أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»

أزمة تعريف... أم أزمة مصالح؟

أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»
TT

أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»

أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»

كان لافتاً خلال الأسابيع القليلة الفائتة في كل من فرنسا وبريطانيا حدثان لهما علاقة وثيقة بظاهرة «معاداة السامية». إذ ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً خطبة قال فيها، إن «معاداة الصهيونية شكل من أشكال معاداة السامية». وفي بريطانيا، بينما يتفاقم الصراع السياسي داخل الحزبين الكبيرين، حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال المعارض، بسبب مسألة خروج بريطانيا من أسرة «الاتحاد الأوروبي» (بريكست)، أعلن عدد من نواب حزب العمال البريطاني - بعضهم من تجمّع «أصدقاء إسرائيل العماليون» - استقالتهم من عضوية الحزب، وتوزّع تبرير الاستقالات بين الاعتراض على سياسة قيادة الحزب من الـ«بريكست» و«تجذر» معاداة السامية فيه إبان فترة زعامة زعيمه اليساري الحالي جيريمي كوربن.
الحدثان، ناهيك من تنامي قوى اليمين المتطرف - المناهض تقليدياً للأقليات العرقية والدينية والمهاجرين الأجانب - في عموم أوروبا، يسلّطان الضوء على ظاهرة معاداة السامية والحاجة إلى تفسيرها، لا سيما، أنها في حالتي فرنسا وبريطانيا المذكورتين لا تتصلان باليمين المتطرف بل بفكر سياسي بات يرفض أي تمييز بين العداء العنصري لليهود، وانتقاد عقيدة سياسية مثل العقيدة الصهيونية.

