بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي

كيف صار الجنرال المتقاعد مصدر أول تهديد جدّي لنتنياهو؟

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي
TT

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي


على الرغم من أن الكثيرين ممن يريدون التخلص من حكم بنيامين نتنياهو في إسرائيل باتوا محبطين ولا يرون بارقة الأمل في تحقيق أهدافهم، فإن بيني غانتس يعيد الآمال إلى الشارع الإسرائيلي، بعدما بات مصدر أول تهديد حقيقي لإسقاط رئيس الوزراء والحلول مكانه. الاستطلاعات التي كانت تظهر تنامياً ملحوظاً في قوته، تعطيه اليوم - بعد اتحاده مع حزب «يوجد مستقبل» وضم الجنرال غابي أشكنازي - صارت تعطيه أكثرية واضحة. في ضوء ذلك، ما عاد نتنياهو يخفي غضبه وعصبيته، فألغى زيارته إلى موسكو ولقاءه مع الرئيس فلاديمير بوتين، بطريقة متسرعة أثارت غضباً بالغاً عند الروس... وهرع إلى أحزاب اليمين المتطرف يدعوها إلى التكتل في قائمة انتخابية واحدة، بما في ذلك ورثة تنظيم مئير كهانا الإرهابي، وأعلن أنه سيكرّس كل وقته الآن لتوحيد معسكر اليمين المتشدد كي لا يضيع أي صوت عليه.

من هو الجنرال بيني غانتس... الذي يهدّد اليوم رئاسة بنيامين نتنياهو المتطاولة حكومة إسرائيل؟ وهل هو صاحب القوة والكاريزما التي يفتش عنها الناخب الإسرائيلي؟ وكيف استطاع أن يفرض نفسه منافساً قوياً لنتنياهو وتمنحه الاستطلاعات 20 مقعداً قبل أن يتفوّه بكلمة؟
منذ البداية، تنبغي الإشارة إلى أن غانتس، ولو أنه جاء إلى الساحة الانتخابية باسمه وشخصه ودرجته العسكرية الرفيعة، فإن المراقبين والمتابعين يلمسون أن وراءه مؤسّسة ضخمة في إسرائيل و«ماكينات عمل» قوية ومجربة. وعندما خاض غانتس مفاوضات مع أحزاب عدة، أبرم الاتفاق الأول مع موشيه يعلون، وهو مثل غانتس رئيس سابق لأركان الجيش، كما أنه شغل منصب وزير للدفاع. ثم انجلى للجمهور أنه يدير محادثات مع رئيس أركان ثالث للجيش هو غابي أشكنازي، المدير العام الأسبق لوزارة الدفاع. وبالتالي، صار راسخاً أن «حزب غانتس» هو «حزب جنرالات»، ليس شكلاً فحسب، بل بالمضمون أيضاً.
إنه حزب يعبر عن مصالح «المؤسسة العسكرية الأمنية» الإسرائيلية ورؤيتها، وهي التي شهدت خلافات كبيرة مع نتنياهو خلال فترة حكمه في العقد الأخير. واختيار غانتس، بالذات، لقيادة هذا الحزب، كانت لكونه الأكثر تجربة في الصدام والخلاف مع نتنياهو. وتاريخه العسكري ما زال «طازجاً» في ذاكرة الناس. إذ خلع البزة العسكرية فقط قبل أربع سنوات.
وعلى الرغم من تاريخ غانتس الحافل في الجيش، حيث أمضى فيه 38 سنة، فإنه «قائد المصادفة»؛ لأن المصادفات لعبت دوراً بارزاً في حياته. فعندما كان نائباً لوحدة عسكرية للمظليين مشاركاً في هجوم على خلية لـ«حزب الله» قرب جسر القاسمية، بجنوب لبنان، عام 1982. ويومذاك أصيب قائده فتولى غانتس قيادة الوحدة واحتل طريق بيروت الغربية. وعندما عاد حصل على ترقية وصار قائداً لها.
وعام 1999، تولى قيادة وحدة الارتباط المحتلة لبنان، بعدما قتل قائدها العقيد ليرز غيرشتاين. وعام 2006، كان غانتس أحد المرشحين لخلافة دان حالوتس في رئاسة الأركان. لكن وزير الدفاع يومها، عَمير بيرتس، فضّل عليه غابي أشكنازي، الذي كان قد خلع بزته العسكرية. فتقبل القرار بصبر لأن أشكنازي كان صديقه الشخصي.
وعام 2010، كان غانتس أحد المرشحين لخلافة أشكنازي في رئاسة الأركان، لكن وزير الدفاع آنذاك، فضل عليه يوآف غالانت، فقرّر أن يترك الجيش. وبالفعل اتجه نحو الحياة المدنية. وراح يفتش عن حظه في عالم الأعمال. غير أن الحكومة اضطرت إلى إلغاء قرارها والتخلي عن غالانت، بسبب قضية فساد مرتبطة به. وهكذا عاد غانتس إلى الجيش وعيّن رئيساً للأركان. وهذه المصادفة هي التي قادته ليكون مرشحاً اليوم لرئاسة الحكومة.

