كثيرة هي كتب التراث التي نقلت لنا الحكايات والقصص الشفاهية لتكون بين دفتي كتب، فأصبحت بمرور الوقت مصادر يلجأ إليها الدارسون والباحثون، حيث جمال هذه المصادر أن تضع القارئ بين عالمين مختلفين في الرؤية والتطلع والحالة الثقافية والاجتماعية، بل ذهب بعض المبدعين من كتّاب العربية واللغات الأجنبية إلى هذا التراث الإنساني لينهلوا من مادته الثرية لتكون مرجعية في تناولهم لموضوعات نصوصهم الإبداعية شعراً أو سرداً أو مسرحاً أو فناً درامياً أو سينمائياً.
من هنا نقول فعلاً ما أجمل كتب التراث والدراسات التي تناولت بعض الظواهر المجتمعية المختلفة! إنها مادة زاخرة بالعطاء تمكن الكاتب في العصر الحديث من الغوص في الكتابة وهو يتكئ على أرضية صلبة إذا استطاع أن يأخذ هذه المادة التراثية أو تلك، ثم يبني عالمه المتخيل والموضوعي بلغة عصرية حداثية. ولكني أتصور أن الاتكاء على التراث أو النهل من معينه، ليس بالأمر اليسير والسهل، حيث يتطلب الأمر مراناً وتجربة وخبرة في تلك العلاقة الحميمية بين كاتب العصر الحديث وهذا التراث، وقدرة على كيفية توظيف مادة صغيرة أو ثيمة واحدة أو موضوع ما مركون في زاوية النسيان ليكون مكان عمل إبداعي ذي قيمة فنية وجمالية وموضوعية، وهذا ما استطاعه بجدارة الخبير والعالم بأمور التراث والبحث والكتابة السردية الراحل الروائي إسماعيل فهد إسماعيل الذي فارقنا منذ أشهر راحلاً عن دنيانا، والذي أصدر رواية بعنوان «الكائن الظل» في طبعتين؛ تلك الرواية التي اتكأت على مراجع من تراثنا العربي، ككتابي «حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي» لمحمد رجب النجار، و«أشعار اللصوص وأخبارهم» لعبد المعين الملوحي.
وهذا الاتكاء يكشف عن عصرنة الكتابين، إلا أن مادتهما لم تكن من العصر الحديث، وإنما من تلك العصور المزدهرة ثقافياً والمتعاطية اجتماعياً، واللافتة أدبياً، إذ اعتمد الروائي في نصه السردي على مرجعية تاريخية وتراثية واضحة المعالم، حيث التاريخ فيه ما يغني الكاتب بالمواد التي تمكنه من الكتابة، خصوصاً أنه قد أحسن الاختيار، وتفنن في الغربلة بقدرة فائقة، وليس بطريقة النسخ والتكرار لما جاء به التراث نفسه، أو كما عند بعض الذين يرون في التراث مادة لنتاجهم، لكنهم يأخذونها، وللأسف تسهم في تحويل أعمالهم إلى نصوص تاريخية وليست إبداعية، غير أن إسماعيل فهد إسماعيل مختلف عن هذا النمط أو النوع من الكتابة والاتكاء، فما قام به في هذه الرواية أنه ربط تلقي المعرفة في العصر الحاضر من جهة، وكيفية بناء جسر معرفي وأدبي وثقافي بما هو في الماضي من جهة أخرى.
