«داعش» والطريق إلى المجهول

مستقبل التنظيم بعد الاندحار في سوريا

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
TT

«داعش» والطريق إلى المجهول

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)

قبل نحو أسبوعين وأمام مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش» في واشنطن، توقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يعلن رسمياً استعادة جميع الأراضي التي كان «داعش» يسيطر عليها في العراق وسوريا. وتستدعي تصريحات الرئيس ترمب مراجعة عميقة لأهميتها، لا سيما أن مسألة المواجهة العملياتية المسلحة ضد «داعش» ليست فقط معارك عسكرية، ولكنها مسألة كما يقال قتلت بحثاً، وإنما الأهم في المشهد هو أن تلك الأمنيات القلبية الترمبية تنافي وتجافي كل القراءات الاستخبارية الأميركية، عطفاً على تقرير البنتاغون الذي أعلن عنه الجمعة الماضي، وجميعها يذهب إلى التحذير من عودة أشد شراسة للدواعش.

السؤال الآن: «هل حديث ترمب غطاء كلامي يبرر له في عيون ناخبيه قضية انسحابه من سوريا في الأيام القليلة المقبلة، لا سيما أن الأخبار المتواترة من واشنطن تشير إلى أن جلاء القوات الأميركية من الأراضي السورية بنهاية أبريل (نيسان) المقبل؟».
الشاهد أن الرئيس ترمب، وعلى صعيد كثير من القضايا الاستراتيجية الداخلية يمضي في طريق مغايرة للقوى الضاربة فكرياً في إدارته، وفي المقدمة منها قوى المجتمع الاستخباري، لا سيما بعد حديث دان كوتس مدير الاستخبارات الوطنية في البلاد نهار الثلاثاء 29 يناير (كانون الثاني) 2019، حين أشار إلى أن «داعش» يمتلك آلافاً من المقاتلين في العراق وسوريا، كما أن له 8 فروع، وأكثر من 12 شبكة، وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم، رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي.
ولم يكن تصريح دان كوتس هو الوحيد من نوعه في هذا السياق، فقد سبقه تصريح آخر للجنرال فرانك ماكنزي، جنرال النجوم الأربعة الذي ستناط به مسؤولية قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وقد كان ذلك خلال جلسات الاجتماع في مجلس الشيوخ، التي تسبق تعيين كبار موظفي دولاب الدولة الأميركية، ويومها قال ما نصه إن «تنظيم داعش، ربما لا يزال أكثر قدرة من تنظيم (القاعدة في العراق) وقت عنفوانه، ومع ذلك لا يزال الرئيس ترمب يرى أن (داعش) قد سحق ومحق إلى غير رجعة، وأن خلافته إلى زوال، الأمر الذي أثبتت الأيام زيفه، وها هو (داعش) يخرج من شرنقة انتصارات بوش».
عطفاً على التصريحين المتقدمين بدا واضحاً في الداخل الأميركي أن هناك من العقلاء من يرى في التصرفات الترمبية مسألة كارثية تقود إلى ضرر عام للمسرح العالمي، وليس للولايات المتحدة الأميركية فقط، فالإرهاب الذي يرعاه «داعش» إرهاب معولم. من تلك الأصوات السيناتور الأميركي جاك ريد عضو لجنة الخدمات المسلحة، الذي كان له رأي أكد فيه خطورة موقف ترمب حين قال إن «الأسلوب المتعجل والمفكك الذي صدر فيه هذا الإعلان، يظهر حالة من الفوضى، ويقدم دليلاً جديداً على عدم قدرة ترمب على قيادة المسرح العالمي، ذلك أن تغريدته بأنه هزم داعش، لن تجعلنا أكثر أماناً».
أحد الأسئلة المثيرة للقلق تجاه ما يجري في إدارة ترمب هو ذاك المتصل بوزير خارجيته مايك بومبيو، والقادم من عالم مجمع الاستخبارات الأميركية، فكيف له أن ينحاز إلى وجهة نظر ترمب، ويقر بأن «99 في المائة من الأراضي الواقعة تحت سيطرة (داعش) قد تحررت، وهذا هو المكافئ الموضوعي لهزيمة (داعش) المطلقة على الأرض».
يطرح موقف الرئيس الأميركي ترمب من مستقبل «داعش» علامة استفهام واسعة بدورها حول العلاقات القديمة والجديدة بين الدولة الأميركية العميقة، وجماعات الإسلام السياسي، وما بينهما من رباطات ووثاق قوي.
