تبدو رواية «المشراف»، وهي التجربة السردية الأولى للإعلامي عبيد السهيمي، (صدرت عن دار مسكلياني. تونس، 2019)، رواية جديرة بالاحتفاء، لكونها تحتفي بالحكاية وبالتاريخ معاً، فالتقاطع بين الحكاية والتاريخ قد شكَّل أبعاداً ودلالاتٍ أثارت أسئلة الإبداع والمكان والزمان والواقع؛ أثارت علاقة التاريخ بالحكاية عبر الرؤى القائمة في أذهان الشخصيات داخل الرواية ورؤية السارد وتنويعاته الحكائية.
تنطلق الرواية من الوعي الحكائي؛ منذ أن لامس الكاتب العلاقة بين التاريخ والحكاية حد الاندماج عبر مقولته «هذا العمل تاريخ من لا تاريخ لهم»، فيبدو البناء منذ اللحظة الأولى اعترافاً معلناً بالتاريخ، ويعقبه بعد ذلك بالحكاية، فيتجلى في المفتتح السردي قوله: «قبل أن أبدأ سرد حكايتي...».
تتشكّل أبعاد التاريخ والحكايات للكشف عن ركيزة ثابتة في النص تتمحور حول التصوّر، فالتصور لدى الراوي خلاف التصور لدى الشخصيات الروائية، فالرؤى السردية بين الراوي والشخصيات تتشكلان من أجل تقاطع حكائي - تاريخي عبر اللجوء إلى التبرير السردي، فمثلاً ما علاقة الإهداء بالإرهاب؟! فالقارئ للرواية لا يجد سبباً مقنعاً منذ اللحظة الأولى، وعليه البحث عن هذا السبب في معاطف الحكايات، ثم تتكشف له العلاقة في الصفحات الأخيرة، وتتجلى المعلومة السردية غير المتوقعة في نهاية مفتوحة! ثم يكشف التبرير التركيبي في اختيار الأسماء ذات الدلالات المختلفة، ثمَّة أسماء تتصل بالبيئة المكانية في اختلافاتها وتنوعها، وهناك ألقاب وكنى تتصل بالأحداث والمكوِّنات السردية المشَكّلَة للحكايات.
فالتاريخ والحكاية ركيزتان اعتنى بهما الكاتب في بناء روايته وفق فهمه الخاص للحكايات وأبعادها الجمالية، ومساءلة التاريخ؛ لكونه يخلق تبريراً للحكايات المعاصرة. وبهذا تتكشف العلاقة القائمة على هاتين الركيزتين في الرواية، لإجلاء علاقة الإنسان بالمكان.
استطاعت الرواية أن تحرك الثابت عبر تبادل الأدوار بين التاريخ والحكايات، فالمتخيل السردي للحكاية والتاريخ يختلف بين الراوي والشخصيات، إذ حاولت الحكايات الاستعانة بالتاريخ للكشف عن غموض حاصل في الواقع تجهله بعض الشخصيات بما فيها السارد - البطل، وربما امتد الجهل إلى التلقي بالمفارقة الحاصلة في بعض النهايات!!
ومما أعان على بناء تاريخ المكان والأبعاد الجمالية للحكايات في الرواية استدعاء تاريخ القرية بالحكايات المحيطة بها، وبما قاله التاريخ لتبرير بعض الحكايات التاريخية، فَقَرْيَة المشراف بناها الجد الذي جاء من مكان مجهول، حاملاً معه الكنز المخبَّأ في بئر قريبة من منزله الذي نزل. والكنز عبارة عن عمود من أعمدة مدينة إرم التي تظهر كل ألف سنة!! جاء به الجد من المدينة على ظهور عشرة جمال!! ففي الحكاية يستدعي التاريخ مبرراً مكان القرية، ومحمّلاً المكان بالحمولات الأسطورية والحكايات الغرائبية، والراوي يلجأ إلى إحالة القول إلى منطقة تجوّز الفن عبر الحكاية حين يحيل القول إلى مجهول!! «قيل له سِرْ باتجاه الغرب حصناً شيده بنو هلال على رأس تلة صغيرة»، كما أن الراوي يشرك الجنّ في تأثيث الحكايات والتشكيل البنائي عبر حضورهم الفاعل في الحفاظ على الكنز المخبوء في البئر، وحمايته والدفاع عنه وعن أهله، ويتكئ الراوي على التفكير الأسطوري في إشاعة الأخبار على ألسنة العجائز في المكان، ثم يحاول أن يقترب من شخصية الأب الذي يهديه بعض الحكم في التصالح مع الموت مثلاً!
الوعي بالحكاية ودورها في بناء الرواية وعي حاضرٌ في الكتابة الروائية، فهو يستدعي هذا الوعي كتابياً بالاعتراف داخل الكتابة، ففي بعض حواراته مع شخصية «هيام» يقول السارد: «هناك بعض التفاصيل التي لا تزيد المكان إلا تعقيداً!!».
ثم يسهم الوعي في التحفيز الحكائي؛ حين يستدعي التاريخ وحكاياته الأسطورية، ففي أسطورة مدينة إرم مثلاً، وما قيل عنها في بنائها على يد شداد بن عاد، وأنه أرادها جنة زمن الأحقاف في التاريخ القديم... ولأنها تظهر في كل ألف سنة مرة واحدة لمدة ليلة كاملة!! الروائي استثمر الحكاية، لأجل تحفيز البناء السردي من جهة، ومن جهة أخرى تبريراً لحكاية الكنز المخبوء في البئر، وربطاً بين الكنز والصدفة التي قادت الجدّ لمكان المدينة، ثم السير عنها باتجاه الغرب وحراسة الجن مع ما كان عليه من بنية قوية وطول فارع.
