«داعش» والطريق إلى المجهول

مستقبل التنظيم بعد الاندحار في سوريا

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
TT

«داعش» والطريق إلى المجهول

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)

قبل نحو أسبوعين وأمام مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش» في واشنطن، توقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يعلن رسمياً استعادة جميع الأراضي التي كان «داعش» يسيطر عليها في العراق وسوريا. وتستدعي تصريحات الرئيس ترمب مراجعة عميقة لأهميتها، لا سيما أن مسألة المواجهة العملياتية المسلحة ضد «داعش» ليست فقط معارك عسكرية، ولكنها مسألة كما يقال قتلت بحثاً، وإنما الأهم في المشهد هو أن تلك الأمنيات القلبية الترمبية تنافي وتجافي كل القراءات الاستخبارية الأميركية، عطفاً على تقرير البنتاغون الذي أعلن عنه الجمعة الماضي، وجميعها يذهب إلى التحذير من عودة أشد شراسة للدواعش.

السؤال الآن: «هل حديث ترمب غطاء كلامي يبرر له في عيون ناخبيه قضية انسحابه من سوريا في الأيام القليلة المقبلة، لا سيما أن الأخبار المتواترة من واشنطن تشير إلى أن جلاء القوات الأميركية من الأراضي السورية بنهاية أبريل (نيسان) المقبل؟».
الشاهد أن الرئيس ترمب، وعلى صعيد كثير من القضايا الاستراتيجية الداخلية يمضي في طريق مغايرة للقوى الضاربة فكرياً في إدارته، وفي المقدمة منها قوى المجتمع الاستخباري، لا سيما بعد حديث دان كوتس مدير الاستخبارات الوطنية في البلاد نهار الثلاثاء 29 يناير (كانون الثاني) 2019، حين أشار إلى أن «داعش» يمتلك آلافاً من المقاتلين في العراق وسوريا، كما أن له 8 فروع، وأكثر من 12 شبكة، وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم، رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي.
ولم يكن تصريح دان كوتس هو الوحيد من نوعه في هذا السياق، فقد سبقه تصريح آخر للجنرال فرانك ماكنزي، جنرال النجوم الأربعة الذي ستناط به مسؤولية قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وقد كان ذلك خلال جلسات الاجتماع في مجلس الشيوخ، التي تسبق تعيين كبار موظفي دولاب الدولة الأميركية، ويومها قال ما نصه إن «تنظيم داعش، ربما لا يزال أكثر قدرة من تنظيم (القاعدة في العراق) وقت عنفوانه، ومع ذلك لا يزال الرئيس ترمب يرى أن (داعش) قد سحق ومحق إلى غير رجعة، وأن خلافته إلى زوال، الأمر الذي أثبتت الأيام زيفه، وها هو (داعش) يخرج من شرنقة انتصارات بوش».
عطفاً على التصريحين المتقدمين بدا واضحاً في الداخل الأميركي أن هناك من العقلاء من يرى في التصرفات الترمبية مسألة كارثية تقود إلى ضرر عام للمسرح العالمي، وليس للولايات المتحدة الأميركية فقط، فالإرهاب الذي يرعاه «داعش» إرهاب معولم. من تلك الأصوات السيناتور الأميركي جاك ريد عضو لجنة الخدمات المسلحة، الذي كان له رأي أكد فيه خطورة موقف ترمب حين قال إن «الأسلوب المتعجل والمفكك الذي صدر فيه هذا الإعلان، يظهر حالة من الفوضى، ويقدم دليلاً جديداً على عدم قدرة ترمب على قيادة المسرح العالمي، ذلك أن تغريدته بأنه هزم داعش، لن تجعلنا أكثر أماناً».
أحد الأسئلة المثيرة للقلق تجاه ما يجري في إدارة ترمب هو ذاك المتصل بوزير خارجيته مايك بومبيو، والقادم من عالم مجمع الاستخبارات الأميركية، فكيف له أن ينحاز إلى وجهة نظر ترمب، ويقر بأن «99 في المائة من الأراضي الواقعة تحت سيطرة (داعش) قد تحررت، وهذا هو المكافئ الموضوعي لهزيمة (داعش) المطلقة على الأرض».
يطرح موقف الرئيس الأميركي ترمب من مستقبل «داعش» علامة استفهام واسعة بدورها حول العلاقات القديمة والجديدة بين الدولة الأميركية العميقة، وجماعات الإسلام السياسي، وما بينهما من رباطات ووثاق قوي.