هل يحضر ترمب مفاجأة لإيران في العراق؟ لا نقول إن السؤال هو ضرب من ضروب المؤامرة الكونية، لكنه في كل الأحوال يفتح أعيننا على الخطط الأميركية في الداخل العراقي من أجل مواجهة ومجابهة إيران، وهي الهدف الاستراتيجي الأكبر والأهم بالنسبة للرئيس الأميركي.
شيء ما مثير للتأمل يحدث على الحدود العراقية - السورية، وذلك منذ أعلن ترمب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، ويتمثل في المحاولات المكثفة اليومية من قبل عناصر «داعش» في سوريا، بالفرار إلى الداخل العراقي، ما يعني أن هناك فكراً جديداً ومثيراً يتصل بإعادة تشكيل خلايا «داعش» في العراق، بعد الانسحاب الأميركي من سوريا، وفي هذا سر غير معروف، ذلك لأنه وفقاً لما هو معلن، فإن القوات الأميركية تحارب «داعش»، وعليه يجب أن تكون خطة الدواعش هي العودة للأراضي السورية، بعد أن تفرغ من الوجود الأميركي عليها، لكن أن تترك سوريا حيث لا أميركيين، وتتوجه إلى العراق، التي يوجد فيها الجيب الأميركي بكثافة، ففي الأمر لغز يحتاج إلى إمعان النظر في الاستراتيجيات الأميركية الماورائية.
الهواجس التي تنتاب العاملين في مجال التحليلات الاستراتيجية والأمنية بالنسبة للولايات المتحدة، وتشابكات وتقاطعات علاقتها مع جماعات الإسلام السياسي بكل أطيافها؛ العنيف منها، والذي يرفع رايات السلمية مزيفة، إلى حين التمكين، ربما شاغبت بعض العقول في العراق، الجار الجغرافي لسوريا.
في هذا الإطار، اتهم قائد قوات «الحشد الشعبي» في لواء «الطفوف» أحمد نصر الله، القوات الأميركية، بأنها تساعد التنظيم الإرهابي، وتستهدف في أحيان كثيرة منظمة «حزب الله» الإيرانية، التي تعتبرها واشنطن منظمة إرهابية.
ويضيف اللواء أحمد نصر الله أن «الهجمات تأتي من اتجاه الأميركيين أكثر من أي وقت مضى... وأن هدفهم من وراء ذلك هو زعزعة استقرار المنطقة، حتى يمكنهم تبرير وجودهم المستمر هنا».
قبل نحو أسبوعين كان الجميع يترقب تقرير مكتب المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الخاص بإشكالية انسحاب القوات الأميركية من سوريا، والمعروف أن ذلك الانسحاب لم يرُق للجنرالات، وأن التأخير الذي حدث سببه الرئيسي إقناع جنرالات العراق لترمب، بوقف التسرع، لما سيسببه من خسائر للوجود الأميركي المسلح في الإقليم برمته، عطفاً على الخسائر الأدبية والسياسية التي ستنجم من جراء فقدان الأصدقاء والحلفاء ثقتهم في واشنطن، وهي ثقة ليست عالية في جميع الأحوال. وفي أثناء الانتظار لصدور التقرير، كان مكتب المفتش العام للبنتاغون كذلك يصدر تحذيراً من تبعات الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، ويشير إلى أن سلطات كابل تتخوف من تمكن حركة طالبان من إعادة السيطرة على البلاد كاملة فيما لو جرى التوصل إلى تسوية معها... ثم ماذا بعد صدور التقرير؟ نهار الجمعة 8 فبراير (شباط)، خرج التقرير المرتقب إلى النور، كاشفاً قيام «داعش» بإعادة تشكيلاته في العراق بوتيرة أسرع مما في سوريا، ومحذراً من أن نحو 50 مقاتلاً من الأجانب ينضمون شهرياً للتنظيم الإرهابي.
كان موقع «إكسبريس لايف» البلجيكي، من أكثر المواقع الإعلامية رغبة وقدرة في تقريره الأخير، حذر من أن أي انسحاب للقوات الأميركية من المنطقة، يمكن أن يسمح للتنظيم المتشدد باستعادة الأرض بسرعة، وأن غياب الضغط العسكري المستمر، يمكن أن يتيح لـ«داعش»، استعادة أراضٍ واسعة في غضون 6 أو 12 شهراً... هل يعمد «داعش» بالفعل في المنطقة إلى إحياء نفسه بنفسه؟ وإذا كان يفعل ذلك، فمن أين له التمويل اللازم بعد أن فقد معظم مصادره المالية، خصوصاً في سوريا؟ بحسب تقرير وزارة الدفاع الأميركية، فإن التنظيم الإرهابي يقوم في الوقت الحالي بتجديد وظائف وقدرات حاسمة بشكل أسرع في العراق منه في سوريا، وأنه لا تزال لديه إمكانات تدر عليه دخلاً كبيراً... كيف ذلك؟