- النشأة والسجل العسكري
ولد بنيامين «بيني» غانتس في إسرائيل لوالدين أوروبيين أشكنازيين، يوم 7 يوليو (تموز) 1957. أمه مالكا فايس، ولدت في جنوب شرقي المجر، وهي من الناجين من «المحرقة النازية» (الهولوكوست) لليهود، ووالده ناحوم غانتس ابن لأحد الضحايا الذين قتلوا بأيدي النازيين. الوالدان هاجرا إلى فلسطين في زمن الانتداب البريطاني على متن سفينة «حاييم الوزروف»، التي رفض البريطانيون أن ترسو في ميناء حيفا، فتوجهت إلى قبرص، ومن هناك دخلا أرض فلسطين بالتهريب. وكان والده ناشطاً في الحركة الصهيونية، وعيّن في منصب نائب رئيس الوكالة اليهودية.
تعلم بيني في مدرسة صهيونية - دينية، يديرها التيار الذي يسيطر في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية اليوم. وانضم إلى الجيش عام 1977، واختار سلاح المظليين. ولذلك شارك في شبابه في الكثير من الحروب والعمليات، بدءاً من غزوة الليطاني إلى حرب لبنان. ثم شارك في قمع «الانتفاضة الثانية» وحتى الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014. وتولى خلال خدمته العسكرية مناصب عدة، منها: قائد فصيلة، ثم قائد سرية في لواء المظليين. وبعد دورة تعليمية في الولايات المتحدة عُيّن قائد وحدة «شالداغ»، كوماندو المظليين التابعة لسلاح الجو. ثم عام 1987 عُيّن قائد كتيبة 890 في لواء المظليين، وشارك في أربعة اشتباكات مع «حزب الله» في جنوب لبنان، وشاركت وحدة «شالداغ» تحت قيادته بعملية «شلومو» عام 1991 التي أحضروا بها نحو 15 ألف مهاجر من إثيوبيا. ثم عُيّن عام 1992 قائداً للواء المظليين في قوات الاحتياط. وعام 1995 عُيّن قائداً للواء المظليين، وبعد سنتين ذهب للدراسة الأكاديمية في الولايات المتحدة، وفي 1999 عُيّن قائداً لوحدة الارتباط مع جنوب لبنان.

- قائد عسكري في الضفة
في عام 2000، عُيّن غانتس قائداً لقوات الجيش العاملة في الضفة الغربية المحتلة، وقاد عملياً بداية الاجتياح الشرس عام 2002، لكنه نقل من هناك وعيّن في السنة نفسها قائداً للمنطقة الشمالية برتبة لواء. ثم تولّى عام 2005 قيادة مجمع القوات البرّية، وفي تلك الفترة اندلعت حرب لبنان الثانية.
خلال الفترة ما بين 2007 و2009 عمل غانتس ملحقاً عسكرياً لدى الولايات المتحدة، وعاد ليصبح نائباً لرئيس الأركان العامة. وبقي في هذا المنصب حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، عندما ترك الجيش لرفض الحكومة تعيينه رئيساً للأركان، لكنه أعيد إلى الجيش وعيّن رئيساً للأركان بعد ثلاثة شهور. وإبّان خدمته رئيس أركان نفّذ عمليات حربية كثيرة، أبرزها القصف في سوريا و«حرب 2014» على قطاع غزة، التي قتل فيها 2202 فلسطيني، بينهم أكثر من 500 طفل فلسطيني، منهم 180 رضيعاً، ونحو 250 امرأة، وأكثر من 100 مُسنٍّ، وتشرد بسببها مئات الآلاف الذين اضطروا إلى ترك منازلهم.
في مقابلة صحافية معه لمجلة الجيش «بمحنيه» يوم 28 يناير (كانون الثاني) 2005، اعترف غانتس بأنه لم يكن يرغب في الالتحاق بالجيش النظامي، وأراد الانتقال للحياة المدنية بعد إنهاء خدمته العسكرية الإجبارية. لكن والده أقنعه بتغيير رأيه. ويُذكر أنه خلال خدمته العسكرية، وإلى جانب الدورات التعليمية التابعة للجيش، مثل كلية القيادة والأركان وكلية الأمن القومي، درس غانتس التاريخ في جامعة تل أبيب وحصل على اللقب الأول، ثم حصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة حيفا ودرجة ماجستير أخرى من جامعة الدفاع الوطني الأميركية (NDU) في الإدارة والموارد الوطنية.

