ريما بنت بندر بن سلطان... رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

شبيهة الأب... سفيرة الرياض لدى أهم دولة بالعالم

ريما بنت بندر بن سلطان...  رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات
TT

ريما بنت بندر بن سلطان... رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

ريما بنت بندر بن سلطان...  رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

حين تتكلّم ترسم مشهداً يذكّر بأبيها. ذلك السفير الاستثنائي لدى الولايات المتحدة، الذي ما زال حتى اليوم ينظر إليه كأحد ألمع سفراء العالم وأقواهم حضوراً في واشنطن.
هي كذلك، السيدة التي تعود إلى مرابع الصبا في واشنطن، حين كانت حاضرة توهج الأب، في ملاعب السياسة وحواضن صناعة القرار العالمي، في معنى أن يكون الوطن بارزاً في بلد آخر. كذلك تعود إلى موقع أكبر وأرفع مما كان لها إبان سنوات الدراسة في التسعينات الماضية، فهي اليوم تعود إلى العاصمة الأميركية حاملة معها ملفات مختلفة، في توقيت غير معتاد، كي تثبت أنها سفيرة «فوق العادة».
الجديد في تعيين الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان سفيرة للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة أمران؛ أن امرأة سعودية أصبحت لأول مرة سفيرة، وأن التوقيت يشير إلى أن الرياض ترى الأمور بشكل أعمق، وإن كانت واشنطن تعيش «غربلة» داخلية بين الكونغرس والبيت الأبيض وما بينهما.

ما يقرب من 90 سنة، هو عمر المملكة العربية السعودية، في صيغتها الثالثة. الدولة التي أسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، والد ملوكها، تظهر فيها توالياً بين الفينة والأخرى، اتجاهات أبعد لمسيرة التحديث، غير أن الوتيرة أصبحت أكثر سرعة خلال 3 سنوات، حتى طوت السعودية ما كانت تُرمى به في قضايا هامشية جداً في مجال حقوق النساء.
السعودية دولة تتجه إلى التجديد، وصار من أهم عناوين حكم الملك سلمان بن عبد العزيز، توزير المستحق وتعيين الأكفأ. وهذا، مع العلم أن المعايير الملكية كانت دوماً ذات بنود مختلفة في اختيار وزرائها، فلا ترتبط بمن يثير حضوره في الساحة أصواتاً مرتفعة، بل تتجاوز ذلك لاختيار مَن يكون ذا اطلاع شامل على مجريات الأمور، وشُحذت خبرته في ملفات عدة.

حضور المرأة
اليوم، في كل قرار ملكي يصدر في السعودية، يتهيأ السعوديون والسعوديات، لتوقع أن تكون امرأة بين مَن تُتاح له فرصة الحضور في القرارات. ومن ثم، ما كان غريباً أن تُصدِر السعودية المتجدّدة اليوم قراراً بتعيين امرأة سفيرة لدى أقوى دولة في العالم. إلا أن ما كان لافتاً أن يأتي التعيين في زحام واشنطن.
لقد توقع كثيرون، منذ بعض الوقت، أن تُسنَد إلى المرأة السعودية مناصب قيادية عليا في ضوء ما تشهده البلاد من تطور وتغيير وتمكين. وبالفعل، هذا ما شهده السعوديون والسعوديات خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى أن بعضهن تقدم إلى المناصب العليا في كبريات المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، ناهيك بالقطاع الخاص. وها هي اليوم، أهم عاصمة سياسية في العالم تتأهب للتعرف عن كثب على التغييرات السعودية، عندما تتسلم الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، رسمياً مهام منصبها الحساس سفيرة لبلادها في واشنطن.
الأميرة ريما شاهدة على التحولات، ورمز تعبير كبير، سيطل من أعلى منابر واشنطن للتأكيد على مرحلة التطوير والتقدم التاريخي في السعودية. وكانت الأميرة، الفتاة البكر للأمير بندر بن سلطان، من أبرز السعوديات وأنشطهن خلال السنوات الخمس الماضية، لا سيما في مجالات الأنشطة الاجتماعية والخيرية، حيث باتت تعد أبرز الدعائم المحفّزة للشباب السعودي، خصوصاً الإناث.
الأميرة ريما والدها الأمير بندر بن سلطان، وأمها هيفاء الفيصل أخت «عميد» الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل (رحمه الله). وبالتالي، فهي تحضر إلى سفارة بلادها في واشنطن، التي سبق أن تولاها والدها باقتدار قبلها، متمتعة بخلفية سياسية ودبلوماسية عائلية وعملية.

كفاءة علمية وعملية
للأميرة ريما تقاطعات ثقافية شاملة، فهي عاشت الحياة الغربية على الطريقة الأميركية وخبرتها، لكنها لا تزال تنطق بالأصالة السعودية، مع احترام وطنها وهويته وتقاليده، مع فهم وإدراك كبيرين لكل مراحل التغيرات فيه. ثم إنها، وإن تلقت تعليمها العالي، فحازت بكالوريوس الآداب (بتخصص الدراسات المتحفية) ومن كلية ماونت فيرنون بجامعة جورج واشنطن العريقة في العاصمة الأميركية، فإنها أيضاً عاشت جزءاً من مسيرتها العملية قبل صعودها التدريجي لتسنّم منصبها الدبلوماسي الرفيع، مستشارة في مكتب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث مطبخ السياسة الأكبر والصناعة الاجتماعية والاقتصادية في المملكة.
لقد عملت الأميرة ريما وكيلة للتخطيط والتطوير في الهيئة العامة للرياضة عام 2016، وأصبحت أول امرأة تقود اتحاداً متعدد الرياضات في المملكة، من خلال منصبها رئيسة للاتحاد السعودي للرياضة المجتمعية. ويُذكر ضمن سجلّ إنجازات الأميرة عملها إلى جانب وزارة التعليم لتأسيس التعليم الرياضي للفتيات في المدارس، ومشاركة النساء في كثير من المنافسات الرياضية. وأيضاً سبق للأميرة ريما العمل في القطاع الخاص، وكان من المناصب التي تولتها الرئيس التنفيذي لشركة «ألفا إنترناشونال - هارفي نيكلز» في الرياض، وكانت ضمن قائمة مجلة «فاست كومباني» الأميركية للأشخاص الأكثر إبداعاً عام 2014. وكذلك سبق لها أن اختيرت ضمن قائمة مجلة «فوربس الشرق الأوسط» بين أقوى 200 امرأة عربية.
من ناحية ثانية، سيتاح للأميرة ريما من خلال هذا المنصب إكمال مسيرة من العمل الدبلوماسي الصعب والمعقّد توقيتاً وزخماً، الذي اضطلع به عدّة سفراء قبلها كلّهم من الرجال، من بينهم والدها الذي شغله لأكثر من 22 سنة، وآخرهم قبلها الأمير خالد بن سلمان الذي أسند إليه أخيراً منصب نائب وزير الدفاع. وكما هو معروف، يأتي تعيين الأميرة السفيرة، في مرحلة إعادة تفعيل العلاقة بين الحليفين القديمين، تكاد تكمل فترتها الأولى إبان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وهي تأتي بعد شبه فتور حملته سنوات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

تزخيم العلاقة الاستراتيجية
والحقيقة أن اختيار الأميرة ريما للمنصب يؤكد الخطى المتسارعة في عملية تفعيل العلاقة وفق الاستراتيجية التي رسمتها القيادة السعودية بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز.
وسيكون أمام السفيرة فرصة إنجاز المهمة في طريق تعزيز الشراكة العتيقة بين الرياض وواشنطن، خصوصاً في قضايا الشرق الأوسط، وخصوصاً في تعاملها مع إيران والأزمة السورية. المراقبون السياسيون واثقون من سير العلاقات الثنائية على التطور مهما ظهر من تعقيدات، وهم يجزمون بأنها مستمرة ومثمرة، كون الحليفين القديمين اللاعبين الإقليمي والعالمي الأكثر تأثيراً في ملفات المنطقة، والقدرة على تغيير مجريات الأمور عبر الدبلوماسية الفعالة والاستقرار الاقتصادي.
أيضاً أمام الأميرة ريما فرصة تفعيل أكبر لمشروع «الشراكة الاستراتيجية الجديدة للقرن الحادي والعشرين». ولعل مشروع الشراكة الاستراتيجية للقرن الحالي بمنزلة القاعدة الرئيسية التي سيجري على أساسها بناء علاقات اقتصادية وتجارية جديدة أكثر إنتاجية بين البلدين. وستنطوي هذه العلاقات على مبادرات وتنويع اقتصادي وفق «رؤية السعودية 2030» الهادفة إلى تنويع المصادر والاستفادة من البنية البشرية والاقتصادية للبلاد وتخليص الاقتصاد السعودي من الاعتماد على النفط.
وكانت هذه الخطة الاستراتيجية التي أعدتها الحكومة السعودية قد لاقت صداها الإيجابي في الدوائر الاقتصادية عالمياً.
وفي السياق نفسه، أثبتت الأحداث في مختلف الفترات الزمنية اهتماماً أميركياً بمواقف السعودية الثابتة. وهذا أيضاً يدفع المراقبين السياسيين لتوقع أن تكون المنطقة العربية مسرحاً يشهد دوراً فاعلاً لعلاقات أكثر تنسيقاً واستقراراً بين الرياض وواشنطن، لا سيما في ظل ما عاشته وتعيشه المنطقة - من الخليج إلى شمال أفريقيا - من انتفاضات وخضّات واستحقاقات، وظهور مقاربات وإطلالات تستوجب تنسيقاً مستمراً بين العاصمتين. وبطبيعة الحال، هناك أيضاً الواقع القائل إن واشنطن لديها مصالح حيوية في شؤون الطاقة والاقتصاد، وهنا لا غنى عن علاقات متميزة وتفاهم في العمق مع السعودية.