قبل الجواب الخاص بالإشكالية المالية لـ«داعش»، قد ينبغي أن نشير إلى تقرير آخر سبق تقرير البنتاغون، والصادر عن وكالة «بلومبرغ»، الذي أشار إلى أن «داعش» يستعد للظهور مجدداً بعد أن خسر الأراضي التي كان يسيطر عليها، وقد تحول التنظيم من السيطرة على الأراضي إلى تكتيكات المتمردين قبل التفجيرات وهجمات القناصة والاغتيالات، وهي التكتيكات نفسها التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية في السابق لتقويض الثقة في الحكومة، وإثارة الانقسامات في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. وعودة للجواب عن السؤال المتقدم الخاص بالأحوال المادية لـ«داعش»، فعلى الرغم من أن خزانة التنظيم قد خسرت مئات الملايين من الدولارات بعدما انعدمت سيطرته على الأراضي وآبار النفط التي كانت بحوزته، وحقول دير الزور النفطية، تحول «داعش» إلى شبكة إرهابية تحت الأرض، وتمكن من ابتكار مسارب جديدة للحصول على أموال، وقد تسلل أعضاء التنظيم الإرهابي إلى أعمال تجارية لها مشروعية ظاهرية مثل البناء، وتحويل الأموال، ومصايد الأسماك، وفي هذه وغيرها تم استثمار مزيد من الأموال القذرة، عطفاً على عمليات تهريب الأموال عبر الحدود والقائمة حتى الساعة.
والشاهد أن الرئيس الأميركي لا يمكنه أن يحاجج بالقول إن «داعش» قد قضي أمره مرة وإلى الأبد، فالتنظيم الذي أضحى منظومة فكرية، قادر على شن هجمات إرهابية موجعة حول العالم، عبر أنصار ومريدين غير ظاهرين، أولئك المعروفين بـ«الذئاب المنفردة»، الأمر الذي رصدته مؤسسة «راند» الأميركية، العقل المفكر لوزارة الدفاع الأميركية، التي ترى أن «داعش» لديه من الأموال ما يكفي لدعم الهجمات المتفرقة في الخارج لسنوات مقبلة، لا سيما أنه بعد أن كان للتنظيم أذرع إعلامية واضحة ومؤثرة، تحول إلى استخدام التطبيقات ومواقع تتبع جماعات متطرفة أخرى لنشر الرسائل المشفرة لأعضاء التنظيم.
يعن للمرء مساءلة الرئيس ترمب: «كيف له أن يغمط النظر إلى إرهاب داعش حول العالم، وأحدث فعاله المنكرة ما جرى في الفلبين أخيراً؟».
يوماً تلو الآخر، يبعث التنظيم برسائل للعالم يفيد فيها بأنه قادر على إيجاد حواضن بشرية إرهابية جديدة توقع أكبر ضرر في الآمنين، والدليل الهجومان الأخيران اللذان شنتهما إحدى المجموعات الموالية له، واستهدفا كاتدرائية بمدينة جولو بمقاطعة سولو التي تقع على بعد ألف كيلو جنوب العاصمة الفلبينية مانيلا في 27 يناير 2019، ما أسفر عن قتل 27 شخصاً بينهم 20 مدنياً و7 جنود، وإصابة ما يقرب من 80 آخرين بجراح مختلفة.
«داعش» يتحول إلى رمز وفكرة، يسعى أتباعه في أفغانستان إلى امتلاك الأرض، ولهذا فإنه بحسب الأمم المتحدة، فإن 52 في المائة من مجمل العمليات الإرهابية هناك مسؤول عنها التنظيم الإرهابي.
وفي مصر وفي ليبيا، تنشط الجماعات الماضية في الطريق نفسها، وأوروبا اكتوت ولا تزال بنارها، وأفريقيا مرشحة لأن تصبح ملعباً جديداً لصراعات «داعش»، أما روسيا فستصبح الميدان الأحداث في العام الجديد، فيما الولايات المتحدة لا تقطع أبداً بأن الإرهاب الداعشي على أراضيها قد انتهى إلى غير رجعة.
ما استراتيجية ترمب تجاه «داعش»؟
قد توجد إجابة حال كانت هناك استراتيجية بالفعل، لكن من الواضح أن الشقاق الأميركي الداخلي، خصوصاً بعد تقرير البنتاغون، يؤكد لنا أن قرارات الرئيس ترمب هدفها السياسي إعادة انتخابه ثانية في 2020 حتى إن سمح ذلك لـ«الدواعش» مرة أخرى، إن لم يكن في جعبته كثير من الأوراق السرية الخفية.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».