«داعش» والطريق إلى المجهول

مستقبل التنظيم بعد الاندحار في سوريا

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
TT

«داعش» والطريق إلى المجهول

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)

قبل نحو أسبوعين وأمام مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش» في واشنطن، توقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يعلن رسمياً استعادة جميع الأراضي التي كان «داعش» يسيطر عليها في العراق وسوريا. وتستدعي تصريحات الرئيس ترمب مراجعة عميقة لأهميتها، لا سيما أن مسألة المواجهة العملياتية المسلحة ضد «داعش» ليست فقط معارك عسكرية، ولكنها مسألة كما يقال قتلت بحثاً، وإنما الأهم في المشهد هو أن تلك الأمنيات القلبية الترمبية تنافي وتجافي كل القراءات الاستخبارية الأميركية، عطفاً على تقرير البنتاغون الذي أعلن عنه الجمعة الماضي، وجميعها يذهب إلى التحذير من عودة أشد شراسة للدواعش.

السؤال الآن: «هل حديث ترمب غطاء كلامي يبرر له في عيون ناخبيه قضية انسحابه من سوريا في الأيام القليلة المقبلة، لا سيما أن الأخبار المتواترة من واشنطن تشير إلى أن جلاء القوات الأميركية من الأراضي السورية بنهاية أبريل (نيسان) المقبل؟».
الشاهد أن الرئيس ترمب، وعلى صعيد كثير من القضايا الاستراتيجية الداخلية يمضي في طريق مغايرة للقوى الضاربة فكرياً في إدارته، وفي المقدمة منها قوى المجتمع الاستخباري، لا سيما بعد حديث دان كوتس مدير الاستخبارات الوطنية في البلاد نهار الثلاثاء 29 يناير (كانون الثاني) 2019، حين أشار إلى أن «داعش» يمتلك آلافاً من المقاتلين في العراق وسوريا، كما أن له 8 فروع، وأكثر من 12 شبكة، وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم، رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي.
ولم يكن تصريح دان كوتس هو الوحيد من نوعه في هذا السياق، فقد سبقه تصريح آخر للجنرال فرانك ماكنزي، جنرال النجوم الأربعة الذي ستناط به مسؤولية قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وقد كان ذلك خلال جلسات الاجتماع في مجلس الشيوخ، التي تسبق تعيين كبار موظفي دولاب الدولة الأميركية، ويومها قال ما نصه إن «تنظيم داعش، ربما لا يزال أكثر قدرة من تنظيم (القاعدة في العراق) وقت عنفوانه، ومع ذلك لا يزال الرئيس ترمب يرى أن (داعش) قد سحق ومحق إلى غير رجعة، وأن خلافته إلى زوال، الأمر الذي أثبتت الأيام زيفه، وها هو (داعش) يخرج من شرنقة انتصارات بوش».
عطفاً على التصريحين المتقدمين بدا واضحاً في الداخل الأميركي أن هناك من العقلاء من يرى في التصرفات الترمبية مسألة كارثية تقود إلى ضرر عام للمسرح العالمي، وليس للولايات المتحدة الأميركية فقط، فالإرهاب الذي يرعاه «داعش» إرهاب معولم. من تلك الأصوات السيناتور الأميركي جاك ريد عضو لجنة الخدمات المسلحة، الذي كان له رأي أكد فيه خطورة موقف ترمب حين قال إن «الأسلوب المتعجل والمفكك الذي صدر فيه هذا الإعلان، يظهر حالة من الفوضى، ويقدم دليلاً جديداً على عدم قدرة ترمب على قيادة المسرح العالمي، ذلك أن تغريدته بأنه هزم داعش، لن تجعلنا أكثر أماناً».
أحد الأسئلة المثيرة للقلق تجاه ما يجري في إدارة ترمب هو ذاك المتصل بوزير خارجيته مايك بومبيو، والقادم من عالم مجمع الاستخبارات الأميركية، فكيف له أن ينحاز إلى وجهة نظر ترمب، ويقر بأن «99 في المائة من الأراضي الواقعة تحت سيطرة (داعش) قد تحررت، وهذا هو المكافئ الموضوعي لهزيمة (داعش) المطلقة على الأرض».
يطرح موقف الرئيس الأميركي ترمب من مستقبل «داعش» علامة استفهام واسعة بدورها حول العلاقات القديمة والجديدة بين الدولة الأميركية العميقة، وجماعات الإسلام السياسي، وما بينهما من رباطات ووثاق قوي.
