جماعة «أنصارو» الإرهابية... مساعٍ نحو تأسيس «دويلة متطرفة»

الخطر الحقيقي الجديد

نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
TT

جماعة «أنصارو» الإرهابية... مساعٍ نحو تأسيس «دويلة متطرفة»

نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)

أدَّت الجهود الدولية المضنية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط إلى كسر شوكة «داعش» بزعامة أبو بكر البغدادي، إذ إن التنظيم لم يعد يسيطر إلا على 1 في المائة من الجغرافيا التي أعلنت ما تُسمّى بأرض «الخلافة» المزعومة. غير أن هذا التراجع يقابله ارتفاع وتيرة نشاط الجماعات الإرهابية بغرب القارة الأفريقية، خصوصاً بنيجيريا... حيث تشير تقارير بحثية عديدة إلى الصعود المخيف لتنظيم «أنصارو» التابع لـ«القاعدة»، بعد أن تراجع تنظيم «بوكو حرام» في بعض دول الإقليم.

مع بداية 2019، أصبح تنظيم «أنصارو»، أكثر خطورة من تنظيم أبو بكر شيكاو، حيث بات «أنصارو»، يسيطر على مساحة شاسعة تعادل مساحة دولة بلجيكا. كما أن التنظيم يقف وراء كثير من الهجمات المميتة، في الشمال والشمال الشرقي، وقد أعطى هذا التنظيم الذي يتزعمه أبو مصعب البرناوي، أولوية قصوى لمهاجمة الجيش والشرطة والميليشيات المسلحة التابعة لهما، دون أن يعني ذلك تخليه عن مواجهة السكان، خصوصاً غير المتعاونين مع التنظيم.
ومن العمليات التي قادها هذا التنظيم مهاجمته بداية يناير (كانون الثاني) الماضي ثلاثة مراكز عسكرية شمال شرقي البلاد، مما أسفر عن عدد من القتلى. كما تحدثت منظمة العفو الدولية وعدة مصادر أمنية عن هجوم مروِّع وقع نهاية شهر يناير الماضي، بعد يوم من انسحاب الجيش من بلدة ران شمال شرقي نيجيريا، وقتل فيه 60 شخصاً على الأقل، كما شرد الهجوم نحو 40 ألف شخص، هرب 30 ألفاً منهم إلى الكاميرون.

