جماعة «أنصارو» الإرهابية... مساعٍ نحو تأسيس «دويلة متطرفة»

الخطر الحقيقي الجديد

نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
TT

جماعة «أنصارو» الإرهابية... مساعٍ نحو تأسيس «دويلة متطرفة»

نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)

أدَّت الجهود الدولية المضنية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط إلى كسر شوكة «داعش» بزعامة أبو بكر البغدادي، إذ إن التنظيم لم يعد يسيطر إلا على 1 في المائة من الجغرافيا التي أعلنت ما تُسمّى بأرض «الخلافة» المزعومة. غير أن هذا التراجع يقابله ارتفاع وتيرة نشاط الجماعات الإرهابية بغرب القارة الأفريقية، خصوصاً بنيجيريا... حيث تشير تقارير بحثية عديدة إلى الصعود المخيف لتنظيم «أنصارو» التابع لـ«القاعدة»، بعد أن تراجع تنظيم «بوكو حرام» في بعض دول الإقليم.

مع بداية 2019، أصبح تنظيم «أنصارو»، أكثر خطورة من تنظيم أبو بكر شيكاو، حيث بات «أنصارو»، يسيطر على مساحة شاسعة تعادل مساحة دولة بلجيكا. كما أن التنظيم يقف وراء كثير من الهجمات المميتة، في الشمال والشمال الشرقي، وقد أعطى هذا التنظيم الذي يتزعمه أبو مصعب البرناوي، أولوية قصوى لمهاجمة الجيش والشرطة والميليشيات المسلحة التابعة لهما، دون أن يعني ذلك تخليه عن مواجهة السكان، خصوصاً غير المتعاونين مع التنظيم.
ومن العمليات التي قادها هذا التنظيم مهاجمته بداية يناير (كانون الثاني) الماضي ثلاثة مراكز عسكرية شمال شرقي البلاد، مما أسفر عن عدد من القتلى. كما تحدثت منظمة العفو الدولية وعدة مصادر أمنية عن هجوم مروِّع وقع نهاية شهر يناير الماضي، بعد يوم من انسحاب الجيش من بلدة ران شمال شرقي نيجيريا، وقتل فيه 60 شخصاً على الأقل، كما شرد الهجوم نحو 40 ألف شخص، هرب 30 ألفاً منهم إلى الكاميرون.

الوضع المتردِّي

تُعدّ الهجمات المتكررة والمتصاعدة ضد الجيش النيجيري من المؤشرات الدالّة على تزايد قوة تنظيم «أنصارو». ورغم أن وسائل الإعلام وبعض المنظمات ما زالت تخلط بين تنظيم «بوكو حرام»، بزعامة أبو بكر شيكاو، والتنظيم المنشقّ عنه سنة 2015، الذي يحمل اسم «أنصارو» (أنصار)، بقيادة أبو مصعب البرناوي، ابن محمد يوسف مؤسس تنظيم «بوكو حرام». فإن جيمس بارنيت محلل في مشروع التهديدات الحرجة في معهد «أميركان إنتربرايز» المتخصص في شرق أفريقيا وحوض بحيرة تشاد، يرى أن الوقت قد حان لإدراك أن تنظيم «أنصار» هو الخطر الحقيقي الجديد، وأن هذا التنظيم على وشك إقامة «دويلة متطرفة»، جديدة ستكون دولة داخل أكبر بلد بأفريقيا.
بالنسبة للباحث، في منطقة بحيرة التشاد، جيمس بارنيت، فإن قوة التنظيم لا تعود للقدرة المتنامية على مهاجمة القواعد العسكرية، بل تنامي قدرة التنظيم على «مسك الأراضي الشاسعة»، وسيطرته على جغرافيا مترامية الأطراف. أكثر من ذلك، تحوَّل التنظيم في غياب للدولة النيجيرية، إلى سلطة إدارية، لها مؤسسات، تدير شؤون عشرات الآلاف من المواطنين، وتجمع الضرائب، كما تسيِّر التجارة والموارد الطبيعية. وهذا ما يمنح التنظيم مزيداً من ثقة السكان، لا سيما بالشمال والشمال الشرقي للبلاد.
ويبدو أن التهديد الذي يشكِّله تنظيم البرناوي لا ينحصر في الرقعة المحلية، بل يصل إلى غرب أفريقيا، وحوض بحيرة تشاد غرب القارة.
وهذا ما يعني أن الدينامية التي تتمتع بها التنظيمات الإرهابية، وتشابكها إقليمياً، يشكلان تحدياً لدول غرب القارة، وللمصالح الاستراتيجية الأميركية بالمنطقة. على الرغم من أن الولايات المتحدة تبني أكبر قاعدة عسكرية لها بأفريقيا بالنيجر القريبة.
ورغم كون الولايات المتحدة الأميركية شريكاً حقيقياً لقوات الأمن النيجيرية في مواجهتها للمنظمات الإرهابية لا سيما «بوكو حرام» و«أنصارو»، فإن هناك عوائق تحول دون تحقيق النصر الذي تحقق في العراق وسوريا، رغم الجهود الكبيرة التي قامت بها نيجيريا وشركاؤها.
بالنسبة للباحث جيمس بارنيت، فإن الوضع السياسي، والأمني والعسكري الحالي بنيجيريا، لا يساعد على هزيمة الإرهاب، ولا الجماعات المسلحة العرقية الانفصالية في الجنوب وغيره. ذلك أن البلاد مقبلة على الانتخابات الرئاسية في سنة 2019، وسط صراعات عرقية وإثنية ومذهبية دينية، وتنامٍ لقوة المنظمات الإرهابية، وتأثير فعلها الإجرامي على الاقتصاد.
من جهة أخرى، تضاءل التركيز الدولي على منطقة بحيرة تشاد، مما يعيق الحكومة النيجيرية عن إعطاء الأولوية لهذه المعركة، وتوفير الموارد لها. وعليه، يمكن القول إن ارتفاع وتيرة الهجمات التي ينفِّذها تنظيم «أنصارو»، منذ الأشهر الأخيرة من سنة 2018، وبداية 2019، وما تخلّفه من مئات الضحايا شهرياً، والآلاف من النازحين. تشكّل بداية لمرحلة جديدة، تهدد بتكرار تجربة دولة «داعش» التي قضي عليها بالعراق وسوريا.
ذلك أن تنظيم برناوي بات يشكل بالفعل تهديداً إرهابياً لأبوجا، عاصمة نيجيريا، حيث خطط التنظيم في النصف الثاني من سنة 2018م، لمهاجمة السفارتين الأميركية والبريطانية، وربما لاغوس أكبر مدينة في نيجيريا. وهو ما أدى لمزيد من الاحتياطات الأمنية في المطارات منذ يونيو (حزيران) 2018، حيث توصلت المصالح الأمنية إلى أن التنظيمات الإرهابية تستهدف الطائرات التجارية.

