تفكيك تنظيم داعش والتخلص من آثاره في كل من سوريا والعراق، خلف وراءه إرثاً وبقايا لمقاتلين قدموا من دول مختلفة وانضموا إلى التنظيم في فترة توهجه منذ عام 2014. هذا الإرث الذي لا ترغب غالبية الدول في تحمله. وأكبر مثال يعكس تورط كثير من الدول مع مقاتليها العائدين، ما نشر أخيراً في وسائل الإعلام حول شميمة بيغوم (19 عاماً) الملقبة بـ«عروس داعش»، حيث سلمت وزارة الداخلية البريطانية عائلتها رسالة تفيد بإسقاط الجنسية البريطانية عنها.
تثير هذه القضية من جديد إشكالية مرحلة ما بعد ما يسمى «الخلافة الداعشية»، حيث لا يدل التخلص على المنطقة الجغرافية التي تمركز فيها التنظيم سابقاً تلاشي أنشطته.
ففي زمن تقاطعت فيه الحضارات، أصبح من الاستحالة إيقاف أفكار وآيديولوجيات من الوصول إلى عقول المتعاطفين والمتأثرين والاقتناع بها حيثما كانوا. الأمر الذي تسبب في إثارة قلق عدد كبير من الدول ورفضهم استقبال المقاتلين الذين شاركوا في تنظيمات متطرفة، إذ إن ذلك يعد أشبه بقنابل موقوتة تتفجر في المجتمع وتنشر آيديولوجية العنف إن لم تتم معالجة إشكاليتها.
ترمب والمقاتلون
ما يعكس الجدل حول كيفية التعامل مع المقاتلين الأجانب هو دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأوروبيين لاستعادة مسلحي «داعش» الموجودين في سجون في سوريا، ويقدر عددهم بـ800 مقاتل من أجل محاكمتهم في بلدانهم، وذلك في أعقاب قرار الولايات المتحدة انسحاب قواتها من سوريا، وإصداره أيضاً أمراً بمنع عودة المتطرفة الأميركية هدى مثنى (24 عاماً) والملقبة كذلك بـ«عروس داعش» إلى الولايات المتحدة والموجودة في سجن في شمال شرقي سوريا ومعها ابنها. ويناقض ذلك دعوة ترمب الدول الأوروبية إلى استقبال المقاتلين المنتمين لدولهم. وتفرض مثل هذه القرارات التوغل في قناعات المتطرفين الذين توجهوا إلى مناطق الصراع، ومسببات انضمامهم، وإن كان هناك مجال لدمجهم وإعادتهم في مجتمعاتهم أم استحالة ذلك.
ندم العائدين
على الرغم من أن الأميركية هدى مثنى حاولت التأكيد على أنه قد تم التغرير بها، فإن ما قد يصعب من تصديق نياتها هو نشاطها السابق في حسابها في «تويتر»، إذ دعت فيه إلى القيام بهجمات إرهابية خلال الأعياد في الولايات المتحدة. وهو الأمر ذاته الذي يتقاطع مع قضية شميمة بيغوم، التي انضمت لتنظيم داعش في عام 2015، وبعد أن اعتقل زوجها الهولندي المنتمي للتنظيم هربت إلى مخيم لاجئين في سوريا إذ أنجبت طفلها. وعلى الرغم من كشفها عن القمع والفساد في التنظيم، فإنها ذكرت أنها لا تشعر بالندم على التجربة التي مرت بها لأنها جعلتها «شخصاً أقوى».
بينما ذكر خبير لغة الجسد دارين ستانتون، في لقاء مع محطة «سكاي نيوز»، أن شميمة لم تكن مقنعة في حديثها وأنها افتقدت إلى الصدق. مثل هذه التوجهات التي تقررها السلطات تسد الطرق على المقاتلين الآخرين الذين يجدون في إعلانهم الندم فرصة للعودة بعد أن استحال استمرار المعيشة في مناطق الصراع. من هؤلاء جاك الداعشي (22 عاماً) الذي يحمل الجنسيتين البريطانية والكندية، والذي أعلن عبر وسائل الإعلام تمنيه أن تقبل بريطانيا عودته إليها. وقد تزوج جاك الداعشي في الرقة من عراقية وأنجب طفلاً. وما يؤخذ عليه إعرابه عن سعادته الغامرة عند سماعه بحدوث اعتداءات باريس عام 2015 في تلك الفترة، وذلك نتيجة نقمته حيال الضربات التي كانت موجهة لتنظيم داعش في العراق وسوريا.