الوضع المتردِّي

تُعدّ الهجمات المتكررة والمتصاعدة ضد الجيش النيجيري من المؤشرات الدالّة على تزايد قوة تنظيم «أنصارو». ورغم أن وسائل الإعلام وبعض المنظمات ما زالت تخلط بين تنظيم «بوكو حرام»، بزعامة أبو بكر شيكاو، والتنظيم المنشقّ عنه سنة 2015، الذي يحمل اسم «أنصارو» (أنصار)، بقيادة أبو مصعب البرناوي، ابن محمد يوسف مؤسس تنظيم «بوكو حرام». فإن جيمس بارنيت محلل في مشروع التهديدات الحرجة في معهد «أميركان إنتربرايز» المتخصص في شرق أفريقيا وحوض بحيرة تشاد، يرى أن الوقت قد حان لإدراك أن تنظيم «أنصار» هو الخطر الحقيقي الجديد، وأن هذا التنظيم على وشك إقامة «دويلة متطرفة»، جديدة ستكون دولة داخل أكبر بلد بأفريقيا.
بالنسبة للباحث، في منطقة بحيرة التشاد، جيمس بارنيت، فإن قوة التنظيم لا تعود للقدرة المتنامية على مهاجمة القواعد العسكرية، بل تنامي قدرة التنظيم على «مسك الأراضي الشاسعة»، وسيطرته على جغرافيا مترامية الأطراف. أكثر من ذلك، تحوَّل التنظيم في غياب للدولة النيجيرية، إلى سلطة إدارية، لها مؤسسات، تدير شؤون عشرات الآلاف من المواطنين، وتجمع الضرائب، كما تسيِّر التجارة والموارد الطبيعية. وهذا ما يمنح التنظيم مزيداً من ثقة السكان، لا سيما بالشمال والشمال الشرقي للبلاد.
ويبدو أن التهديد الذي يشكِّله تنظيم البرناوي لا ينحصر في الرقعة المحلية، بل يصل إلى غرب أفريقيا، وحوض بحيرة تشاد غرب القارة.
وهذا ما يعني أن الدينامية التي تتمتع بها التنظيمات الإرهابية، وتشابكها إقليمياً، يشكلان تحدياً لدول غرب القارة، وللمصالح الاستراتيجية الأميركية بالمنطقة. على الرغم من أن الولايات المتحدة تبني أكبر قاعدة عسكرية لها بأفريقيا بالنيجر القريبة.
ورغم كون الولايات المتحدة الأميركية شريكاً حقيقياً لقوات الأمن النيجيرية في مواجهتها للمنظمات الإرهابية لا سيما «بوكو حرام» و«أنصارو»، فإن هناك عوائق تحول دون تحقيق النصر الذي تحقق في العراق وسوريا، رغم الجهود الكبيرة التي قامت بها نيجيريا وشركاؤها.
بالنسبة للباحث جيمس بارنيت، فإن الوضع السياسي، والأمني والعسكري الحالي بنيجيريا، لا يساعد على هزيمة الإرهاب، ولا الجماعات المسلحة العرقية الانفصالية في الجنوب وغيره. ذلك أن البلاد مقبلة على الانتخابات الرئاسية في سنة 2019، وسط صراعات عرقية وإثنية ومذهبية دينية، وتنامٍ لقوة المنظمات الإرهابية، وتأثير فعلها الإجرامي على الاقتصاد.
من جهة أخرى، تضاءل التركيز الدولي على منطقة بحيرة تشاد، مما يعيق الحكومة النيجيرية عن إعطاء الأولوية لهذه المعركة، وتوفير الموارد لها. وعليه، يمكن القول إن ارتفاع وتيرة الهجمات التي ينفِّذها تنظيم «أنصارو»، منذ الأشهر الأخيرة من سنة 2018، وبداية 2019، وما تخلّفه من مئات الضحايا شهرياً، والآلاف من النازحين. تشكّل بداية لمرحلة جديدة، تهدد بتكرار تجربة دولة «داعش» التي قضي عليها بالعراق وسوريا.
ذلك أن تنظيم برناوي بات يشكل بالفعل تهديداً إرهابياً لأبوجا، عاصمة نيجيريا، حيث خطط التنظيم في النصف الثاني من سنة 2018م، لمهاجمة السفارتين الأميركية والبريطانية، وربما لاغوس أكبر مدينة في نيجيريا. وهو ما أدى لمزيد من الاحتياطات الأمنية في المطارات منذ يونيو (حزيران) 2018، حيث توصلت المصالح الأمنية إلى أن التنظيمات الإرهابية تستهدف الطائرات التجارية.