هل يحضر ترمب مفاجأة لإيران في العراق؟ لا نقول إن السؤال هو ضرب من ضروب المؤامرة الكونية، لكنه في كل الأحوال يفتح أعيننا على الخطط الأميركية في الداخل العراقي من أجل مواجهة ومجابهة إيران، وهي الهدف الاستراتيجي الأكبر والأهم بالنسبة للرئيس الأميركي.
شيء ما مثير للتأمل يحدث على الحدود العراقية - السورية، وذلك منذ أعلن ترمب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، ويتمثل في المحاولات المكثفة اليومية من قبل عناصر «داعش» في سوريا، بالفرار إلى الداخل العراقي، ما يعني أن هناك فكراً جديداً ومثيراً يتصل بإعادة تشكيل خلايا «داعش» في العراق، بعد الانسحاب الأميركي من سوريا، وفي هذا سر غير معروف، ذلك لأنه وفقاً لما هو معلن، فإن القوات الأميركية تحارب «داعش»، وعليه يجب أن تكون خطة الدواعش هي العودة للأراضي السورية، بعد أن تفرغ من الوجود الأميركي عليها، لكن أن تترك سوريا حيث لا أميركيين، وتتوجه إلى العراق، التي يوجد فيها الجيب الأميركي بكثافة، ففي الأمر لغز يحتاج إلى إمعان النظر في الاستراتيجيات الأميركية الماورائية.
الهواجس التي تنتاب العاملين في مجال التحليلات الاستراتيجية والأمنية بالنسبة للولايات المتحدة، وتشابكات وتقاطعات علاقتها مع جماعات الإسلام السياسي بكل أطيافها؛ العنيف منها، والذي يرفع رايات السلمية مزيفة، إلى حين التمكين، ربما شاغبت بعض العقول في العراق، الجار الجغرافي لسوريا.
في هذا الإطار، اتهم قائد قوات «الحشد الشعبي» في لواء «الطفوف» أحمد نصر الله، القوات الأميركية، بأنها تساعد التنظيم الإرهابي، وتستهدف في أحيان كثيرة منظمة «حزب الله» الإيرانية، التي تعتبرها واشنطن منظمة إرهابية.
ويضيف اللواء أحمد نصر الله أن «الهجمات تأتي من اتجاه الأميركيين أكثر من أي وقت مضى... وأن هدفهم من وراء ذلك هو زعزعة استقرار المنطقة، حتى يمكنهم تبرير وجودهم المستمر هنا».
قبل نحو أسبوعين كان الجميع يترقب تقرير مكتب المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الخاص بإشكالية انسحاب القوات الأميركية من سوريا، والمعروف أن ذلك الانسحاب لم يرُق للجنرالات، وأن التأخير الذي حدث سببه الرئيسي إقناع جنرالات العراق لترمب، بوقف التسرع، لما سيسببه من خسائر للوجود الأميركي المسلح في الإقليم برمته، عطفاً على الخسائر الأدبية والسياسية التي ستنجم من جراء فقدان الأصدقاء والحلفاء ثقتهم في واشنطن، وهي ثقة ليست عالية في جميع الأحوال. وفي أثناء الانتظار لصدور التقرير، كان مكتب المفتش العام للبنتاغون كذلك يصدر تحذيراً من تبعات الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، ويشير إلى أن سلطات كابل تتخوف من تمكن حركة طالبان من إعادة السيطرة على البلاد كاملة فيما لو جرى التوصل إلى تسوية معها... ثم ماذا بعد صدور التقرير؟ نهار الجمعة 8 فبراير (شباط)، خرج التقرير المرتقب إلى النور، كاشفاً قيام «داعش» بإعادة تشكيلاته في العراق بوتيرة أسرع مما في سوريا، ومحذراً من أن نحو 50 مقاتلاً من الأجانب ينضمون شهرياً للتنظيم الإرهابي.
كان موقع «إكسبريس لايف» البلجيكي، من أكثر المواقع الإعلامية رغبة وقدرة في تقريره الأخير، حذر من أن أي انسحاب للقوات الأميركية من المنطقة، يمكن أن يسمح للتنظيم المتشدد باستعادة الأرض بسرعة، وأن غياب الضغط العسكري المستمر، يمكن أن يتيح لـ«داعش»، استعادة أراضٍ واسعة في غضون 6 أو 12 شهراً... هل يعمد «داعش» بالفعل في المنطقة إلى إحياء نفسه بنفسه؟ وإذا كان يفعل ذلك، فمن أين له التمويل اللازم بعد أن فقد معظم مصادره المالية، خصوصاً في سوريا؟ بحسب تقرير وزارة الدفاع الأميركية، فإن التنظيم الإرهابي يقوم في الوقت الحالي بتجديد وظائف وقدرات حاسمة بشكل أسرع في العراق منه في سوريا، وأنه لا تزال لديه إمكانات تدر عليه دخلاً كبيراً... كيف ذلك؟
