فرنسا: قلق في بعض الأوساط من الانزلاق إلى الخلط بين الظاهرتين

TT

فرنسا: قلق في بعض الأوساط من الانزلاق إلى الخلط بين الظاهرتين

كان ذلك مساء الأربعاء 20 فبراير (شباط) المنصرم بمناسبة العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا بالبهو الكبير لمتحف اللوفر.
وككل عام، دعا المجلس المذكور الرؤساء الفرنسيين الأربعة (الجمهورية، والحكومة، والنواب والشيوخ) والوزراء وعددا كبير من النواب ورؤساء الأحزاب. لكن الأنظار كانت كلها متجهة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون للتعرّف على ما سيقوله بهذه المناسبة، التي تأتي بعد سلسلة من الأعمال المعادية للسامية التي شهدتها فرنسا في الأسابيع الأخيرة، وشملت تدنيس مقابر ورسم الصليب المعقوف على مواقع يهودية وكتابات على الجدران والمحلات وشتم المفكر الفرنسي اليهودي من أصول بولندية ألان فينكلكروت بمناسبة مسيرة لـ«السترات الصفراء» قريبا من ساحة مونبارناس. وفي الليلة السابقة وبناء على دعوة من الحزب الاشتراكي، وموافقة كل الأحزاب باستثناء الحزبين المذكورين سابقاً، تجمع آلاف من الفرنسيين بحضور رئيس الحكومة إدوار فيليب ومجموعة كبيرة من الوزراء في ساحة لا ريبوبليك (الجمهورية)، الواقعة وسط باريس، للتنديد بالأعمال المعادية للسامية ومطالبة الدولة بالتحرك والمواجهة.
لكن ما كان ينتظره مدعوو عشاء اللوفر هو معرفة ما إذا كان الرئيس ماكرون سيتبنّى مطالب أقطاب الجالية اليهودية، الذين ما فتئوا يدفعون باتجاه أن تخطو فرنسا خطوة جديدة في محاربة معاداة السامية من خلال تبنّي تعريف لها يجعل من معادة الصهيونية شكلاً من أشكال معاداة السامية، علما بأن هناك قوانين فرنسية مطبقة تجرم معاداة السامية وتنزل العقاب بمرتكبها.
عندما صعد ماكرون إلى المنصة ليلقي كلمته وعلى سترته شارة مرسوم عليها نجمة داود بيضاء، بدأ بتعداد ضحايا معاداة السامية واحدا بعد الآخر، ومشددا على أن فرنسا حالها في ذلك حال كثير من الديمقراطيات الغربية، تواجه «تصاعدا للأعمال المعادية للسامية بشكل غير مسبوق» منذ الحرب العالمية الثانية.
إلا أنه سريعا جدا، ذهب من باب تسمية الأمور بأسمائها، إلى التساؤل: «من لا يرى أن معاداة السامية تختبئ أكثر فأكثر تحت قناع معاداة الصهيونية؟». مضيفاً أن هذه الأخيرة هي «أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية». وأردف ماكرون قائلا: «لهذه الأسباب، أؤكد أن فرنسا ستعمد إلى وضع موضع التنفيذ تعريف اللاسامية الذي تبنّاه التحالف الدولي لذاكرة المحرقة (الهولوكوست)». وينص التعريف المذكور على أنه من العداء للسامية تحميل اليهود جماعياً المسؤولية عن أعمال وسياسات إسرائيل أو إنكار حق اليهودي في تقرير المصير أي إقامة الدولة اليهودية. إلا أن الرئيس الفرنسي استدرك بالقول إن المطلوب «ليس تعديل القانون الجنائي أو منع انتقاد السياسة الإسرائيلية ولا التدخل في الشؤون السياسية الدولية، وسياسة فرنسا تعرفونها... المطلوب هو توضيح وتشديد عمل القوى الأمنية والقضاء والمدرّسين بما يتيح لهم مناهضة مَن يتسترون وراء رفض السياسة الإسرائيلية لنفي حق إسرائيل بالوجود». وهذا ما يصفه ماكرون بأنه «الحقد البدائي» إزاء اليهود. وفي السياق عينه، يريد ماكرون مناهضة مقاطعة إسرائيل والحركة الدولية المعروفة بـ«BDS «(أي المقاطعة وحجب الاستثمارات وفرض العقوبات).
تعكس كلمات ومقترحات ماكرون السياق الخاص لخطابه. وهذه ليست المرة الأولى التي يعتبر فيها أن معاداة الصهيونية قناع لمعاداة السامية. لكن هذه المرة قرن القول بالفعل من جهة، وكشف عن مجموعة إجراءات، منها استصدار قانون يجرّم بث الكراهية على شبكة الإنترنت، وحلّ عدد من الجماعات اليمينية المتطرفة التي عدّد منها ثلاثة، وأخيرا إجراء تحقيق حول المدارس التي يتعرض فيها التلامذة اليهود للمضايقات، وبالتالي، يُجبرون على تغيير أماكن سكنهم.
حقيقة الأمر أن معاداة السامية ليست جديدة في فرنسا، لا بل إن الفرنسيين ما زالوا يشعرون بتأنيب الضمير بسبب الدور الذي لعبته حكومة المارشال فيليب بيتان أيام الحرب العالمية الثانية في التعاون مع السلطات الألمانية على اضطهاد اليهود وإرسالهم إلى معتقلات الموت. وتاريخيا، تعرف فرنسا نوعين من معاداة السامية: الأول، يصدر عن اليمين المتطرف الذي يرى في اليهودي نقيض الأمة. وكان جان ماري لوبن، الرئيس السابق لحزب «الجبهة الوطنية» - ووالد مارين لوبن، المرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية - الممثل «الرسمي» لهذا التيار. وأشهر مواقفه اعتباره أن محرقة اليهود «تفصيل من تفاصيل» الحرب العالمية الثانية. والنوع الثاني هو اليسار الماركسي المتشدّد، صاحب نظرية صراع الطبقات والحرب على رأس المال وعلى من يتحكّم به. إلا أن فرنسا تعرف، وفق الرئيس الفرنسي نوعاً ثالثاً (إسلامويا) من معاداة السامية، وقد جاء عليه في خطابه المذكور بقوله «علينا أن نواجه الحقيقة كما هي (من غير مواربة)، نعم، إلى جانب معاداة السامية التقليدية، تنتشر اليوم معاداة للسامية عمادها الإسلاموية المتطرفة، وهذه الآيديولوجيا تنخر بعض أحيائنا (في الضواحي) إلى درجة أنها تتسبب في هجرات داخلية». والمقصود بذلك اليهود.
لا شك أن ما قاله ماكرون وما يسعى للقيام به يرضي فريقاً من الفرنسيين، لكنه يثير غيظ فريق آخر، الذي يرى في الخلط بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية منزلقاً خطيراً رغم توضيحاته غير الكافية. وفي أي حال، ليس ماكرون وحيداً في هذا التوجه. فرئيس الحكومة الأسبق مانويل فالس سبقه إليه، كما أن اليمين المتطرف الباحث عن ذريعة جديدة يرمي المسؤولية على الإسلاميين وعلى الضواحي التي يسكنها المهاجرون. ومع كل عمل جديد معاد للسامية ستكبر الموجة، وربما ستجرف السدود التي ما زالت ترفض هذا النوع من الخلط الخطير.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل
TT

