المقاتلون الأجانب... إرث يُقلق الدول

معظمهم يعانون من اضطرابات عقلية أو نفسية

ثلاث مراهقات بريطانيات يغادرن لندن للانضمام إلى {داعش} في 2015 (أ.ب)
ثلاث مراهقات بريطانيات يغادرن لندن للانضمام إلى {داعش} في 2015 (أ.ب)
TT

المقاتلون الأجانب... إرث يُقلق الدول

ثلاث مراهقات بريطانيات يغادرن لندن للانضمام إلى {داعش} في 2015 (أ.ب)
ثلاث مراهقات بريطانيات يغادرن لندن للانضمام إلى {داعش} في 2015 (أ.ب)

تفكيك تنظيم داعش والتخلص من آثاره في كل من سوريا والعراق، خلف وراءه إرثاً وبقايا لمقاتلين قدموا من دول مختلفة وانضموا إلى التنظيم في فترة توهجه منذ عام 2014. هذا الإرث الذي لا ترغب غالبية الدول في تحمله. وأكبر مثال يعكس تورط كثير من الدول مع مقاتليها العائدين، ما نشر أخيراً في وسائل الإعلام حول شميمة بيغوم (19 عاماً) الملقبة بـ«عروس داعش»، حيث سلمت وزارة الداخلية البريطانية عائلتها رسالة تفيد بإسقاط الجنسية البريطانية عنها.

تثير هذه القضية من جديد إشكالية مرحلة ما بعد ما يسمى «الخلافة الداعشية»، حيث لا يدل التخلص على المنطقة الجغرافية التي تمركز فيها التنظيم سابقاً تلاشي أنشطته.
ففي زمن تقاطعت فيه الحضارات، أصبح من الاستحالة إيقاف أفكار وآيديولوجيات من الوصول إلى عقول المتعاطفين والمتأثرين والاقتناع بها حيثما كانوا. الأمر الذي تسبب في إثارة قلق عدد كبير من الدول ورفضهم استقبال المقاتلين الذين شاركوا في تنظيمات متطرفة، إذ إن ذلك يعد أشبه بقنابل موقوتة تتفجر في المجتمع وتنشر آيديولوجية العنف إن لم تتم معالجة إشكاليتها.

ترمب والمقاتلون
ما يعكس الجدل حول كيفية التعامل مع المقاتلين الأجانب هو دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأوروبيين لاستعادة مسلحي «داعش» الموجودين في سجون في سوريا، ويقدر عددهم بـ800 مقاتل من أجل محاكمتهم في بلدانهم، وذلك في أعقاب قرار الولايات المتحدة انسحاب قواتها من سوريا، وإصداره أيضاً أمراً بمنع عودة المتطرفة الأميركية هدى مثنى (24 عاماً) والملقبة كذلك بـ«عروس داعش» إلى الولايات المتحدة والموجودة في سجن في شمال شرقي سوريا ومعها ابنها. ويناقض ذلك دعوة ترمب الدول الأوروبية إلى استقبال المقاتلين المنتمين لدولهم. وتفرض مثل هذه القرارات التوغل في قناعات المتطرفين الذين توجهوا إلى مناطق الصراع، ومسببات انضمامهم، وإن كان هناك مجال لدمجهم وإعادتهم في مجتمعاتهم أم استحالة ذلك.

ندم العائدين
على الرغم من أن الأميركية هدى مثنى حاولت التأكيد على أنه قد تم التغرير بها، فإن ما قد يصعب من تصديق نياتها هو نشاطها السابق في حسابها في «تويتر»، إذ دعت فيه إلى القيام بهجمات إرهابية خلال الأعياد في الولايات المتحدة. وهو الأمر ذاته الذي يتقاطع مع قضية شميمة بيغوم، التي انضمت لتنظيم داعش في عام 2015، وبعد أن اعتقل زوجها الهولندي المنتمي للتنظيم هربت إلى مخيم لاجئين في سوريا إذ أنجبت طفلها. وعلى الرغم من كشفها عن القمع والفساد في التنظيم، فإنها ذكرت أنها لا تشعر بالندم على التجربة التي مرت بها لأنها جعلتها «شخصاً أقوى».
بينما ذكر خبير لغة الجسد دارين ستانتون، في لقاء مع محطة «سكاي نيوز»، أن شميمة لم تكن مقنعة في حديثها وأنها افتقدت إلى الصدق. مثل هذه التوجهات التي تقررها السلطات تسد الطرق على المقاتلين الآخرين الذين يجدون في إعلانهم الندم فرصة للعودة بعد أن استحال استمرار المعيشة في مناطق الصراع. من هؤلاء جاك الداعشي (22 عاماً) الذي يحمل الجنسيتين البريطانية والكندية، والذي أعلن عبر وسائل الإعلام تمنيه أن تقبل بريطانيا عودته إليها. وقد تزوج جاك الداعشي في الرقة من عراقية وأنجب طفلاً. وما يؤخذ عليه إعرابه عن سعادته الغامرة عند سماعه بحدوث اعتداءات باريس عام 2015 في تلك الفترة، وذلك نتيجة نقمته حيال الضربات التي كانت موجهة لتنظيم داعش في العراق وسوريا.