«معاداة السامية» عبارة تُعبّر عن ظاهرة تجلّت عبر القرون في ممارسات الاضطهاد والعنصرية الممنهجة ضد أفراد الدين اليهودي، شملت مذابح إسبانية وإنجليزية وروسية وحملات طرد من عدة دول عبر التاريخ، وبلغات الأوج مع «المحرقة النازية» (الهولوكوست). اليوم، عادت عبارة «معاداة السامية» لتهيمن على النشرات الإخبارية العالمية، وأطلقت جدلا اتّخذ أبعاداً سياسية من نوع جديد في أوروبا الغربية، تخلط أحياناً بين العنصرية والاضطهاد الذي ما زالت الجاليات اليهودية تعاني منه... وانتقاد ممارسات دولة إسرائيل والآيديولوجية الصهيونية. ولقد برز الجدل في كل من باريس ولندن بشكل أساسي، حيث اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «معاداة الصهيونية الشكل الحديث لمعاداة السامية»، بينما أحدثت اتهامات متزايدة في بريطانيا أكبر انشقاق سياسي منذ أربعة عقود. وفي حين تبحث حكومات أوروبا الغربية عن تعريف جديد لمعاداة السامية من دون التضييق على حرية التعبير، تستغل بعض حركات اليمين المتطرف الفراغ السياسي الذي سببه تراجع شعبية الأحزاب التقليدية لتعزيز خطابات معاداة السامية، والإسلاموفوبيا، وحتى نظريات تفوق العرق الأبيض.
حتى وقت كتابة هذه السطور، شهدت بريطانيا انشقاق 9 نواب بارزين من حزب العمال، احتجاجاً على قضايا متعلقة بـ«بريكست» وظاهرة معاداة السامية «المتجذرة» في الحزب اليساري على حد قول أحدهم. وبهذا الصدد، قالت النائبة لوسيانا بيرغر، وهي نائبة يهودية من تجمع «أصدقاء إسرائيل العماليون» التي بادرت في الانشقاق مع 6 نواب آخرين، إن «القرار كان صعباً ومؤلماً، لكنه ضروري». ورأت أن الحزب أصبح «معاديا للسامية بمؤسساته»، مضيفة أنها باتت «تخجل ومحرَجة» من تمثيلها لحزب العمال، كما أنّها تترك خلفها ثقافة من «التعصب والتخويف».
بدوره، اعتبر إيان أوستن، آخر نائب منشق، أنه يشعر «باستياء بالغ للإهانة والحزن اللذين تسبب بهما جيريمي كوربن (زعيم الحزب)، وحزب العمال للشعب اليهودي». وقال إنه «يخجل» من سلوكه تحت قيادة زعيم المعارضة اليسارية. وأضاف النائب الذي تبناه لاجئ يهودي نجا من «الهولوكوست»، لصحيفة محلية، أنه «من المروّع أن تتسبب ثقافة من التطرف ومعاداة السامية واللاتسامح في ابتعاد نواب جيدين، وأشخاص صالحين ممن كرسوا حياتهم للعمل السياسي العام». وتابع أوستن أن «اليسار المتشدد يتولى الآن زمام الحزب، وسيتخلصون من عدد من النواب التقليديين اللائقين. ولا أستطيع أن أرى كيف سيعود إلى الحزب التقليدي الذي فاز في الانتخابات وغيّر البلاد نحو الأفضل».
ثم هناك جوان رايان، النائبة المستقيلة، التي كانت ترأس حتى انشقاقها تجمع «أصدقاء إسرائيل العماليون»، إذ قالت بدورها إن الحزب بزعامة كوربن أصبح «مصاباً بآفة العنصرية المعادية لليهود». ويُذكر أن سلسلة الاستقالات الأخيرة جاءت بعد حملة انتقادات يتعرّض لها كوربن على خلفية طريقة معالجته قضية الاتهامات بمعاداة السامية داخل حزب العمال. كما سُلّط الضوء على تصريحات سابقة له أيد فيها حماس و«حزب الله» - الذي تتجه بريطانيا إلى حظره بالكامل -، إذ وصفهما بـ«الأصدقاء»، قبل أن يتراجع عن ذلك عام 2016.
في الجانب المقابل من النقاش، يعتبر أعضاء في حزب العمال أن هذه الاتهامات «مبالغ فيها» لأسباب سياسية. وهذا موقف دفع ثمنه النائب كريس ويليامسون، الذي عُلّقت عضويته في الحزب يوم الأربعاء الماضي، ويواجه تحقيقاً رغم تقديمه اعتذاراً علنياً. ويشاطر هذا الرأي مايك كوشمان، المتحدّث باسم «الصوت اليهودي في حزب العمال»، الذي قال في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه لا ينفي وجود ظاهرة معاداة السامية داخل حزب العمال، لكنه يشكّك في كونها متفشية بشكل هيكلي وبحجم ضخم. ويضيف كوشمان أن «حزب العمال يواجه مشكلات كبرى، مثل الإسلاموفوبيا والعنصرية ضد السود». وتابع: «جل الأدلة تشير إلى أنه كلما اتّجهنا نحو اليمين (السياسي)، تزايدت معاداة السامية»، متسائلا عن سبب كل هذا الاهتمام في الوقت الذي يواجه حزبه مشكلات كبرى.