استراتيجية السجن
وعلى الرغم من تفاوت سبل معالجة إشكالية عودة المقاتلين الأجانب في الدول الأوروبية، فإن غالبيتها تنم عن تخوّف من عودتهم وتسببهم في خلق «خلايا نائمة» وكذلك قدرتهم على التأثير سلباً في المجتمع وأدلجته الراديكالية، وقد ذكرت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبييه، أن بلادها ستقيم دراسات على جميع الحالات المرتبطة بالمقاتلين الفرنسيين، كل على حدة.
فيما قال وزير الداخلية البريطاني ساجد جاويد، إنه لن يتردد في منع البريطانيين الذين كانوا في صفوف التنظيم من العودة إلى بلادهم. يذكر أن إسبانيا نشرت استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب وضعها مركز مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، الذي ينص على أن «المقاتلين الذين غادروا الأراضي الإسبانية إلى مناطق القتال في سوريا والعراق مع تنظيم داعش، بالأخص في مدريد وبرشلونة وسبتة ومليلة يعتبرون مصدر قلق رئيسياً، ولا بد من اتباع سبيل قضائية للتصدي لمخاطرهم، مثل إيداعه في السجن حال عودتهم إلى بلدانهم». ويعكس ذلك بلا شك تراجع توقعات السلطات القدرة على إعادة تأهيل المقاتلين والتشكيك في صدق نياتهم، والقلق حيال قدرتهم على التأثير سلباً في مجتمعاتهم. وذلك لا ينطبق فحسب على من قاتل فعلياً في مناطق الصراع، بل شمل ذلك «العروس الداعشية» أو من قررت هجر بلادها وحياتها القديمة من أجل الاقتران بمتشدد من «داعش»، أو أكثر من مقاتل على التوالي.
وأطلق أخيراً سراح الداعشية تارينا شاكيل، وهي أول بريطانية تتم محاكمتها في فبراير (شباط) عام 2016، في برمنغهام بالسجن لمدة 6 أعوام، وقد توجهت مع ابنها البالغ من العمر عاماً إلى تركيا، ومن ثم إلى الرقة في سوريا لمدة 3 أشهر.
وقد كانت لديها في فترة انتمائها للتنظيم عدة تصريحات عبر وسائل التواصل الإلكتروني تحرض عامة الناس على التعاطف مع ما يحدث في مناطق النزاع والمشاركة في القتال. مثل ما نشرته إلكترونياً: «إذا كان ما يجري في سوريا حالياً لا يعجبكم، فلتكن يدكم على السلاح وليس على لوحة مفاتيح الكومبيوتر».
بروباغندا {داعشية}
وذكر الخبير المختص في الإرهاب في مؤسسة راند الأميركية للأبحاث، برايان مايكل جنكنز، أن البروباغندا والوسائل الإعلامية التي اشتهر بها تنظيم داعش باستخدامه العنف والإثارة تستقطب بشكل كبير الشخصيات التي تمزج بين الخيال والواقع، وأن من الصعب تحفيز أشخاص أسوياء على القيام بسلوكيات عنيفة مدمرة. الأمر الذي يعكس تركيز التنظيم الأخير على نشر تسجيلات مرئية دموية عنيفة تثير حماسة الشخصيات المريضة، سواء في بداية نشأة التنظيم في فترة امتداد منطقته الجغرافية التي كانت تعد ملاذاً للمتطرفين، أو فيما بعد باستقطابه ذئاباً منفردة، وقد ظهر عدد كبير من مرتكبي العمليات الإرهابية في أوروبا والولايات المتحدة ممن لديهم سوابق إجرامية وتعاطٍ للمخدرات أو اختلال عقلي.