قبل الجواب الخاص بالإشكالية المالية لـ«داعش»، قد ينبغي أن نشير إلى تقرير آخر سبق تقرير البنتاغون، والصادر عن وكالة «بلومبرغ»، الذي أشار إلى أن «داعش» يستعد للظهور مجدداً بعد أن خسر الأراضي التي كان يسيطر عليها، وقد تحول التنظيم من السيطرة على الأراضي إلى تكتيكات المتمردين قبل التفجيرات وهجمات القناصة والاغتيالات، وهي التكتيكات نفسها التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية في السابق لتقويض الثقة في الحكومة، وإثارة الانقسامات في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. وعودة للجواب عن السؤال المتقدم الخاص بالأحوال المادية لـ«داعش»، فعلى الرغم من أن خزانة التنظيم قد خسرت مئات الملايين من الدولارات بعدما انعدمت سيطرته على الأراضي وآبار النفط التي كانت بحوزته، وحقول دير الزور النفطية، تحول «داعش» إلى شبكة إرهابية تحت الأرض، وتمكن من ابتكار مسارب جديدة للحصول على أموال، وقد تسلل أعضاء التنظيم الإرهابي إلى أعمال تجارية لها مشروعية ظاهرية مثل البناء، وتحويل الأموال، ومصايد الأسماك، وفي هذه وغيرها تم استثمار مزيد من الأموال القذرة، عطفاً على عمليات تهريب الأموال عبر الحدود والقائمة حتى الساعة.
والشاهد أن الرئيس الأميركي لا يمكنه أن يحاجج بالقول إن «داعش» قد قضي أمره مرة وإلى الأبد، فالتنظيم الذي أضحى منظومة فكرية، قادر على شن هجمات إرهابية موجعة حول العالم، عبر أنصار ومريدين غير ظاهرين، أولئك المعروفين بـ«الذئاب المنفردة»، الأمر الذي رصدته مؤسسة «راند» الأميركية، العقل المفكر لوزارة الدفاع الأميركية، التي ترى أن «داعش» لديه من الأموال ما يكفي لدعم الهجمات المتفرقة في الخارج لسنوات مقبلة، لا سيما أنه بعد أن كان للتنظيم أذرع إعلامية واضحة ومؤثرة، تحول إلى استخدام التطبيقات ومواقع تتبع جماعات متطرفة أخرى لنشر الرسائل المشفرة لأعضاء التنظيم.
يعن للمرء مساءلة الرئيس ترمب: «كيف له أن يغمط النظر إلى إرهاب داعش حول العالم، وأحدث فعاله المنكرة ما جرى في الفلبين أخيراً؟».
يوماً تلو الآخر، يبعث التنظيم برسائل للعالم يفيد فيها بأنه قادر على إيجاد حواضن بشرية إرهابية جديدة توقع أكبر ضرر في الآمنين، والدليل الهجومان الأخيران اللذان شنتهما إحدى المجموعات الموالية له، واستهدفا كاتدرائية بمدينة جولو بمقاطعة سولو التي تقع على بعد ألف كيلو جنوب العاصمة الفلبينية مانيلا في 27 يناير 2019، ما أسفر عن قتل 27 شخصاً بينهم 20 مدنياً و7 جنود، وإصابة ما يقرب من 80 آخرين بجراح مختلفة.
«داعش» يتحول إلى رمز وفكرة، يسعى أتباعه في أفغانستان إلى امتلاك الأرض، ولهذا فإنه بحسب الأمم المتحدة، فإن 52 في المائة من مجمل العمليات الإرهابية هناك مسؤول عنها التنظيم الإرهابي.
وفي مصر وفي ليبيا، تنشط الجماعات الماضية في الطريق نفسها، وأوروبا اكتوت ولا تزال بنارها، وأفريقيا مرشحة لأن تصبح ملعباً جديداً لصراعات «داعش»، أما روسيا فستصبح الميدان الأحداث في العام الجديد، فيما الولايات المتحدة لا تقطع أبداً بأن الإرهاب الداعشي على أراضيها قد انتهى إلى غير رجعة.
ما استراتيجية ترمب تجاه «داعش»؟
قد توجد إجابة حال كانت هناك استراتيجية بالفعل، لكن من الواضح أن الشقاق الأميركي الداخلي، خصوصاً بعد تقرير البنتاغون، يؤكد لنا أن قرارات الرئيس ترمب هدفها السياسي إعادة انتخابه ثانية في 2020 حتى إن سمح ذلك لـ«الدواعش» مرة أخرى، إن لم يكن في جعبته كثير من الأوراق السرية الخفية.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.