بنى الروائي باقتدار الشخصية الروائية الرئيسية، وهي تعد أطروحة الدكتوراه حول مسألة اجتماعية، وظاهرة كانت منتشرة في العصر العباسي آنذاك، تتمثل في دور اللصوص والعيارين والشطار في إبراز حالة المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، وكيفية الاستحواذ على الآخرين لتحقيق المصالح الذاتية عبر الحيلة وفبركة المواقف التي تحيلها إلى الحكاية والفكاهة والنكتة بعض الأحيان، كما أن هناك كثيراً من المصادر والكتب التي زخرت بكشف طبيعة الناس في تلك الفترة الزمنية، والطرائق التي ينسجها المنتفعون حتى زخر تراثنا بكتب كهذه، فهناك على سبيل المثال: كتابان للجاحظ متعلقان بالموضوع؛ هما «حيل اللصوص» و«البخلاء»، وكتاب ابن الجوزي، وكذلك تلك الكتب التي تناولت حكايات جحا العربي، وجحا التركي، وما كتب عن قراقوش، والمقامات وما فيها من نقد للمجتمع وأفراده، وعن الحمقى والمغفلين وغيرهم.
والرواية لم تتناول موضوعها بطريقة تقليدية في بناء الشخصيات الروائية، إنما تناولتها في سياق الكائن الظل، أي تناول شخصيتين مختلفتي المكان والزمان والرؤية والحالة والتطلع والهدف، ليبني الكاتب بينهما جسراً من التواصل والحوار. هاتان الشخصيتان؛ هما شخصية أثيرية، وهي شخصية حمدون بن حمدان، التي تشير المصادر إلى أنها الشخصية التي توصف بـ«حرامي بغداد»، والشخصية الثانية، هي شخصية حقيقية، وعبر الحوار الذي كان يدور بينهما في غرفة الشخصية الحقيقية، وهي التي تكتب بحثها الأكاديمي لنيل درجة الدكتوراه.
ومن خلال تلك الحوارات التي تتكرر بين الحين والآخر، يتكشف لنا - نحن القراء - قبل شخصية العمل الروائي، كثير من القضايا المنتشرة آنذاك في ذلك العصر، وهنا تكمن أهمية المرجعية الثقافية التاريخية التي اتكأت عليها الرواية، حيث أبرزت بعض اللصوص ذات السمعة والشهرة، وأسماءهم، والصفات التي يتصفون بها، وطرائق النصب والاحتيال والسطو، وأسماء بعض النسوة والجواري، والسرقات والسرّاق، بل باتت المرجعية التي صاحبت النص الروائي مهمة جداً لكل من النص والكاتب والقارئ، وكيفية الحلول التي ينبغي أن تبنى على أسس موضوعية، وعبر القناعات المنطقية كما حدث في الحوار الذي دار بين الشخصيتين، وهو حوار مهم لما فيه إسقاط على الواقع المعيش الذي لا يقبل فيه المتحاور الاختلاف والتباين في الرأي، بل يرى القارئ تلك المسوغات التي يرسمها الشطار في ضوء مجموعة من المبادئ التي لا يحيد عنها كثير من اللصوص والعيارين، كما تكشف الرواية عن منهجية اللصوص، والناس الذين يقعون في مصيدتهم، ومدى الاستحواذ على ما يرغبون في مواصلة الاحتيال أو ترك العمل ساعتئذ، بمعنى آخر على الرغم من عملهم الذي لا تقبله الأعراف الاجتماعية، فإن بعضهم يسلك سلوكاً إنسانياً في العمل ذاته، ومن يرغب في المزيد عليه أن يقرأ ما كتب عن هؤلاء الشطار والعيارين في الثقافة العربية.
وهذا ليس غريباً في تجربة إسماعيل فهد إسماعيل، فهو من الكتّاب المهمين الذين يفكرون ملياً في العلاقة بين الذات والأخرى ضمن سياقات ثقافية أو اجتماعية أو بيئية أو فنية أيضاً، وهنا يأتي التميز في الرؤية التي يريد الكاتب إيصالها إلى المتلقي، بل هناك من الكتاب الذين رحلوا في عالم التراث ونبش النصوص القديمة سواء في حكايات ألف ليلة وليلة، كما فعل عبد الله الغذامي، حين تناول دور شهرزاد في مشروعه المرأة واللغة، أو كما تناول عبد الفتاح كيليطو هذه الحكايات في كتب تحليلية وتأويلية، مثل «العين والإبرة»، وروايته المهمة «أنبئوني بالرؤية».
- كاتب بحريني