أرادت الرواية أن تنشئ حواراً مع الأسطورة والتاريخ عبر ملامح أسلوبية؛ منها أسلوب السؤال والجواب، فتأتي الأسئلة من الشخصية الرئيسة أو الشخصيات الأخرى، ليجيب السارد عن كثير منها ويتصدى للأجوبة المشكلة والمحفزة لحكايات أخرى واستدعاءات تاريخية جديدة، وما تكاد تخرج من حكاية إلا وتجد الأخرى في انتظارك. هذا الامتلاء الحكائي لفاعلية القول وتوجيه الأحداث نحو الالتقاء مع الحكاية الرئيسة أسهم في رفد الموضوع الرئيس للرواية، وأراد أن يقول بالتنوع الإنساني والتصالح مع الفضاءات المحيطة!! إلا أن نهاية الرواية خالفت ما كان البناء السردي يسعى من أجل توظيفه في الحياة والتصالح معها، بل كان التصالح مع الموت بطريقة لا تليق!!
وقرية المشراف في خيال الراوي «قرية من خيال» محاطة بالحكايات المتخيلة، وإن كان اسمها واقعاً في الحقيقة، إلا أن الروائي أراد القول بأهمية الوعي الكتابي لسطوة الحكايات وانتقالها عبر التاريخ في هذا المكان «الثابت جغرافياً»، وأراد الكشف عن حجب الفن الحكائي في بناء قصصي يستلهم الحكايات والأبعاد التاريخية في بناء الرواية، فيقول مثلاً الراوي: «وأنا أوردها - قصة قطع لسان الجدة - ها هنا لاستكمال البناء القصصي في الحكاية».
فيتجلى «ما وراء السرد» عبر ما ذكره الروائي في المقولة السابقة، لكي يبرر انتقاله الحكائي إلى حكاية أخرى عابرة للتاريخ؛ تتمثل في مكان قبر العابد الزاهد إبراهيم بن أدهم، قريباً من مكان جبل صالح من جبال نصبة القريبة من قرية المشراف: «حضرته الجدة وهي تحمل النذر»!! وهذه الحكاية لم تعد موجودة على أرض الواقع اليوم؛ كانت جزءاً من الذاكرة الشعبية التي استدعها الراوي من أجل تبرير وعي الشخصية بأهمية القصص الغريبة في البناء السردي: «قالت وهي تحكي لي هذه القصة الغريبة: يا ولدي، هذا الإنسان الطيب الصالح أعاد إلى جدتك لسانها...».
وهذا يجسد بعداً تاريخياً جاء عبر جمالية الحكاية وفق البناء السردي لها داخل الرواية، مع الإيمان بأهمية عدم إغضاب الجدة «الكنز الحكائي» المختزل لألف قصة ومليون حكاية عبر تاريخها الزمن الذي يمتد لأكثر من ثمانين عاماً عن قرية المشراف. فيعلن الكاتب أن هذه الجدة: «كل الحكايات محفوظة في مخيلتها». ثم إن الإرث الحكائي ينتقل من الجدة والجد حتى السارد الابن، فقد استطاع السارد أن يصون هذا الإرث وينقله من الجانب الشفاهي عبر السرد للآخرين، ثم ينتقل به الروائي إلى الجانب الكتابي عبر الرواية.
يعلي الروائي من قيمة الحكايات من حيث أبعادها الزمانية في حوارات متفرقة في الرواية، ففي أحد هذه الحوارات تقول شخصية روائية إن الأعمار لا تقاس بما تعارف عليه الناس!! بل تقاس بالحكايات، وهذا كاشف عن التقاطع بين الأبعاد الحكائية وتجاربها، وما تحمله من جماليات متنوعة، وبين الأبعاد التاريخية المتمثلة فيما تعارف عليه الناس!! هذا التقاطع يشير إلى أهمية التاريخ في صناعة الحكايات داخل البناء السردي، ويثير العلاقة الحميمة بين الأدب والتاريخ. فيكشف بالتالي احتضان التاريخ للرواية عن أبعاد تتمثل في إلغاء خصوصية المكان، وارتقاء بالقيمة المثلى للزمان، ارتقاء يتجلى فيما تقدمه الحكايات من جماليات متنوعة ترفد السرد بأهمية هذا الالتقاء.
حاولت القراءة أن تسهم في الكشف عن أهمية الأبعاد التاريخية والأبعاد الجمالية للحكايات من خلال ملامسة الموضوع ملامسة شفيفة، حيث أشارت القراءة إلى أهمية الحكايات وأبعادها في تقاطعها مع التاريخ، وأنَّ المعرفة بالتاريخ ومساءلته في كثير من مواطن العمل الروائي، ليست مهمة في ذاتها؛ بل أهميتها تتجلى في التوظيف الجمالي الفاعل وراء هذا الالتقاء، وكأنَّ ما يسرده التاريخ توثّقه الحكايات.
- ناقد سعودي
ما يسرده التاريخ... توثقه الحكايات
قراءة الحكائي والتاريخي في رواية «المشراف»
ما يسرده التاريخ... توثقه الحكايات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة