«داعش» والطريق إلى المجهول

مستقبل التنظيم بعد الاندحار في سوريا

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
TT

«داعش» والطريق إلى المجهول

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)

قبل نحو أسبوعين وأمام مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش» في واشنطن، توقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يعلن رسمياً استعادة جميع الأراضي التي كان «داعش» يسيطر عليها في العراق وسوريا. وتستدعي تصريحات الرئيس ترمب مراجعة عميقة لأهميتها، لا سيما أن مسألة المواجهة العملياتية المسلحة ضد «داعش» ليست فقط معارك عسكرية، ولكنها مسألة كما يقال قتلت بحثاً، وإنما الأهم في المشهد هو أن تلك الأمنيات القلبية الترمبية تنافي وتجافي كل القراءات الاستخبارية الأميركية، عطفاً على تقرير البنتاغون الذي أعلن عنه الجمعة الماضي، وجميعها يذهب إلى التحذير من عودة أشد شراسة للدواعش.

السؤال الآن: «هل حديث ترمب غطاء كلامي يبرر له في عيون ناخبيه قضية انسحابه من سوريا في الأيام القليلة المقبلة، لا سيما أن الأخبار المتواترة من واشنطن تشير إلى أن جلاء القوات الأميركية من الأراضي السورية بنهاية أبريل (نيسان) المقبل؟».
الشاهد أن الرئيس ترمب، وعلى صعيد كثير من القضايا الاستراتيجية الداخلية يمضي في طريق مغايرة للقوى الضاربة فكرياً في إدارته، وفي المقدمة منها قوى المجتمع الاستخباري، لا سيما بعد حديث دان كوتس مدير الاستخبارات الوطنية في البلاد نهار الثلاثاء 29 يناير (كانون الثاني) 2019، حين أشار إلى أن «داعش» يمتلك آلافاً من المقاتلين في العراق وسوريا، كما أن له 8 فروع، وأكثر من 12 شبكة، وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم، رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي.
ولم يكن تصريح دان كوتس هو الوحيد من نوعه في هذا السياق، فقد سبقه تصريح آخر للجنرال فرانك ماكنزي، جنرال النجوم الأربعة الذي ستناط به مسؤولية قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وقد كان ذلك خلال جلسات الاجتماع في مجلس الشيوخ، التي تسبق تعيين كبار موظفي دولاب الدولة الأميركية، ويومها قال ما نصه إن «تنظيم داعش، ربما لا يزال أكثر قدرة من تنظيم (القاعدة في العراق) وقت عنفوانه، ومع ذلك لا يزال الرئيس ترمب يرى أن (داعش) قد سحق ومحق إلى غير رجعة، وأن خلافته إلى زوال، الأمر الذي أثبتت الأيام زيفه، وها هو (داعش) يخرج من شرنقة انتصارات بوش».
عطفاً على التصريحين المتقدمين بدا واضحاً في الداخل الأميركي أن هناك من العقلاء من يرى في التصرفات الترمبية مسألة كارثية تقود إلى ضرر عام للمسرح العالمي، وليس للولايات المتحدة الأميركية فقط، فالإرهاب الذي يرعاه «داعش» إرهاب معولم. من تلك الأصوات السيناتور الأميركي جاك ريد عضو لجنة الخدمات المسلحة، الذي كان له رأي أكد فيه خطورة موقف ترمب حين قال إن «الأسلوب المتعجل والمفكك الذي صدر فيه هذا الإعلان، يظهر حالة من الفوضى، ويقدم دليلاً جديداً على عدم قدرة ترمب على قيادة المسرح العالمي، ذلك أن تغريدته بأنه هزم داعش، لن تجعلنا أكثر أماناً».
أحد الأسئلة المثيرة للقلق تجاه ما يجري في إدارة ترمب هو ذاك المتصل بوزير خارجيته مايك بومبيو، والقادم من عالم مجمع الاستخبارات الأميركية، فكيف له أن ينحاز إلى وجهة نظر ترمب، ويقر بأن «99 في المائة من الأراضي الواقعة تحت سيطرة (داعش) قد تحررت، وهذا هو المكافئ الموضوعي لهزيمة (داعش) المطلقة على الأرض».
يطرح موقف الرئيس الأميركي ترمب من مستقبل «داعش» علامة استفهام واسعة بدورها حول العلاقات القديمة والجديدة بين الدولة الأميركية العميقة، وجماعات الإسلام السياسي، وما بينهما من رباطات ووثاق قوي.
