هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

مقتل الجزائري أبو الهمام يعدّ أكبر ضربة موجعة تلقاها التنظيم الإرهابي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
TT

هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)

ينفق الفرنسيون 700 مليون يورو كل عام على محاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وينشرون هنالك 4500 جندي في إطار عملية «برخان» التي تعدّ أكبر عملية عسكرية تخوضها فرنسا خارج أراضيها، كل ذلك من أجل مواجهة خطر الجماعات المتطرفة المسلحة، التي تشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الفرنسية في هذه المنطقة من العالم التي كانت قبل 60 عاماً تحت الاستعمار الفرنسي، ولا تزال منطقة نفوذ ومصدر قوة ترفض فرنسا التخلي عنه.
وقد تحولت منطقة الساحل الأفريقي، وشمال مالي على وجه الخصوص، إلى ساحة لمواجهة مباشرة بين الجنود الفرنسيين ومقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، في حرب شرسة بدأت مطلع عام 2013 عندما حاول المسلحون المتطرفون الزحف على عاصمة مالي باماكو في الجنوب، بعد 6 أشهر من سيطرتهم على شمال البلاد، ولكن الفرنسيين منعوا ذلك عندما أطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية التي تحولت عام 2014 إلى عملية «برخان».
اليوم يحس الفرنسيون بطعم النصر، وإن بحذر كبير، عندما تمكنت قواتهم من قطف كثير من رؤوس «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الكبيرة، خصوصاً تلك الرؤوس التي كانت تشكل تهديداً مباشراً لمصالحهم في هذه المنطقة من العالم، وكان آخرها الجزائري جمال عكاشة، المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتلته قوات خاصة فرنسية مساء الخميس 21 فبراير (شباط) الحالي، في ضربة موجعة تلقاها تنظيم القاعدة؛ على حد وصف وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي.

الرؤوس الكبيرة
كانت خطة الفرنسيين لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي تقوم على استهداف القادة الكبار بدل الانشغال بمطاردة صغار المقاتلين والمتعاونين المحليين مع هذه التنظيمات التي استطاعت خلال نحو 10 سنوات التغلغل في المجتمع المحلي بشمال مالي، حيث تغيب الدولة المركزية وينتشر الظلم الاجتماعي والفقر والجهل والمرض.
وقد أثمرت خطة الفرنسيين بعد أيام قليلة من تدخلهم العسكري في شمال مالي في يناير (كانون الثاني) من عام 2013، حين تمكنت قواتهم بالتعاون مع القوات التشادية من قتل الجزائري محمد غدير، الملقب بـ«عبد الحميد أبو زيد»، أمير «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والذي اختطف عدداً كبيراً من الرعايا الفرنسيين وكان وراء مقتل الرهينة الفرنسي ميشال جورمانو عام 2011، ووصفه الفرنسيون بأنه عدوهم الأول في الساحل الأفريقي؛ إذ تمكن من الحصول على عشرات ملايين اليوروات من تجارة الرهائن الفرنسيين.
مقتل «أبو زيد» في مواجهات مسلحة داخل جبال الإيفوغاس في أقصى شمال شرقي دولة مالي، ألحق ضرراً كبيراً بـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»؛ إذ فقد واحداً من أبرز قادته، بينما أرغم آخرون على الفرار والاختباء، على غرار الجزائري مختار بلمختار المعروف بلقب «بلعوار»، الذي توجه إلى الجنوب الليبي تاركاً شمال مالي منذ أن دخله الفرنسيون، إلا إن الجزائري جمال عكاشة المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتل الخميس الماضي، أصر على البقاء برفقة عدد كبير من المقاتلين الموريتانيين والماليين، وتولى «أبو الهمام» إمارة «كتيبة الفرقان»، قبل أن يصبح قائداً لـ«إمارة الصحراء الكبرى» في إعادة هيكلة قام بها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» للتأقلم مع الوضع الجديد.
عندما تدخل الفرنسيون في منطقة الساحل الأفريقي قبل أكثر من 6 سنوات كان عدد مقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» يقدر بالمئات؛ حسب كثير من التقارير الاستخباراتية، موزعين على كتائب وفرق صغيرة وخفيفة الحركة، فيما تشير تقارير وزارة الدفاع الفرنسية إلى أنه في الفترة الممتدة من 2014 وحتى 2018؛ أي على مدى 4 سنوات فقط، تم القضاء على 450 مقاتلاً، من ضمنهم عشرات القيادات البارزة في التنظيم؛ بعضها قيادات عسكرية وأخرى قيادات دينية وقضائية.