- مواقفه ومآخذه
بالنسبة للمواقف، كان غانتس قد أشاد بالانفصال عن قطاع غزة، لكنه قال إنه يحبذ أن تتم انسحابات كهذه في المستقبل بالاتفاق مع الفلسطينيين... لا بتجاهلهم كما فعل شارون. وأطلق تصريحات تبين مدى ألمه من التدهور الخلقي في السياسة، ومن الهوة الآخذة في الاتساع بين طبقات المجتمع وشرائحه المختلفة.
ثم هاجم نتنياهو معتبراً أنه يمثل «قيادة تتمحور حول نفسها». ثم قال: «ستضم حكومتي رجال دولة وليس أباطرة»، و«لا تسامح مع الفساد». وركّز على حرصه على أخلاقيات أسلوب الحكم التي ينوي اعتمادها، مقارناً القيادة الحالية بـ«بيت إمبراطوري فرنسي» في عهد لويس الرابع عشر. قائلاً: «لا إمبراطور بين القياديين الإسرائيليين. الدولة ليست أنا. الدولة هي أنتم، هي نحن جميعاً». وتابع في تلميح مباشر إلى خصمه «حكومة أخلاقية هي المثال لنا، ولأطفالنا. قلت الحقيقة طيلة حياتي وحافظت على نظافة يدي».
ورداً على اتهام نتنياهو له بأنه يسار تقليدي، أكد غانتس أنه ليس يمينياً ولا يسارياً، بل وسطياً. وفي خطاب الترشح، وجه غانتس تحذيرات قوية إلى كل من إيران و«حزب الله» اللبناني وحركة حماس، قائلاً إنه يرى في «القدس عاصمة موحّدة لإسرائيل»، كما أكد أنه لا انسحاب من هضبة الجولان السورية.
لكن، في المقابل، أعلن غانتس أيضاً أن حكومته – في حال فوزه - «ستبذل كل ما في وسعها من أجل السلام» في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه حذر وهدد «لن نسمح لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون من الجهة الأخرى لجدار الفصل من تهديد أمننا وهويتنا كدولة يهودية».
وفي أول فيديوهات ترويجية لحزبه، تباهى غانتس بـ«إنجازاته» العسكرية في غزة، كما تباهى في تسجيلات مصوّرة بعدد المسلحين الفلسطينيين الذين قتلوا والأهداف التي نجح في تدميرها تحت قيادته في حرب عام 2014 التي خاضتها إسرائيل ضد حركة حماس وقطاع غزة، قائلاً إنه «تم قتل 1364 إرهابياً» في القطاع الذي «أعيد إلى العصر الحجري». وتابع: «صوّتوا لي: أنا أكثر شراسة من نتانياهو، لكنني نظيف».
وفي الوقت الحاضر، مع زخم النزول إلى المعترك السياسي والزخم الأكبر المتمثل في تشكيل «تحالف الجنرالات» مع حزب الوسط بقيادة يائير لبيد - الذي نجح في استقطاب أصوات غير قليلة من اليمين المعتدل - يبرز بيني غانتس مرشحاً قوياً يمتلك قدرات جدية لاستبدال نتنياهو. غير أن الأمر يتوقف على استمرار المعركة و«الذخيرة» والكمائن التي يعدها كل طرف لضرب الآخر. فإذا ما قُدّمت لائحة اتهام ضد نتنياهو بقضايا الفساد، ستتخذ المعركة منحى آخر. وإذا ما وقع غانتس في زلة لسان أو أخطأ في تصريح، وأوجد له خصومه السياسيون في تاريخه «لطخة» ما، ستتخذ المعركة منحى معاكساً.

- «الوجه الأميركي» للانتخابات
هنا ينبغي التذكر أنه إلى جانب كل من نتنياهو وغانتس يوجد خبراء استراتيجيون أميركيون، حضروا إلى إسرائيل للعمل بأجور باهظة، كلٌّ لإنجاح مرشحه. وهؤلاء لا يعرفون شيئاً اسمه الرحمة.
إنهم يستخدمون كل أسلحة القتال الفتاكة. ويحددون موضوعات النقاش، ويُبرزون قضايا، ويطمسون قضايا أخرى، ويقرِّرون الأجندة في الساحة السياسية. ثم إنهم يكتبون الخطابات، ويجرون التدريبات للمرشحين حول كيفية الظهور في الإعلام واختيار الجمل الحادة التي تتغلغل فورا إلى ذهنية الناخبين. وأخيراً، لا آخراً، يجرون استطلاعات الرأي التي ترفع معنويات المرشح وجمهوره أو تخفضها بجانب تقرير «الأجندة الانتخابية» للمجتمع الإسرائيلي برمته.
هؤلاء الخبراء يعتبرون الناخب الحقيقي.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.