراياتي» ما زالت تصدر لكنها أكثر نشاطا على الإنترنت من النسخ المطبوعة.
لكن إذا ما كان شأن السينما الجادة الارتطام بصخرة المتغيّر الاقتصادي والتطور التقني والمعاناة من ذلك «الاختفاء التدريجي» كما حصل، فإن شأن مجلات السينما الشعبية كتلك التي ذكرناها اصطدم بذات الصخرة القاسية ومنذ السبعينات، فتهاوت المجلات الخفيفة غير قادرة على مجاراة عزوف الناس عن قراءتها. هوليوود النظام وهوليوود النجوم وهوليوود الحكايات الفضائحية لم تعد تكفي لجلب جمهور جديد. ثم ما لبث أن غزت أجهزة الكومبيوتر كل تلك المساحات الخالية والشاغرة ومنحت الجمهور الجديد كل ما يحتاجه من كل شيء تحت الشمس، بما في ذلك مقالات فضائحية وتحقيقات حول الحياة الخاصّة وأخرى حول الجديد في العلاقات بين الممثلين ثم بينهم وبين الأفلام التي يقومون بتمثيلها.
ثقافة الفيلم باتت نادرة التأثير بعدما وقعت تحت براثن ذلك الغزو الذي جاء، بدوره، متسلّحا، بالقدرة على تحويل كل مشاهد سينمائي إلى «ناقد». كل ما يحتاجه هو الكتابة حول ما رآه وما شعر به حيال أي فيلم اشترى تذكرته.
ما هو مثير للإعجاب والاهتمام معا أنه في الوقت الذي حفلت فيه المجلات الاحتفائية بحكايات النجوم ومتاعبهم وأحوالهم الشخصية، كان يمكن التقاط نبض السينما وموجاتها. تلك المجلات كانت خفيفة في كل معيار ومقياس، لكنها كانت متعة لمن أحب السينما من خلال وجوه ممثليها على الشاشة وأراد أن يقتنص لنفسه صورة ذلك الممثل أو تلك النجمة. على عكس ما هو متاح اليوم، كان المشاهد يترك الفيلم الذي ترصّع بإيفون ديكارلو وبتي ديفيز وريتا هايوورث وآلان لاد ولوريتا يونغ وهمفري بوغارت وبيرت لانكاستر ومارلين مونرو أو جين مانسفيلد من دون أن يستطيع أن يأخذ منه قطعة لبيته يتلصص عليها. تلك المجلات منحته تعويضا إما على الغلاف أو فوق الصفحات داخل العدد. هناك كان يبني عالمه المتيّم من جديد.