قائمة رمادية
الحصيلة الفرنسية تشير إلى أنه بعد عام واحد من إطلاق عملية «برخان»؛ أي في عام 2015، قتل «حمادة أغ حمه»، المعروف بلقب «عبد الكريم الطارقي»، وهو مالي الجنسية وكان يتولى قيادة «كتيبة الأنصار» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قُتل أيضاً إبراهيم أغ إيناولين، المعروف بلقب «بانا»، وهو الذي كان يوصف بأنه الرجل الثاني في جماعة «أنصار الدين» التي يقودها الزعيم الطارقي السلفي إياد أغ غالي، وفي نهاية العام نفسه قتل الفرنسيون عيسى أغ واراكولي، وهو قيادي بارز في جماعة «أنصار الدين»، وعسكري سابق في الجيش المالي... إنها ضربات موجعة تلقتها أبرز مجموعة متحالفة مع «القاعدة» ومكنته من الاندماج والتغلغل في المجتمع المحلي.
في العام الموالي (2016) شن الفرنسيون عملية عسكرية عند بئر تقليدية للمياه تقع إلى الشمال من مدينة تمبكتو التاريخية، قتل فيها «أبو النور الأندلسي» وهو مواطن إسباني يتولى مهام عسكرية قيادية في «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قتل أيضاً «مروان المصري»، وهو مواطن مصري ينشط في صفوف «القاعدة»، ويعتقد أنه يتولى التكوين والتأطير العسكري والآيديولوجي.
واصل الفرنسيون تحركهم الهادئ لقطف الرؤوس الكبيرة في التنظيم؛ ففي عام 2017 قتلوا 120 من عناصر «القاعدة»، وألقوا القبض على 150 آخرين، تم التحقيق معهم لفترات متفاوتة قبل تسليمهم إلى المصالح الأمنية في دولة مالي، كما صادرت القوات الفرنسية في العام نفسه أكثر من 22 طناً من الأسلحة والمعدات العسكرية كانت بحوزة مقاتلي التنظيم، وبعضها تم إخفاؤه في كهوف وسط الصحراء، وتشير التقارير إلى أن أغلب هذه الأسلحة يعود إلى نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وبعضها تم الحصول عليه من طرف شبكات تهريب السلاح المنتشرة في المنطقة.
في العام نفسه توسعت عمليات القوات الفرنسية لتشمل بالإضافة إلى شمال مالي، شمال بوركينافاسو وغرب النيجر، وقد نجحت قوات «برخان» بالتعاون مع القوات المالية والبوركينابية في قتل إبراهيم مالام ديكو، وهو داعية وإمام مسجد في بوركينافاسو لديه علاقات مشبوهة مع دولة قطر، وتشير تقارير إلى أن صلاته بالدوحة مكّنته من تأسيس مجموعة مسلحة تحمل اسم «أنصار الإسلام» وتنشط في شمال بوركينافاسو، وسبق أن بايعت تنظيم «داعش»، وتولى قيادة المجموعة بعد مقتله نجله الشاب الذي وصف بأنه أكثر دموية؛ إذ يقف وراء كثير من الهجمات التي تنفذ في شمال وشرق بوركينافاسو والتي يقدر ضحاياها بالعشرات.