كوشمان - وهو ناشط يهودي يساري - يُرجع المبالغة في التهم المتعلقة بمعاداة السامية في حزب العمال إلى ثلاثة عوامل رئيسية: الأول، يتعلّق بموقف بعض النواب العماليين في مجلس العموم الرافض لانتخاب كوربن زعيماً للحزب عام 2015، لعدد من الأسباب، أبرزها دعمه لحقوق الفلسطينيين، والثاني هو سياسات حزب المحافظين وحلفائه في الإعلام، التي تقوم على استخدام أي «سلاح متاح» لمهاجمة العمال، والثالث يتعلّق بـ«المدافعين عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية، والذين لا يريدون أن يتزعم منتقد لهذه الجرائم أكبر حزب في أوروبا الغربية».
ومن ثم، انتقد كوشمان الخلط بين انتقاد إسرائيل وسياساتها من جهة ومعاداة السامية من جهة أخرى، قائلا إنه لا يقبل فكرة أن «إسرائيل تتحدث باسم يهود العالم. فهي لا تتحدّث باسمي». واعتبر أنه ينبغي تحدّي الخطابات التي تساوي بين الدين اليهودي والصهيونية، لأن هناك فارقاً بين «اليهود والإسرائيليين والصهيونيين». وبينما أكد كوشمان أنه كان نفسه ضحية لمعاداة السامية، رأى أن اتهام شخص زوراً بمعاداة السامية، خاصة إن كان يهوديا، وخاصة إن صدر الاتهام من غير يهودي، «جارح بالقدر نفسه».
واعتبر كوشمان أن الخطر «الحقيقي والحالي ضد اليهود في بريطانيا ينبع من (جماعات) اليمين المتطرف، التي تهاجم اليهود كأفراد ويعتدون على ممتلكاتهم». وأضاف أنه مع صعود اليمين المتطرف في هذا البلد «يضع هاجس معاداة السامية في اليسار كل اليهود، بمن فيهم اليهود اليساريون، في خطر أكبر».
لا تنفي الامتدادات السياسية الخطر الحقيقي والمتصاعد لمعاداة السامية، إذ إن أحدث إحصاءات وزارة الداخلية البريطانية وجدت أن 52 في المائة من جرائم الكراهية المسجلة من 2017 إلى 2018 استهدفت المسلمين، ثم اليهود الذين استهدفوا بـ12 في المائة من الجرائم. وبدورها، وجدت دراسة نشرت نتائجها صحيفة «الغارديان» مطلع هذا العام أن البريطانيين يقومون بـ170 ألف بحث «معاد للسامية» على محرّك «غوغل» سنوياً، 10 في المائة من هذه الأبحاث تضمّنت عبارات مثل «يجب أن يموت اليهود» و«اقتلوا اليهود»، و«اليهود عنصريون وشريرون».
ومع تسجيل ارتفاع في مظاهر العنصرية ضد اليهود من هجمات جسدية إلى تغريدات معادية للسامية بدفع من صعود اليمين المتطرف وارتفاع سلوكيات معادية للسامية في اليسار، يتزايد الخلط بين جرائم الكراهية هذه وانتقاد إسرائيل وسياساتها. وبهذا الصدد، يقول كنعان مالك، الكاتب في صحيفة «الغارديان»، إن «ارتفاع معاداة السامية ترافق مؤخراً بخلط بين مفهوم معاداة الصهيونية من جهة والعنصرية ضد اليهود من جهة أخرى». وبينما يقر كنعان بأن «بعض السلوكيات المعادية لإسرائيل تحمل أحياناً في طياتها معاداة للسامية، لكن ينبغي التمييز بين الحالتين».
ويتفق كثيرون مع طرح كنعان، ويعتبرون أن معاداة السامية تعبّر عن السلوكيات والمشاعر العدائية والمتحيزة ضد اليهود. في حين تشير الصهيونية إلى حركة سياسية وآيديولوجية سعت لإنشاء دولة لليهود على أراضي فلسطين التاريخية.
وللجدل حول الخلط بين المفهومين تاريخ طويل، خاصة داخل حزب العمال الذي سبق أن علّق عضوية عمدة لندن الأسبق كين ليفينغستون، بعد سلسلة تعليقات عن إسرائيل، منها أن أدولف هتلر «كان مؤيداً للصهيونية قبل الهولوكست»، كما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي). ويرفض الداعون إلى عدم الخلط بين انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية ومعاداة السامية فكرة أن يتم استخدام كلمة «صهيوني» لمهاجمة اليهود ضمنا. كما يشيرون إلى أن الصهيونية مشروع سياسي يدعمه غير اليهود، أبرزهم المسيحيون الإنجيليون.
بدورها، وجدت دراسة نشرها «معهد أبحاث السياسة اليهودية» عام 2017، ومقره لندن، أن المشاعر المعادية لإسرائيل والمشاعر المعادية للسامية ليست بالضرورة مترابطة. واكتشفت الدراسة أن «السلوكيات المعادية لإسرائيل ليست، كقاعدة عامة، سلوكيات معادية للسامية». وتوضح أن «غالبية الأشخاص الذين يحملون سلوكيات تعادي إسرائيل ليسوا معادين للسامية»، مستدركة أن «هناك في الوقت نفسه أقلية كبيرة من الأشخاص الذين يحملون مشاعر معادية لإسرائيل ومعادية للسامية».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.