المشهد الأميركي الداخلي
وعلى صعيد متصل، كانت الأشهر الماضية قد اتسمت بنقاشات وسجالات داخل الكونغرس الأميركي، وفي الإعلام الأميركي أيضاً، ارتفعت فيه بعض الأصوات المشككة والسلبية. وكان منها من وصل إلى وضع علامات استفهام على شرعية دعم واشنطن للعمليات العسكرية، بل تعداه إلى نقاش بعض الأصوات المناهضة للرئيس الأميركي ترمب، حول جدوى الإصلاحات الاجتماعية في السعودية، لكن كل ذلك ربما أخذ وهجه في الانطفاء مع أن بعض الجمر ما زال في الموقد.
ولكن الأصوات عميقة التأثير في الكونغرس، ومعها كبار المقرّرين في وزارة الخارجية الأميركية، وكذلك وزارة الدفاع (البنتاغون)، ترى أن الرياض هي حجر الأساس.
وتعتبر أن العلاقة الاستراتيجية الجيدة تشكل ضمانة كبرى لواشنطن في الشرق الأوسط، وذلك من خلال النظر لأهمية السعودية في سوق الاقتصاد والطاقة واستقرار الاقتصاد العالمي من جهة، ومن جهة ثانية على صعيد الاستقرار السياسي والأمني في وجه تزايد طموحات الطامحين ومغامرات المتطرفين.
وبالفعل، يرى مراقبون في الرياض أن السعودية «لم تكن أبداً البادئة في الضغط على الزناد... وهي لكونها دولة ذات ثقل وتقاليد عريقة في الحكم والسياسة، لا تنزلق باتجاه الخوض في نقاشات عقيمة في مواضيع ذات شؤون داخلية للدول الأخرى». ويتابع أحدهم: «حالياً نلاحظ أن الولايات المتحدة تتبنى مواقف أكثر إيجابية مع التقدم السعودي الإصلاحي، بينما هناك مع الموقف الأميركي بشأن إيران».
وحقاً، توجد في أروقة القرار داخل واشنطن إيجابية تجاه السعودية يغذيها إيمان بأهميتها، حتى بين ساسة الحزب الديمقراطي، الذي يميل، مثل منافسه الحزب الجمهوري، إلى استمرار ريادة أميركا للدول في العالم. ولقد أظهرت المؤشرات أن بعض الديمقراطيين يقفون مع الرئيس الأميركي ترمب في موضوع الاتفاق النووي الإيراني، وذلك لأن المواجهة التي تريد طهران فرضها في المنطقة ليست دينية أو طائفية فحسب، بل مواجهة عالمية مفتوحة تمثل فيها الخير، بينما يمثل المتصدون لأطماعها، والرافضون قلاقلها، الشر.

تعرف... وتتكلم بلغة واحدة
من هنا تعرف الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان تفاصيل الحياة السياسية في واشنطن، وتأتي مع رحلة تحديث سعودية في كل اتجاه، ولها من المكانة في قضايا ومفاصل العمل الدبلوماسي الكثير. إنها سيدة تهتم بتطورات الحياة في بلادها، وصوت صادق يعي تداخل القضايا وعمق الحياة وأهميتها في تكوين قوة نفوذ في مؤسسات الولايات المتحدة.
إنها في الاتجاه ذاته اليوم، تركز على سعودية جديدة. وترى أن الاستثمار في رأس المال البشري والسماح للناس بالنمو والتعلم والتطور هو أحد أهم أوجه النمو الاقتصادي. وكانت قد قالت في أحد لقاءاتها: «نريد رؤية القطاع الدولي يجلب الخبرات ويعزز التطوير للأفراد الذين سيعملون في هذا القطاع... نحتاج الأدوات والموارد محلية وأجنبية. نحن بحاجة إلى النظر في انتشار الفئات العمرية».
الأميرة السفيرة تتحدث مع الجميع بلغة واحدة، وفق منطق «تعالوا وتحدثوا إلينا إذا أردتم مزيداً من المعلومات والتفاصيل. نحن مهتمون... نريد أفكاراً خارج الصندوق لأعمال غير تقليدية للبنية التحتية والصناعة ككل. نود أن نكون رائدين عالمياً».
فترة حيوية ستعيشها السفارة في واشنطن، لأن نسخة أخرى من بندر بن سلطان ستعود، أو ربما أكثر من ذلك. فـ«سيدة» السفارة أول سعودية بمرتبة وزير، وأول سفيرة، وفي أي مكان.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.