ارتفاع الوتيرة
في العام الماضي (2018) غير الفرنسيون من استراتيجيتهم، محاولين بذلك التغلب على أكبر نقطة ضعف عندهم؛ وهي أن «تحركاتهم متوقعة»، وأنهم ثقيلو الحركة بالمقارنة مع الجماعات الإرهابية السريعة والخفيفة، كما توجه الفرنسيون إلى إطلاق عمليات عسكرية معقدة وطويلة الأمد؛ إذ قد تمتد العملية العسكرية الواحدة لأكثر من شهر، وفق تعبير قيادة أركان الجيش الفرنسي.
لقد غير الفرنسيون خطتهم تماشياً مع التحالفات التي عقدتها المجموعات الإسلامية المسلحة لتشكيل جماعة جديدة حملت اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتولى قيادتها الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، وقد وضع الفرنسيون أسماء قادة هذا التنظيم الجديد على رأس قائمة المطلوبين لديها، وبدأت الخطة لقطف رؤوس التنظيم الجديد.
وفي منتصف العام الماضي قتل الفرنسيون أبو محمد أغ سيدي مولى، وهو داعية وقيادي في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقتل أيضاً منصور أغ القاسم وهو قيادي بارز في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، كما قتل خلال عملية عسكرية معقدة نفذها الفرنسيون في أقصى الشرق المالي محمد أغ المنير، وهو قيادي بارز في «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
في نهاية العام الماضي كانت الضربة الكبرى التي نفذها الفرنسيون حين تمكنوا من قتل المالي أمادو كوفا، زعيم «كتيبة ماسينا»، وهو أحد القادة الأربعة المؤسسين لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقد قتل في عملية تم خلالها القضاء على أكثر من 30 إرهابياً؛ منهم عدد من القيادات العسكرية للكتيبة التي تنشط في وسط مالي.
الفرنسيون يتحدثون عن انتصارات أخرى كثيرة على المستوى «التكتيكي» و«الاستراتيجي»، من أهمها تعزيز مستوى التنسيق والتعاون مع الجيوش المحلية لبلدان الساحل الخمسة (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو)، ويقول الفرنسيون إن هذا التنسيق مكنهم في عام واحد من القضاء على قادة 3 كتائب رئيسية نشطة في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتعلق الأمر بقادة: «كتيبة ماسينا»، و«الكتيبة الثالثة»، وجماعة «المرابطون»، كما تم القضاء على كثير من القادة والمنخرطين في صفوف «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».

نجاح بتحفظ
إحساس الفرنسيين بالنصر يبقى ناقصاً في ظل غياب خطة للانسحاب وإعلان النصر نهائياً، فالجماعات المسلحة لديها قدرة كبيرة على تجديد الدماء والتأقلم مع الأوضاع الصعبة، ويراهن الفرنسيون لمواجهة هذه الجماعات الإرهابية في المستقبلين المتوسط والبعيد، على الجيوش المحلية لأخذ المبادرة، وذلك من خلال تشكيل «قوة عسكرية مشتركة»، ولكنها قوة لا تزال تعاني من مشكلات في التمويل والتدريب والتأطير.
ويشير تقرير صادر عن وزارة الدفاع الفرنسية إلى أن العمليات التي نفذتها القوات الفرنسية في الساحل «لم تمكّن فقط من خلق حالة من التشتت العميق في صفوف الجماعات المسلحة الإرهابية، وإنما أيضاً شجعت الماليين والنيجريين على مضاعفة جهودهم في مواجهة هذه الجماعات الإرهابية، ومكنتهم من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من أراضيهم».
ويبدو واضحاً أن الفرنسيين غير متحمسين للاستمرار في دفع فاتورة الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، فالتقارير الرسمية الفرنسية تشير إلى أنه في العام الماضي وحده شن الفرنسيون أكثر من 120 عملية عسكرية، وحركت في هذه العمليات إمكانات لوجيستية هائلة بسبب المسافات الشاسعة في منطقة الساحل الأفريقي، وقد شاركت فيها طائرات حربية متنوعة، بالإضافة إلى مروحيات كثيرة من طرز «تايغر» و«بوما» و«غزال»، مع استخدام تجهيزات استخباراتية متطورة... إنها فاتورة كبيرة يبحث الفرنسيون عن شريك في دفعها من خلال تمويل دولي للقوة العسكرية المشتركة التي شكلتها دول الساحل الخمس (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو).


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.