فكرة الدولة

وبما أن التنظيم يسيطر على مساحة واسعة، وله موارد مالية وبشرية، ويحصل على السلاح في السوق السوداء، أو عبر مهاجمات القواعد العسكرية، ولأن التنظيم يستفيد آيديولوجيا من انتشار فكر «السلفية الجهادية» في أجزاء من غرب أفريقيا. فإن فكرة إقامة «الدولة الإسلامية» في هذه المنطقة ليستْ حُلماً للمجموعات الإرهابية المتطرفة فقط، بل تجد لها قاعدة شعبية كبيرة مساندة لها. وتستغل المجموعات المتطرفة، الصراعات الإثنية والدينية، والوضع الاقتصادي وضعف الدولة، لتسويق فكرة تأسيس دولة من منظور قريب من «داعش»، مما جعل غرب أفريقيا مصدراً أكبر للإرهاب العابر للحدود أكثر من أي وقت مضى.
من جانب آخر، يُمكن القول إن انقسام «بوكو حرام» سنة 2015 جعل تهديد المتشددين في شمال شرقي نيجيريا أكثر خطورة. فقد أدى استهداف تنظيم شيكاو، للمدنيين المسلمين إلى عزله عن السكان المحليين وكان عاملاً رئيسياً في تنصل «داعش» من قيادته، صحيح أن «بوكو حرام» لم يقدِّم نُظُماً للحكم على الإطلاق، ولم يمنح المجتمعات المحلية أي حافز للتعاون، كما أن شياكو يفضل المقاتلين من مجموعته العرقية، مما يخلق احتكاكاً داخلياً ويحدّ من توسع التنظيم إقليمياً، لكنّ تنظيم «أنصارو» تعلّم من أخطاء «بوكو حرام»، وتجنبَتْ المجموعة المنشقة، بشكل عام، قَتْل المدنيين المسلمين، وتبذل جهوداً حثيثة لحماية التجارة وحرية الحركة في الأراضي التي تسيطر عليها. مع تركيز شديد للهجمات ضد الجيش النيجيري، الذي يعاني من نقص في الموارد المالية والبشرية، وتقادم معداته العسكرية.
ويأتي هذا في وقت لا يركز فيه المجتمع الدولي على تهديد المتطرفين في نيجيريا، كما كان في عام 2015. ورغم أن الدول الغربية قدمت مساعدة أمنية لنيجيريا فور انتهاء عمليات الاختطاف، التي تمت سنة 2014، مما يشير إلى اهتمام أوسع بمكافحة الإرهاب في المنطقة، لا سيما بعد نشر الولايات المتحدة 300 جندي في الكاميرون بعد إعلان «بوكو حرام» مبايعته لـ«داعش» سنة 2015. غير أن التقارير تفيد بأن الولايات المتحدة برمجت تقليص قواتها في المنطقة، غرب أفريقيا، في أفق عام 2019.
وفي ظل هذا الوضع، يعمل تنظيم أبو مصعب البرناوي، بشكل سريع، على تسريع توسيع سيطرته على المناطق الريفية، واستعادة الأراضي التي احتضنها «بوكو حرام»، إما عن طريق التفاوض أو المواجهة المسلحة. وبما أن التنظيم يحقق مكاسب كبيرة على المستوى الميداني، فقد شجعه ذلك على طرد الجيش النيجيري من مناطق مختلفة، مركزاً على شمال شرقي نيجيريا، وهي المناطق التي تكون فيها قوات الجيش والأمن ضعيفة. وقد هاجم التنظيم أكثر من ثماني عشرة قاعدة، منذ منتصف عام 2018، واستولى على المعدات والمركبات والرهائن.
ويرى، الباحث المتخصص في قضايا الأمنية لبحيرة التشاد جيمس بارنيت، أن هذا التفوُّق القتالي أدى بدوره إلى نزوح مئات الجنود النيجيريين شمال شرقي البلاد، حيث يواجهون عمليات انتشار موسعة، ومعدات غير كافية، ورواتب مخجلة. وهو ما يؤدي إلى سهولة استيلاء التنظيم على بلدان ومناطق في شمال شرقي نيجيريا، أواخر عام 2018، وسيصبح قريباً قوياً بما يكفي للاحتفاظ بها. رغم أن هذا السيناريو يصعب تصديقه فإن التنظيم قادر على تحقيقه.
أضف إلى ذلك أن مجتمعات منطقة بحيرة تشاد عانت من نتائج الصراع، ومن المرجّح أن يذعن كثير منها لاحتلال تنظيم «أنصارو» مقابل إنهاء القتال. ومع وجود مناطق موسعة، يستغلها التنظيم، في شمال شرقي نيجيريا من شأنه أن يعزز شرعية «أنصارو»، ويسمح له بتوجيه الهجمات عبر نيجيريا، وضد المصالح الغربية في المنطقة.
قد يستفيد التنظيم من سلوك قوات الأمن النيجيرية التي أصبحت أكثر عنفاً مما كانت عليه قبل أربع سنوات. ومن تركيز الجيش أكثر على جنوب شرقي نيجيريا بسبب وجود النفط، وأهميته الاقتصادية. كما أن الحكومة تعاني من شح الموارد، وازدياد طلبات السكان، الشيء الذي دفعها لتبني رد عسكري على عُنف المزارعين في عام 2018. كما أن الحرب الأهلية الناشبة في الكاميرون المجاورة ستكون تحدياً جديداً لنيجيريا وقواتها المسلحة.
بكلمة، يبدو أن هذا الوضع العام يساعد أبو مصعب البرناوي، على المضي قدماً في تأسيس «دويلة متشددة» في الشمال الشرقي لنيجيريا، أكبر تجمُّع بشري واقتصادي بأفريقيا. وبالإضافة للعوامل المذكورة أعلاه، فإن الاضطرابات وعدم الاستقرار بدولة الكاميرون المجاورة، تسهل الحركة وتجنيد مزيد من العناصر للقتال. ويشير إلى ذلك رئيس أركان الدفاع الجنرال رينيه كلود ميكان حين قال: «عام 2019 سيشهد نضال الكاميرون من أجل الوحدة الوطنية وسلامة الأراضي». وأضاف أن «جماعة (بوكو حرام)، وهي جماعة إرهابية إسلامية مقرها نيجيريا تجنّد مرة أخرى مقاتلين في الكاميرون وتهاجم حدودنا الشمالية. وفي الوقت نفسه، قام الانفصاليون الذين يقاتلون لإنشاء دولة تتحدث الإنجليزية بتجنيد مرتزقة من دول مجاورة لزعزعة استقرار الكاميرون».

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