هل يحضر ترمب مفاجأة لإيران في العراق؟ لا نقول إن السؤال هو ضرب من ضروب المؤامرة الكونية، لكنه في كل الأحوال يفتح أعيننا على الخطط الأميركية في الداخل العراقي من أجل مواجهة ومجابهة إيران، وهي الهدف الاستراتيجي الأكبر والأهم بالنسبة للرئيس الأميركي.
شيء ما مثير للتأمل يحدث على الحدود العراقية - السورية، وذلك منذ أعلن ترمب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، ويتمثل في المحاولات المكثفة اليومية من قبل عناصر «داعش» في سوريا، بالفرار إلى الداخل العراقي، ما يعني أن هناك فكراً جديداً ومثيراً يتصل بإعادة تشكيل خلايا «داعش» في العراق، بعد الانسحاب الأميركي من سوريا، وفي هذا سر غير معروف، ذلك لأنه وفقاً لما هو معلن، فإن القوات الأميركية تحارب «داعش»، وعليه يجب أن تكون خطة الدواعش هي العودة للأراضي السورية، بعد أن تفرغ من الوجود الأميركي عليها، لكن أن تترك سوريا حيث لا أميركيين، وتتوجه إلى العراق، التي يوجد فيها الجيب الأميركي بكثافة، ففي الأمر لغز يحتاج إلى إمعان النظر في الاستراتيجيات الأميركية الماورائية.
الهواجس التي تنتاب العاملين في مجال التحليلات الاستراتيجية والأمنية بالنسبة للولايات المتحدة، وتشابكات وتقاطعات علاقتها مع جماعات الإسلام السياسي بكل أطيافها؛ العنيف منها، والذي يرفع رايات السلمية مزيفة، إلى حين التمكين، ربما شاغبت بعض العقول في العراق، الجار الجغرافي لسوريا.
في هذا الإطار، اتهم قائد قوات «الحشد الشعبي» في لواء «الطفوف» أحمد نصر الله، القوات الأميركية، بأنها تساعد التنظيم الإرهابي، وتستهدف في أحيان كثيرة منظمة «حزب الله» الإيرانية، التي تعتبرها واشنطن منظمة إرهابية.
ويضيف اللواء أحمد نصر الله أن «الهجمات تأتي من اتجاه الأميركيين أكثر من أي وقت مضى... وأن هدفهم من وراء ذلك هو زعزعة استقرار المنطقة، حتى يمكنهم تبرير وجودهم المستمر هنا».
قبل نحو أسبوعين كان الجميع يترقب تقرير مكتب المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الخاص بإشكالية انسحاب القوات الأميركية من سوريا، والمعروف أن ذلك الانسحاب لم يرُق للجنرالات، وأن التأخير الذي حدث سببه الرئيسي إقناع جنرالات العراق لترمب، بوقف التسرع، لما سيسببه من خسائر للوجود الأميركي المسلح في الإقليم برمته، عطفاً على الخسائر الأدبية والسياسية التي ستنجم من جراء فقدان الأصدقاء والحلفاء ثقتهم في واشنطن، وهي ثقة ليست عالية في جميع الأحوال. وفي أثناء الانتظار لصدور التقرير، كان مكتب المفتش العام للبنتاغون كذلك يصدر تحذيراً من تبعات الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، ويشير إلى أن سلطات كابل تتخوف من تمكن حركة طالبان من إعادة السيطرة على البلاد كاملة فيما لو جرى التوصل إلى تسوية معها... ثم ماذا بعد صدور التقرير؟ نهار الجمعة 8 فبراير (شباط)، خرج التقرير المرتقب إلى النور، كاشفاً قيام «داعش» بإعادة تشكيلاته في العراق بوتيرة أسرع مما في سوريا، ومحذراً من أن نحو 50 مقاتلاً من الأجانب ينضمون شهرياً للتنظيم الإرهابي.
كان موقع «إكسبريس لايف» البلجيكي، من أكثر المواقع الإعلامية رغبة وقدرة في تقريره الأخير، حذر من أن أي انسحاب للقوات الأميركية من المنطقة، يمكن أن يسمح للتنظيم المتشدد باستعادة الأرض بسرعة، وأن غياب الضغط العسكري المستمر، يمكن أن يتيح لـ«داعش»، استعادة أراضٍ واسعة في غضون 6 أو 12 شهراً... هل يعمد «داعش» بالفعل في المنطقة إلى إحياء نفسه بنفسه؟ وإذا كان يفعل ذلك، فمن أين له التمويل اللازم بعد أن فقد معظم مصادره المالية، خصوصاً في سوريا؟ بحسب تقرير وزارة الدفاع الأميركية، فإن التنظيم الإرهابي يقوم في الوقت الحالي بتجديد وظائف وقدرات حاسمة بشكل أسرع في العراق منه في سوريا، وأنه لا تزال لديه إمكانات تدر عليه دخلاً كبيراً... كيف ذلك؟