هل يحضر ترمب مفاجأة لإيران في العراق؟ لا نقول إن السؤال هو ضرب من ضروب المؤامرة الكونية، لكنه في كل الأحوال يفتح أعيننا على الخطط الأميركية في الداخل العراقي من أجل مواجهة ومجابهة إيران، وهي الهدف الاستراتيجي الأكبر والأهم بالنسبة للرئيس الأميركي.
شيء ما مثير للتأمل يحدث على الحدود العراقية - السورية، وذلك منذ أعلن ترمب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، ويتمثل في المحاولات المكثفة اليومية من قبل عناصر «داعش» في سوريا، بالفرار إلى الداخل العراقي، ما يعني أن هناك فكراً جديداً ومثيراً يتصل بإعادة تشكيل خلايا «داعش» في العراق، بعد الانسحاب الأميركي من سوريا، وفي هذا سر غير معروف، ذلك لأنه وفقاً لما هو معلن، فإن القوات الأميركية تحارب «داعش»، وعليه يجب أن تكون خطة الدواعش هي العودة للأراضي السورية، بعد أن تفرغ من الوجود الأميركي عليها، لكن أن تترك سوريا حيث لا أميركيين، وتتوجه إلى العراق، التي يوجد فيها الجيب الأميركي بكثافة، ففي الأمر لغز يحتاج إلى إمعان النظر في الاستراتيجيات الأميركية الماورائية.
الهواجس التي تنتاب العاملين في مجال التحليلات الاستراتيجية والأمنية بالنسبة للولايات المتحدة، وتشابكات وتقاطعات علاقتها مع جماعات الإسلام السياسي بكل أطيافها؛ العنيف منها، والذي يرفع رايات السلمية مزيفة، إلى حين التمكين، ربما شاغبت بعض العقول في العراق، الجار الجغرافي لسوريا.
في هذا الإطار، اتهم قائد قوات «الحشد الشعبي» في لواء «الطفوف» أحمد نصر الله، القوات الأميركية، بأنها تساعد التنظيم الإرهابي، وتستهدف في أحيان كثيرة منظمة «حزب الله» الإيرانية، التي تعتبرها واشنطن منظمة إرهابية.
ويضيف اللواء أحمد نصر الله أن «الهجمات تأتي من اتجاه الأميركيين أكثر من أي وقت مضى... وأن هدفهم من وراء ذلك هو زعزعة استقرار المنطقة، حتى يمكنهم تبرير وجودهم المستمر هنا».
قبل نحو أسبوعين كان الجميع يترقب تقرير مكتب المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الخاص بإشكالية انسحاب القوات الأميركية من سوريا، والمعروف أن ذلك الانسحاب لم يرُق للجنرالات، وأن التأخير الذي حدث سببه الرئيسي إقناع جنرالات العراق لترمب، بوقف التسرع، لما سيسببه من خسائر للوجود الأميركي المسلح في الإقليم برمته، عطفاً على الخسائر الأدبية والسياسية التي ستنجم من جراء فقدان الأصدقاء والحلفاء ثقتهم في واشنطن، وهي ثقة ليست عالية في جميع الأحوال. وفي أثناء الانتظار لصدور التقرير، كان مكتب المفتش العام للبنتاغون كذلك يصدر تحذيراً من تبعات الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، ويشير إلى أن سلطات كابل تتخوف من تمكن حركة طالبان من إعادة السيطرة على البلاد كاملة فيما لو جرى التوصل إلى تسوية معها... ثم ماذا بعد صدور التقرير؟ نهار الجمعة 8 فبراير (شباط)، خرج التقرير المرتقب إلى النور، كاشفاً قيام «داعش» بإعادة تشكيلاته في العراق بوتيرة أسرع مما في سوريا، ومحذراً من أن نحو 50 مقاتلاً من الأجانب ينضمون شهرياً للتنظيم الإرهابي.
كان موقع «إكسبريس لايف» البلجيكي، من أكثر المواقع الإعلامية رغبة وقدرة في تقريره الأخير، حذر من أن أي انسحاب للقوات الأميركية من المنطقة، يمكن أن يسمح للتنظيم المتشدد باستعادة الأرض بسرعة، وأن غياب الضغط العسكري المستمر، يمكن أن يتيح لـ«داعش»، استعادة أراضٍ واسعة في غضون 6 أو 12 شهراً... هل يعمد «داعش» بالفعل في المنطقة إلى إحياء نفسه بنفسه؟ وإذا كان يفعل ذلك، فمن أين له التمويل اللازم بعد أن فقد معظم مصادره المالية، خصوصاً في سوريا؟ بحسب تقرير وزارة الدفاع الأميركية، فإن التنظيم الإرهابي يقوم في الوقت الحالي بتجديد وظائف وقدرات حاسمة بشكل أسرع في العراق منه في سوريا، وأنه لا تزال لديه إمكانات تدر عليه دخلاً كبيراً... كيف ذلك؟
