يعود أوّل عهدي بالسفر على متن الطائرة إلى سبعينات القرن الماضي عندما كان لا يزال في الطيران قليل من نكهة المغامرة والكثير من الفرص لاستكشاف المجهول والإطلال على الثقافات الأخرى. وكان السفر ما زال يسبقه وداع تفصله عن اللقاء فترات مديدة وحنين وأشواق، وكانت الرسائل الخطيّة هي الوسيلة الرئيسية للتواصل مع الأحبّاء والخِلّان. كرّت الأيام، فتعدّدت السفرات وتكاثرت إلى إن كانت رحلة إلى بلاد الشمس الطالعة أواخر الثمانينات على متن طائرة يابانية اختارت المسار الذي يصل أوروبا بطوكيو فوق القطب الشمالي عن طريق آنكوريج في ولاية ألاسكا. الأكبر مساحة بين الولايات الأميركية، والتي اشتراها الأميركيون عام 1867 بسبعة ملايين دولار من الإمبراطورية الروسية. يومها عرض طاقم الطائرة على الركّاب إمكانية الاتصال هاتفيّاً بأي رقم في العالم مقابل خمسة دولارات عن كل دقيقة، فتحمسّت واتصلت بأهلي في جبال لبنان أزفّهم فخوراً ومندهشاً، أني أتحدث إليهم من الطائرة على علو عشرة آلاف قدم فوق القطب المتجمّد. أدركت يومها أن التطور التكنولوجي سيدفع بعالم الطيران والاتصالات نحو آفاق يصعب علينا أن نتخيّل مدى تأثيرها على السفر والعلاقات البشرية وحركة التجارة والأعمال.
لكن ما كان باعثاً على الدهشة والانبهار فوق القطب المتجمد منذ سنوات، بات اليوم وكأنه من الماضي السحيق بعد أن صار التواصل متاحاً بالصوت والصورة من الطائرة إلى المنزل أو الشارع أو الغابة والشاطئ، وأصبح بإمكاننا أن نحمل «مكاتبنا» على متن الطائرة ونتابع من مقاعدنا أخبار العالم مباشرة على القنوات التلفزيونية بكل اللغات.
انقضت عشر سنوات على تلك الرحلة، وأتيح لي أن أسافر للمرة الأولى، والوحيدة، على متن «الكونكورد»، الطائرة التجارية الأولى التي تضاعف سرعتها سرعة الصوت، بين باريس وواشنطن. كان التهيّب سيّد الموقف منذ لحظة الوصول إلى المطار حتى النزول من الطائرة بعد ثلاث ساعات في العاصمة الأميركية. معاملة الركّاب أوحت لنا بأهميّة مصطنعة كما لو كنّا نسافر إلى كوكب آخر، والمقاعد الضيّقة والضجيج المفرط عوّضتها خدمة ترقى إلى مصاف الفنادق والمطاعم الفخمة. لكن الآمال التي عُلِّقت في تلك السنوات على «الكونكورد» لتكون فاتحة عصر جديد في عالم الطيران التجاري السريع، تبخّرت في عام 2003 عندما تقررت إحالتها على التقاعد إثر الحادث الوحيد الذي تعرّضت له طوال 27 عاماً في مطار شارل ديغول الفرنسي بسبب قطعة معدنيّة من طائرة أخرى كانت على المدرج، وأدّى إلى مقتل 114 من ركّابها المتوجّهين العاصمة الأميركية.
انتهت مغامرة «الكونكورد»، مؤقتاً، فيما كان قطاع السياحة والسفر بالطائرة يشهد نموّاً مطرداً غير مسبوق أعاد فتح شهيّة الشركات الكبرى على منافسة محمومة لصناعة طائرات أكبر وأسرع تلبّي الطلب المتزايد عليها في كل أنحاء العالم. وقد أعلنت شركة «فيرجين» البريطانية مؤخراً عن اتفاق مع شركة Boom الأميركية لصناعة طائرة تجارية ضخمة تضاعف سرعتها ثلاث مرّات سرعة الصوت، قادرة على قطع المسافة بين لندن ونيويورك بأقل من ثلاث ساعات في بداية العام 20023. ويقول ريتشارد برانسون، مؤسس شركة «فيرجين» ورئيس مجلس إدارتها، إن الذين صنعوا «الكونكورد» لم تكن لديهم التكنولوجيا التي في متناولنا اليوم «ولم يعد مقبولاً أن الطائرات الحديثة ما تزال تطير بنفس السرعة التي كانت تطير بها الطائرات في ستينات القرن الماضي». ومن المتوقّع أن تكون الطائرة الجديدة التي ستحمل اسم Baby Boom أقلّ ضجيجاً 30 مرّة عن «الكونكورد»، وأن يكون سعر بطاقة السفر بين أوروبا والولايات المتحدة 5 آلاف دولار.
النرويج من ناحيتها وضعت برنامجاً طموحاً لتطوير الطائرات الكهربائية ووعدت الحكومة أن تكون كل الرحلات الداخلية بالطائرة الكهربائية بحلول العام 2040، ما سيؤدي إلى خفض أسعار السفر بنسبة عالية. وتنشط الشركات الكبرى لصناعة الطائرات والمحركات مثل بوينغ وإيرباص وجنرال إلكتريك ورولس رويس لتطوير طاقة البطّاريّات واستخدامها لدفع محرّكات الطائرات وخفض مستوى ضجيجها حتى جعلها صامتة كما تبيّن من بعض التجارب الأخيرة التي بدأت، مثل قطاع السيارات، باستخدام نظام Hybrid الهجين بين الوقود الأحفوري والكهرباء.