قبل الجواب الخاص بالإشكالية المالية لـ«داعش»، قد ينبغي أن نشير إلى تقرير آخر سبق تقرير البنتاغون، والصادر عن وكالة «بلومبرغ»، الذي أشار إلى أن «داعش» يستعد للظهور مجدداً بعد أن خسر الأراضي التي كان يسيطر عليها، وقد تحول التنظيم من السيطرة على الأراضي إلى تكتيكات المتمردين قبل التفجيرات وهجمات القناصة والاغتيالات، وهي التكتيكات نفسها التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية في السابق لتقويض الثقة في الحكومة، وإثارة الانقسامات في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. وعودة للجواب عن السؤال المتقدم الخاص بالأحوال المادية لـ«داعش»، فعلى الرغم من أن خزانة التنظيم قد خسرت مئات الملايين من الدولارات بعدما انعدمت سيطرته على الأراضي وآبار النفط التي كانت بحوزته، وحقول دير الزور النفطية، تحول «داعش» إلى شبكة إرهابية تحت الأرض، وتمكن من ابتكار مسارب جديدة للحصول على أموال، وقد تسلل أعضاء التنظيم الإرهابي إلى أعمال تجارية لها مشروعية ظاهرية مثل البناء، وتحويل الأموال، ومصايد الأسماك، وفي هذه وغيرها تم استثمار مزيد من الأموال القذرة، عطفاً على عمليات تهريب الأموال عبر الحدود والقائمة حتى الساعة.
والشاهد أن الرئيس الأميركي لا يمكنه أن يحاجج بالقول إن «داعش» قد قضي أمره مرة وإلى الأبد، فالتنظيم الذي أضحى منظومة فكرية، قادر على شن هجمات إرهابية موجعة حول العالم، عبر أنصار ومريدين غير ظاهرين، أولئك المعروفين بـ«الذئاب المنفردة»، الأمر الذي رصدته مؤسسة «راند» الأميركية، العقل المفكر لوزارة الدفاع الأميركية، التي ترى أن «داعش» لديه من الأموال ما يكفي لدعم الهجمات المتفرقة في الخارج لسنوات مقبلة، لا سيما أنه بعد أن كان للتنظيم أذرع إعلامية واضحة ومؤثرة، تحول إلى استخدام التطبيقات ومواقع تتبع جماعات متطرفة أخرى لنشر الرسائل المشفرة لأعضاء التنظيم.
يعن للمرء مساءلة الرئيس ترمب: «كيف له أن يغمط النظر إلى إرهاب داعش حول العالم، وأحدث فعاله المنكرة ما جرى في الفلبين أخيراً؟».
يوماً تلو الآخر، يبعث التنظيم برسائل للعالم يفيد فيها بأنه قادر على إيجاد حواضن بشرية إرهابية جديدة توقع أكبر ضرر في الآمنين، والدليل الهجومان الأخيران اللذان شنتهما إحدى المجموعات الموالية له، واستهدفا كاتدرائية بمدينة جولو بمقاطعة سولو التي تقع على بعد ألف كيلو جنوب العاصمة الفلبينية مانيلا في 27 يناير 2019، ما أسفر عن قتل 27 شخصاً بينهم 20 مدنياً و7 جنود، وإصابة ما يقرب من 80 آخرين بجراح مختلفة.
«داعش» يتحول إلى رمز وفكرة، يسعى أتباعه في أفغانستان إلى امتلاك الأرض، ولهذا فإنه بحسب الأمم المتحدة، فإن 52 في المائة من مجمل العمليات الإرهابية هناك مسؤول عنها التنظيم الإرهابي.
وفي مصر وفي ليبيا، تنشط الجماعات الماضية في الطريق نفسها، وأوروبا اكتوت ولا تزال بنارها، وأفريقيا مرشحة لأن تصبح ملعباً جديداً لصراعات «داعش»، أما روسيا فستصبح الميدان الأحداث في العام الجديد، فيما الولايات المتحدة لا تقطع أبداً بأن الإرهاب الداعشي على أراضيها قد انتهى إلى غير رجعة.
ما استراتيجية ترمب تجاه «داعش»؟
قد توجد إجابة حال كانت هناك استراتيجية بالفعل، لكن من الواضح أن الشقاق الأميركي الداخلي، خصوصاً بعد تقرير البنتاغون، يؤكد لنا أن قرارات الرئيس ترمب هدفها السياسي إعادة انتخابه ثانية في 2020 حتى إن سمح ذلك لـ«الدواعش» مرة أخرى، إن لم يكن في جعبته كثير من الأوراق السرية الخفية.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.