قبل الجواب الخاص بالإشكالية المالية لـ«داعش»، قد ينبغي أن نشير إلى تقرير آخر سبق تقرير البنتاغون، والصادر عن وكالة «بلومبرغ»، الذي أشار إلى أن «داعش» يستعد للظهور مجدداً بعد أن خسر الأراضي التي كان يسيطر عليها، وقد تحول التنظيم من السيطرة على الأراضي إلى تكتيكات المتمردين قبل التفجيرات وهجمات القناصة والاغتيالات، وهي التكتيكات نفسها التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية في السابق لتقويض الثقة في الحكومة، وإثارة الانقسامات في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. وعودة للجواب عن السؤال المتقدم الخاص بالأحوال المادية لـ«داعش»، فعلى الرغم من أن خزانة التنظيم قد خسرت مئات الملايين من الدولارات بعدما انعدمت سيطرته على الأراضي وآبار النفط التي كانت بحوزته، وحقول دير الزور النفطية، تحول «داعش» إلى شبكة إرهابية تحت الأرض، وتمكن من ابتكار مسارب جديدة للحصول على أموال، وقد تسلل أعضاء التنظيم الإرهابي إلى أعمال تجارية لها مشروعية ظاهرية مثل البناء، وتحويل الأموال، ومصايد الأسماك، وفي هذه وغيرها تم استثمار مزيد من الأموال القذرة، عطفاً على عمليات تهريب الأموال عبر الحدود والقائمة حتى الساعة.
والشاهد أن الرئيس الأميركي لا يمكنه أن يحاجج بالقول إن «داعش» قد قضي أمره مرة وإلى الأبد، فالتنظيم الذي أضحى منظومة فكرية، قادر على شن هجمات إرهابية موجعة حول العالم، عبر أنصار ومريدين غير ظاهرين، أولئك المعروفين بـ«الذئاب المنفردة»، الأمر الذي رصدته مؤسسة «راند» الأميركية، العقل المفكر لوزارة الدفاع الأميركية، التي ترى أن «داعش» لديه من الأموال ما يكفي لدعم الهجمات المتفرقة في الخارج لسنوات مقبلة، لا سيما أنه بعد أن كان للتنظيم أذرع إعلامية واضحة ومؤثرة، تحول إلى استخدام التطبيقات ومواقع تتبع جماعات متطرفة أخرى لنشر الرسائل المشفرة لأعضاء التنظيم.
يعن للمرء مساءلة الرئيس ترمب: «كيف له أن يغمط النظر إلى إرهاب داعش حول العالم، وأحدث فعاله المنكرة ما جرى في الفلبين أخيراً؟».
يوماً تلو الآخر، يبعث التنظيم برسائل للعالم يفيد فيها بأنه قادر على إيجاد حواضن بشرية إرهابية جديدة توقع أكبر ضرر في الآمنين، والدليل الهجومان الأخيران اللذان شنتهما إحدى المجموعات الموالية له، واستهدفا كاتدرائية بمدينة جولو بمقاطعة سولو التي تقع على بعد ألف كيلو جنوب العاصمة الفلبينية مانيلا في 27 يناير 2019، ما أسفر عن قتل 27 شخصاً بينهم 20 مدنياً و7 جنود، وإصابة ما يقرب من 80 آخرين بجراح مختلفة.
«داعش» يتحول إلى رمز وفكرة، يسعى أتباعه في أفغانستان إلى امتلاك الأرض، ولهذا فإنه بحسب الأمم المتحدة، فإن 52 في المائة من مجمل العمليات الإرهابية هناك مسؤول عنها التنظيم الإرهابي.
وفي مصر وفي ليبيا، تنشط الجماعات الماضية في الطريق نفسها، وأوروبا اكتوت ولا تزال بنارها، وأفريقيا مرشحة لأن تصبح ملعباً جديداً لصراعات «داعش»، أما روسيا فستصبح الميدان الأحداث في العام الجديد، فيما الولايات المتحدة لا تقطع أبداً بأن الإرهاب الداعشي على أراضيها قد انتهى إلى غير رجعة.
ما استراتيجية ترمب تجاه «داعش»؟
قد توجد إجابة حال كانت هناك استراتيجية بالفعل، لكن من الواضح أن الشقاق الأميركي الداخلي، خصوصاً بعد تقرير البنتاغون، يؤكد لنا أن قرارات الرئيس ترمب هدفها السياسي إعادة انتخابه ثانية في 2020 حتى إن سمح ذلك لـ«الدواعش» مرة أخرى، إن لم يكن في جعبته كثير من الأوراق السرية الخفية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