استراتيجية السجن
وعلى الرغم من تفاوت سبل معالجة إشكالية عودة المقاتلين الأجانب في الدول الأوروبية، فإن غالبيتها تنم عن تخوّف من عودتهم وتسببهم في خلق «خلايا نائمة» وكذلك قدرتهم على التأثير سلباً في المجتمع وأدلجته الراديكالية، وقد ذكرت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبييه، أن بلادها ستقيم دراسات على جميع الحالات المرتبطة بالمقاتلين الفرنسيين، كل على حدة.
فيما قال وزير الداخلية البريطاني ساجد جاويد، إنه لن يتردد في منع البريطانيين الذين كانوا في صفوف التنظيم من العودة إلى بلادهم. يذكر أن إسبانيا نشرت استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب وضعها مركز مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، الذي ينص على أن «المقاتلين الذين غادروا الأراضي الإسبانية إلى مناطق القتال في سوريا والعراق مع تنظيم داعش، بالأخص في مدريد وبرشلونة وسبتة ومليلة يعتبرون مصدر قلق رئيسياً، ولا بد من اتباع سبيل قضائية للتصدي لمخاطرهم، مثل إيداعه في السجن حال عودتهم إلى بلدانهم». ويعكس ذلك بلا شك تراجع توقعات السلطات القدرة على إعادة تأهيل المقاتلين والتشكيك في صدق نياتهم، والقلق حيال قدرتهم على التأثير سلباً في مجتمعاتهم. وذلك لا ينطبق فحسب على من قاتل فعلياً في مناطق الصراع، بل شمل ذلك «العروس الداعشية» أو من قررت هجر بلادها وحياتها القديمة من أجل الاقتران بمتشدد من «داعش»، أو أكثر من مقاتل على التوالي.
وأطلق أخيراً سراح الداعشية تارينا شاكيل، وهي أول بريطانية تتم محاكمتها في فبراير (شباط) عام 2016، في برمنغهام بالسجن لمدة 6 أعوام، وقد توجهت مع ابنها البالغ من العمر عاماً إلى تركيا، ومن ثم إلى الرقة في سوريا لمدة 3 أشهر.
وقد كانت لديها في فترة انتمائها للتنظيم عدة تصريحات عبر وسائل التواصل الإلكتروني تحرض عامة الناس على التعاطف مع ما يحدث في مناطق النزاع والمشاركة في القتال. مثل ما نشرته إلكترونياً: «إذا كان ما يجري في سوريا حالياً لا يعجبكم، فلتكن يدكم على السلاح وليس على لوحة مفاتيح الكومبيوتر».

بروباغندا {داعشية}
وذكر الخبير المختص في الإرهاب في مؤسسة راند الأميركية للأبحاث، برايان مايكل جنكنز، أن البروباغندا والوسائل الإعلامية التي اشتهر بها تنظيم داعش باستخدامه العنف والإثارة تستقطب بشكل كبير الشخصيات التي تمزج بين الخيال والواقع، وأن من الصعب تحفيز أشخاص أسوياء على القيام بسلوكيات عنيفة مدمرة. الأمر الذي يعكس تركيز التنظيم الأخير على نشر تسجيلات مرئية دموية عنيفة تثير حماسة الشخصيات المريضة، سواء في بداية نشأة التنظيم في فترة امتداد منطقته الجغرافية التي كانت تعد ملاذاً للمتطرفين، أو فيما بعد باستقطابه ذئاباً منفردة، وقد ظهر عدد كبير من مرتكبي العمليات الإرهابية في أوروبا والولايات المتحدة ممن لديهم سوابق إجرامية وتعاطٍ للمخدرات أو اختلال عقلي.
وبالنظر إلى مرتكب هجوم مدينة لييج البلجيكية الذي أسفر عن مقتل شرطيين في 30 مايو (أيار) 2018، وصف وزير الداخلية البلجيكي جان جامبون، مرتكبه بنجامين هيرمان وهو تاجر مخدرات، بأنه مضطرب نفسياً وربما كان واقعاً تحت تأثير المخدرات، الأمر الذي يبرر سبب اقتناعهم بالحاجة إلى أعمال العنف أو قتل الآخرين، أضف إلى ذلك أن قيامهم بعمليات إرهابية لن يدفعهم إلى الشعور بالندم وبتأنيب الضمير، في حال كان لديهم اضطراب عقلي أو نفسي، حسب الحالة الفردية.
وفي دراسة تم نشرها في مجلة «سلوكيات النفس البشرية» العلمية، تمت دراسة شريحة مكونة من 66 كولومبياً انضم سابقاً إلى ميليشيات متطرفة، تبين أنهم يمتلكون نمطاً غير طبيعي في «المنطق والحكم الأخلاقي»، وهو أمر يبرر استجابة عدد من المنتمين لتنظيم داعش لحثهم على طعن المارة أو دهسهم بشاحنات في أماكن تجمعهم في أوروبا أو الولايات المتحدة، إذ إن ذلك لن يكون أمراً طبيعياً، إلا لشخص يعاني من وجود خلل نفسي أو عدم تعاطف مع الآخرين، ما يسهل من الإتيان بمثل هذه الهجمات دون شعور بتأنيب الضمير. مثل ما حدث مع الفرنسي رضوان لقديم، وهو فرنسي من أصل مغربي، حيث سرق سيارة واختطف رهائن وأطلق النار على الشرطة متسبباً في مقتل 4 أشخاص. وأكد المدعي العام الفرنسي فرنسوا مولانس، أن منفذ الهجوم، الذي لقي مصرعه لاحقاً «شاب يبلغ من العمر 25 سنة، وكان معروفاً لدى السلطات بصلته بمتطرفين». وقال مولانس إن مراقبة أجهزة الاستخبارات لمنفذ الهجوم خلال عامي 2016 - 2017 لم تسفر عن أدلة واضحة يمكن أن تؤدي إلى توقع أنه سينفذ هجوماً.
ووفقاً للمدعي العام، فقد أُدين لقديم مرتين؛ الأولى كانت في عام 2011، والثانية كانت عام 2015.
وقد تبنى تنظيم داعش الإرهابي الهجوم المسلح الذي نفذ في مارس (آذار) 2018، وأدى إلى مقتل 4 أشخاص، بمدينة تريب جنوب غربي فرنسا، كما خلف عدداً من الجرحى، وصفت حالات بعضهم بـ«الخطرة». وحسب وسائل إعلام فرنسية، فقد طالب المهاجم الشرطة بإطلاق سراح الداعشي الذي نفذ هجوماً دموياً في باريس عام 2015، مقابل إخلائه سبيل الرهائن الذين احتجزهم في المحل التجاري.
وقد علق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الحادثة وقتئذ بأن مستوى التهديد الأمني لا يزال مرتفعاً وبأنه قد يلجأ عدد من الأفراد إلى التطرف دون الانضمام إلى تنظيمات إرهابية نتيجة بعض الأمراض النفسية. وشدد الرئيس الفرنسي على أهمية متابعة هؤلاء الأفراد عن كثب. وهو ما يعول عليه «داعش» وينسب إليه عدد من العمليات الإرهابية التي ارتكبها «ذئاب منفردون» في سعي لإثبات استمراره على الرغم من انحسار أنشطته الإعلامية وهجماته الإرهابية بشكلٍ عام.
وتتزايد أعداد المنتمين للتنظيمات الإرهابية من المضطربين نفسياً ممن لا تمثل لهم الآيديولوجية والقناعات الدينية أو السياسية للتنظيمات سبباً مقنعاً للانضمام، ما يغير مسيرة كثير من الدراسات حول بروفايل المتطرفين ومسببات انضمامهم المتجهة بشكلٍ كبير نحو التركيز على التعاطف الديني أو السياسي والفقر كأهم أسباب للتطرف مثل ما حدث مع تنظيم القاعدة. فيما تعد مشكلات مثل التهميش والعزلة الاجتماعية في مجتمعات مثل أوروبا والحاجة إلى الانتماء لجماعة، أسباب أقوى للانضمام لتنظيمات مثل «داعش».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.