فكرة الدولة

وبما أن التنظيم يسيطر على مساحة واسعة، وله موارد مالية وبشرية، ويحصل على السلاح في السوق السوداء، أو عبر مهاجمات القواعد العسكرية، ولأن التنظيم يستفيد آيديولوجيا من انتشار فكر «السلفية الجهادية» في أجزاء من غرب أفريقيا. فإن فكرة إقامة «الدولة الإسلامية» في هذه المنطقة ليستْ حُلماً للمجموعات الإرهابية المتطرفة فقط، بل تجد لها قاعدة شعبية كبيرة مساندة لها. وتستغل المجموعات المتطرفة، الصراعات الإثنية والدينية، والوضع الاقتصادي وضعف الدولة، لتسويق فكرة تأسيس دولة من منظور قريب من «داعش»، مما جعل غرب أفريقيا مصدراً أكبر للإرهاب العابر للحدود أكثر من أي وقت مضى.
من جانب آخر، يُمكن القول إن انقسام «بوكو حرام» سنة 2015 جعل تهديد المتشددين في شمال شرقي نيجيريا أكثر خطورة. فقد أدى استهداف تنظيم شيكاو، للمدنيين المسلمين إلى عزله عن السكان المحليين وكان عاملاً رئيسياً في تنصل «داعش» من قيادته، صحيح أن «بوكو حرام» لم يقدِّم نُظُماً للحكم على الإطلاق، ولم يمنح المجتمعات المحلية أي حافز للتعاون، كما أن شياكو يفضل المقاتلين من مجموعته العرقية، مما يخلق احتكاكاً داخلياً ويحدّ من توسع التنظيم إقليمياً، لكنّ تنظيم «أنصارو» تعلّم من أخطاء «بوكو حرام»، وتجنبَتْ المجموعة المنشقة، بشكل عام، قَتْل المدنيين المسلمين، وتبذل جهوداً حثيثة لحماية التجارة وحرية الحركة في الأراضي التي تسيطر عليها. مع تركيز شديد للهجمات ضد الجيش النيجيري، الذي يعاني من نقص في الموارد المالية والبشرية، وتقادم معداته العسكرية.
ويأتي هذا في وقت لا يركز فيه المجتمع الدولي على تهديد المتطرفين في نيجيريا، كما كان في عام 2015. ورغم أن الدول الغربية قدمت مساعدة أمنية لنيجيريا فور انتهاء عمليات الاختطاف، التي تمت سنة 2014، مما يشير إلى اهتمام أوسع بمكافحة الإرهاب في المنطقة، لا سيما بعد نشر الولايات المتحدة 300 جندي في الكاميرون بعد إعلان «بوكو حرام» مبايعته لـ«داعش» سنة 2015. غير أن التقارير تفيد بأن الولايات المتحدة برمجت تقليص قواتها في المنطقة، غرب أفريقيا، في أفق عام 2019.
وفي ظل هذا الوضع، يعمل تنظيم أبو مصعب البرناوي، بشكل سريع، على تسريع توسيع سيطرته على المناطق الريفية، واستعادة الأراضي التي احتضنها «بوكو حرام»، إما عن طريق التفاوض أو المواجهة المسلحة. وبما أن التنظيم يحقق مكاسب كبيرة على المستوى الميداني، فقد شجعه ذلك على طرد الجيش النيجيري من مناطق مختلفة، مركزاً على شمال شرقي نيجيريا، وهي المناطق التي تكون فيها قوات الجيش والأمن ضعيفة. وقد هاجم التنظيم أكثر من ثماني عشرة قاعدة، منذ منتصف عام 2018، واستولى على المعدات والمركبات والرهائن.
ويرى، الباحث المتخصص في قضايا الأمنية لبحيرة التشاد جيمس بارنيت، أن هذا التفوُّق القتالي أدى بدوره إلى نزوح مئات الجنود النيجيريين شمال شرقي البلاد، حيث يواجهون عمليات انتشار موسعة، ومعدات غير كافية، ورواتب مخجلة. وهو ما يؤدي إلى سهولة استيلاء التنظيم على بلدان ومناطق في شمال شرقي نيجيريا، أواخر عام 2018، وسيصبح قريباً قوياً بما يكفي للاحتفاظ بها. رغم أن هذا السيناريو يصعب تصديقه فإن التنظيم قادر على تحقيقه.
أضف إلى ذلك أن مجتمعات منطقة بحيرة تشاد عانت من نتائج الصراع، ومن المرجّح أن يذعن كثير منها لاحتلال تنظيم «أنصارو» مقابل إنهاء القتال. ومع وجود مناطق موسعة، يستغلها التنظيم، في شمال شرقي نيجيريا من شأنه أن يعزز شرعية «أنصارو»، ويسمح له بتوجيه الهجمات عبر نيجيريا، وضد المصالح الغربية في المنطقة.
قد يستفيد التنظيم من سلوك قوات الأمن النيجيرية التي أصبحت أكثر عنفاً مما كانت عليه قبل أربع سنوات. ومن تركيز الجيش أكثر على جنوب شرقي نيجيريا بسبب وجود النفط، وأهميته الاقتصادية. كما أن الحكومة تعاني من شح الموارد، وازدياد طلبات السكان، الشيء الذي دفعها لتبني رد عسكري على عُنف المزارعين في عام 2018. كما أن الحرب الأهلية الناشبة في الكاميرون المجاورة ستكون تحدياً جديداً لنيجيريا وقواتها المسلحة.
بكلمة، يبدو أن هذا الوضع العام يساعد أبو مصعب البرناوي، على المضي قدماً في تأسيس «دويلة متشددة» في الشمال الشرقي لنيجيريا، أكبر تجمُّع بشري واقتصادي بأفريقيا. وبالإضافة للعوامل المذكورة أعلاه، فإن الاضطرابات وعدم الاستقرار بدولة الكاميرون المجاورة، تسهل الحركة وتجنيد مزيد من العناصر للقتال. ويشير إلى ذلك رئيس أركان الدفاع الجنرال رينيه كلود ميكان حين قال: «عام 2019 سيشهد نضال الكاميرون من أجل الوحدة الوطنية وسلامة الأراضي». وأضاف أن «جماعة (بوكو حرام)، وهي جماعة إرهابية إسلامية مقرها نيجيريا تجنّد مرة أخرى مقاتلين في الكاميرون وتهاجم حدودنا الشمالية. وفي الوقت نفسه، قام الانفصاليون الذين يقاتلون لإنشاء دولة تتحدث الإنجليزية بتجنيد مرتزقة من دول مجاورة لزعزعة استقرار الكاميرون».

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.