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ) و«الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، فإنه كان غالباً «الشريك» المطلوب لتشكيل الحكومات الائتلافية المتعاقبة.

النظام الانتخابي في ألمانيا يساعد على ذلك، فهو بفضل «التمثيل النسبي» يصعّب على أي من الحزبين الكبيرين الفوز بغالبية مطلقة تسمح له بالحكم منفرداً. والحال أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم ألمانيا حكومات ائتلافية يقودها الحزب الفائز وبجانبه حزب أو أحزاب أخرى صغيرة. ومنذ تأسيس «الحزب الديمقراطي الحر»، عام 1948، شارك في 5 حكومات من بينها الحكومة الحالية، قادها أحد من الحزبين الأساسيين، وكان جزءاً من حكومات المستشارين كونراد أديناور وهيلموت كول وأنجيلا ميركل.

يتمتع الحزب بشيء من الليونة في سياسته التي تُعد «وسطية»، تسمح له بالدخول في ائتلافات يسارية أو يمينية، مع أنه قد يكون أقرب لليمين. وتتمحور سياسات

الحزب حول أفكار ليبرالية، بتركيز على الأسواق التي يؤمن بأنها يجب أن تكون حرة من دون تدخل الدولة باستثناء تحديد سياسات تنظيمية لخلق أطر العمل. وهدف الحزب الأساسي خلق وظائف ومناخ إيجابي للأعمال وتقليل البيروقراطية والقيود التنظيمية وتخفيض الضرائب والالتزام بعدم زيادة الدين العام.

غينشر

من جهة أخرى، يصف الحزب نفسه بأنه أوروبي التوجه، مؤيد للاتحاد الأوروبي ويدعو لسياسات أوروبية خارجية موحدة. وهو يُعد منفتحاً في سياسات الهجرة التي تفيد الأعمال، وقد أيد تحديث «قانون المواطنة» الذي أدخلته الحكومة وعدداً من القوانين الأخرى التي تسهل دخول اليد العاملة الماهرة التي يحتاج إليها الاقتصاد الألماني. لكنه عارض سياسات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المتعلقة بالهجرة وسماحها لمئات آلاف اللاجئين السوريين بالدخول، فهو مع أنه لا يعارض استقبال اللاجئين من حيث المبدأ، يدعو لتوزيعهم «بشكل عادل» على دول الاتحاد الأوروبي.

من أبرز قادة الحزب، فالتر شيل، الذي قاد الليبراليين من عام 1968 حتى عام 1974، وخدم في عدد من المناصب المهمة، وكان رئيساً لألمانيا الغربية بين عامي 1974 و1979. وقبل ذلك كان وزيراً للخارجية في حكومة فيلي براندت بين عامي 1969 و1974. وخلال فترة رئاسته للخارجية، كان مسؤولاً عن قيادة فترة التقارب مع ألمانيا الديمقراطية الشرقية.

هانس ديتريش غينشر زعيم آخر لليبراليين ترك تأثيراً كبيراً، وقاد الحزب بين عامي 1974 و1985، وكان وزيراً للخارجية ونائب المستشار بين عامي 1974 و1992، ما جعله وزير الخارجية الذي أمضى أطول فترة في المنصب في ألمانيا. ويعتبر غينشر دبلوماسياً بارعاً، استحق عن جدارة لقب «مهندس الوحدة الألمانية».