وبالنظر إلى مرتكب هجوم مدينة لييج البلجيكية الذي أسفر عن مقتل شرطيين في 30 مايو (أيار) 2018، وصف وزير الداخلية البلجيكي جان جامبون، مرتكبه بنجامين هيرمان وهو تاجر مخدرات، بأنه مضطرب نفسياً وربما كان واقعاً تحت تأثير المخدرات، الأمر الذي يبرر سبب اقتناعهم بالحاجة إلى أعمال العنف أو قتل الآخرين، أضف إلى ذلك أن قيامهم بعمليات إرهابية لن يدفعهم إلى الشعور بالندم وبتأنيب الضمير، في حال كان لديهم اضطراب عقلي أو نفسي، حسب الحالة الفردية.
وفي دراسة تم نشرها في مجلة «سلوكيات النفس البشرية» العلمية، تمت دراسة شريحة مكونة من 66 كولومبياً انضم سابقاً إلى ميليشيات متطرفة، تبين أنهم يمتلكون نمطاً غير طبيعي في «المنطق والحكم الأخلاقي»، وهو أمر يبرر استجابة عدد من المنتمين لتنظيم داعش لحثهم على طعن المارة أو دهسهم بشاحنات في أماكن تجمعهم في أوروبا أو الولايات المتحدة، إذ إن ذلك لن يكون أمراً طبيعياً، إلا لشخص يعاني من وجود خلل نفسي أو عدم تعاطف مع الآخرين، ما يسهل من الإتيان بمثل هذه الهجمات دون شعور بتأنيب الضمير. مثل ما حدث مع الفرنسي رضوان لقديم، وهو فرنسي من أصل مغربي، حيث سرق سيارة واختطف رهائن وأطلق النار على الشرطة متسبباً في مقتل 4 أشخاص. وأكد المدعي العام الفرنسي فرنسوا مولانس، أن منفذ الهجوم، الذي لقي مصرعه لاحقاً «شاب يبلغ من العمر 25 سنة، وكان معروفاً لدى السلطات بصلته بمتطرفين». وقال مولانس إن مراقبة أجهزة الاستخبارات لمنفذ الهجوم خلال عامي 2016 - 2017 لم تسفر عن أدلة واضحة يمكن أن تؤدي إلى توقع أنه سينفذ هجوماً.
ووفقاً للمدعي العام، فقد أُدين لقديم مرتين؛ الأولى كانت في عام 2011، والثانية كانت عام 2015.
وقد تبنى تنظيم داعش الإرهابي الهجوم المسلح الذي نفذ في مارس (آذار) 2018، وأدى إلى مقتل 4 أشخاص، بمدينة تريب جنوب غربي فرنسا، كما خلف عدداً من الجرحى، وصفت حالات بعضهم بـ«الخطرة». وحسب وسائل إعلام فرنسية، فقد طالب المهاجم الشرطة بإطلاق سراح الداعشي الذي نفذ هجوماً دموياً في باريس عام 2015، مقابل إخلائه سبيل الرهائن الذين احتجزهم في المحل التجاري.
وقد علق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الحادثة وقتئذ بأن مستوى التهديد الأمني لا يزال مرتفعاً وبأنه قد يلجأ عدد من الأفراد إلى التطرف دون الانضمام إلى تنظيمات إرهابية نتيجة بعض الأمراض النفسية. وشدد الرئيس الفرنسي على أهمية متابعة هؤلاء الأفراد عن كثب. وهو ما يعول عليه «داعش» وينسب إليه عدد من العمليات الإرهابية التي ارتكبها «ذئاب منفردون» في سعي لإثبات استمراره على الرغم من انحسار أنشطته الإعلامية وهجماته الإرهابية بشكلٍ عام.
وتتزايد أعداد المنتمين للتنظيمات الإرهابية من المضطربين نفسياً ممن لا تمثل لهم الآيديولوجية والقناعات الدينية أو السياسية للتنظيمات سبباً مقنعاً للانضمام، ما يغير مسيرة كثير من الدراسات حول بروفايل المتطرفين ومسببات انضمامهم المتجهة بشكلٍ كبير نحو التركيز على التعاطف الديني أو السياسي والفقر كأهم أسباب للتطرف مثل ما حدث مع تنظيم القاعدة. فيما تعد مشكلات مثل التهميش والعزلة الاجتماعية في مجتمعات مثل أوروبا والحاجة إلى الانتماء لجماعة، أسباب أقوى للانضمام لتنظيمات مثل «داعش».