وقد كشفت شركة إيرباص مؤخراً أنها تعمل على تصميم الجيل الثاني من الطائرات السريعة تحت اسم «كونكورد 2» بسرعة 5500 كيلومتر في الساعة، قادرة على ربط مدينتي طوكيو ولوس أنجليس بأقلّ من ثلاث ساعات، لكنها لن تتسّع لأكثر من 20 راكباً في المرحلة الأولى. أما وكالة الفضاء الأميركية NASA فقد أعلنت أنها تخطط لإنتاج طائرة تصل سرعتها إلى 24 ألف كيلومتر في الساعة، من غير أن تعطي أي تفاصيل أخرى عن مواصفاتها.
السرعة ليست هي التحدّي الوحيد الذي تتسابق الشركات الكبرى على مواجهته وتستثمر فيه المليارات لتوسيع حصّتها من كعكة الطيران التجاري، بعد أن أصبحت طائرات النقل تقلع من مطارات العالم بمعدّل 70 طائرة في الدقيقة، وتحلّق بمعدّل 10 آلاف طائرة في أي لحظة تحمل على متنها 1.5 مليون راكب. الازدحام في المطارات هو التحدّي الآخر الذي يتقدّم على كل التحديّات الأخرى، والذي جعل من السفر كابوساً يهدد مدناً سياحية مثل البندقية وبرلين وأمستردام بالاختناق.
شركة «جنرال إلكتريك» الأميركية تعمل حاليّاً على تطوير ما تسمّيه «الطرقات الجوية السريعة» التي ينتظر أن تبدأ بالخدمة مطلع العام المقبل للمساعدة على تخفيف الازدحام في الأجواء وخفض وقت الطيران بتحديد مسارات جديدة. وقد بدأت تتعاون مع شركة Amadeus، التي كانت أول من أطلق بطاقة السفر الإلكترونية عام 1999، على تصميم أجهزة متطورة للاستدلال البيولوجي تسهّل حركة المسافرين وتنقلاتهم ومعاملاتهم في المطارات وعلى متن الطائرة.
ويتوقّع الخبراء أن تؤدي هذه الأجهزة، التي ستنزل إلى الأسواق في السنوات المقبلة، إلى تغيير حياة المسافر بالطائرة جذريّاً. فثمّة أجهزة تمكّن وكالات السفر من إصدار بطاقة واحدة تشمل الرحلة بالطائرة والمقعد وغرفة الفندق والوجبات التي يختارها المسافر في مطاعمه المفضلة والأماكن التي يرغب في زيارتها. وسيكون بمقدور المسافر أن يشاهد مقعده على متن الطائرة وغرفة الفندق التي سينزل فيها والأطباق التي تقدمها المطاعم التي يختارها.
أما الهواتف الذكيّة التي يجري تطويرها حاليّا لاستخدامها في السفر، فهي التي ستدلّنا على الطريق الأقصر إلى باب الصعود إلى الطائرة، والوقت المتبقّي حتى قيام الرحلة أو الوصول إلى باب المغادرة، أو العروض التي تقدّمها متاجر السوق الحرة عن طريق إعلانات بمجسّمات ثلاثية الإبعاد ترافقنا خلال تنقّلنا في أروقة المطارات.
إحدى الشركات الهولندية أنجزت مؤخراً نظاماً إلكترونيّا متطوراً بالاستدلال البيولوجي أطلقت عليه Happy Flow واجتاز مرحلته التجريبية بنجاح في مطار أمستردام. يقف المسافر عنده لدى وصوله إلى قاعة المغادرة في المطار ويجري مسحاً صوريّاً لجواز سفره وبطاقة الدخول إلى الطائرة مع صورة للوجه في عمليّة لا تستغرق سوى بضع ثوان، ويتابع سيره من دون الخضوع لأي إجراءات أخرى أو إبراز أي بطاقة أو وثيقة حتى وصوله إلى الطائرة. ويتضمّن هذا النظام برنامجاً يحمّل على الهاتف الذكي للمسافر، ويسمح له بإصدار قسيمة أمتعة الشحن وتعقبّها لمعرفة مكان وجودها في كل لحظة.
شركة «سوني» اليابانية طوّرت رجلاً آليّاً «روبوت» لمرافقة المسافرين أصحاب الاحتياجات الخاصة إلى باب المغادرة، أو لمساعدة الذين تتأخر أو تُلغى رحلاتهم.
وثمّة شركات أخرى اختارت أن تراهن على الطائرات الفسيحة والمريحة بدل المراهنة على الطائرات السريعة. وبعد نزول الطائرات الضخمة من طراز Airbus 380 وبوينغ إلى الأسواق يجري تطوير طائرات أكبر تتسّع لمرافق ترفيهية مثل المطاعم والمقاهي وقاعات للسينما والألعاب والرياضة.
السفر... بين تحدي السرعة والحاجة لتخفيف الازدحام في الأجواء
الأبحاث جارية على تصميم طائرات ضخمة وخدمات متقدمة
السفر... بين تحدي السرعة والحاجة لتخفيف الازدحام في الأجواء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة