خالد فتح الرحمن: فترة صداقتي مع الطيب صالح أغلى سنوات حياتي

الشاعر نشأ في السعودية وتأثر بثقافتها وعاد إليها سفيرا

السفير الشاعر خالد فتح الرحمن
السفير الشاعر خالد فتح الرحمن
TT

خالد فتح الرحمن: فترة صداقتي مع الطيب صالح أغلى سنوات حياتي

السفير الشاعر خالد فتح الرحمن
السفير الشاعر خالد فتح الرحمن

عرف السفير السوداني الحالي في الرياض الدكتور خالد فتح الرحمن عمر، السعودية منذ كان يافعا، حيث درس في جامعة الملك سعود. وفيها نضجت موهبته الشعرية، قبل أن يشتغل بالعمل الدبلوماسي.
لديه عدد من المجموعات الشعرية، بينها: «قصائد ليست للتصفيق»، و«غير هذا البريق.. لك»، و«سيف بلا ذاكرة»، وكتاب «حقائب الرياح.. أسفار في الأدب والتاريخ والدبلوماسية».
ويقول عن تأثره بالثقافة السعودية: «حاولت في شعري، المزج بين البيئة العربية الإسلامية بوجودها الصافي في السعودية، وما تجسده الثقافة السودانية من خصوصية».
وهو أساسا ينحدر من بيئة شاعرة في السودان، فمن عائلته الشاعران الراحلان عبد الله الشيخ البشير المعروف بشيخ الشعراء السودانيين والشاعر الغنائي المعروف إسماعيل حسن من أهل بيتي.
ولد فتح الرحمن عمر في مدينة عطبرة السودانية بشمال السودان وعاش فترة من الزمن في المدينة المنورة، ودرس في جامعة الملك سعود.. قبل أن يحط رحاله سفيرا لبلاده في الرياض. يقول عن هذه التجربة: «مدينة عطبرة بشمال السودان هي مسقط رأسي، وهي مدينة مثقفة ومنضبطة، حيث يستيقظ الناس فيها على صافرة، فالعمال والموظفون فيها يتناولون الإفطار الصباحي على صافرة، وينتهي الدوام على صافرة، وهذا الانضباط جعلها مدينة متحضرة ومثقفة، ولما كبرت انتقلت إلى الخرطوم، ومن هناك جئت في معيتي والدي إلى المدينة المنورة صبيا، حيث يعمل أستاذا بالجامعة الإسلامية هناك، لمدة تزيد على الـ15 عاما، وهذا سنح لي فرصة أن أدرس المرحلة الثانوية في مدرسة قباء ونلت منها الترتيب الأول في الشهادة الثانوية السعودية في المركز الغربي فانتقلت بعدها إلى جامعة الملك سعود طالبا وصقلتني شاعرا، ثم التحقت بالخارجية السودانية فعدت للرياض سفيرا».

* بستان التاريخ
وعن نشأته في السعودية، يقول: «كانت إحدى العلامات الفارقة أنني عندما قدمت للسعودية لأول مرة قدمت للمدينة المنورة بستان التاريخ الإسلامي، منحني وجودي فيها بالقرب من الكتب التراثية التي تعج بها الجامعة الإسلامية التي كان يعمل والدي فيها أستاذا وقتذاك، - منحني - الكثير من الثقافة الشعرية، ووجدت تشابها كبيرا بين البيئتين السودانية والسعودية في الكثير من التفاصيل، ولكن الشعر جزء مهم من تفاصيل بصماته، إنه يطالبك بأن تضع كما يقول أستاذي نذير العظمة أسئلة، حيث كان يسألنا دائما عن قصائد الشعراء السودانيين ملاحظا أن بها الكثير من التوابل السودانية، فأنا كنت أحاول المزج بين البيئة العربية الإسلامية بوجودها الصافي في السعودية، وما تجسده الثقافة السودانية من خصوصية، حيث التقاء العنصر العربي بالعنصر الأفريقي. ولكنني أزعم أنني أحمل الكثير من تفاصيل جماليات البيئة السعودية بخلاصها العربي الإسلامي والبيئة السودانية بما تحتشد به من ثراء عربي وأفريقي».
حين كان طالبا في جامعة الملك سعود بدأت تجربته الشعرية تشق طريقها نحو الجوائز، فحاز على جوائز متعددة من الجامعة، وهو يرى أن هذه الجامعة «رحبة لا وجود للتمييز بين طلابها، إذ كنت شاعر الجامعة على مدى أربعة أعوام متتالية، أحصد خلالها الجائزة بشكل مستمر، لم ألحظ أن أستاذا في الجامعة قال لنقفل هذه الجائزة على هذا السوداني، ما ترك مشاعر طيبة في نفسي».
يضيف: «جامعة الملك سعود كانت تورق فيها أكبر المواسم الثقافية في السعودية، وكان هناك شعراء ونقاد كبار مثل الدكتور شكري عياد والدكتور حسن ظاظا المتخصص في الإسرائيليات، والدكتور نذير العظمة، بجانب الشعراء والنقاد السعوديين مثل الدكتور منصور الحازمي، والدكتور محمد الهدلق، والدكتور مرزوق بن تمباك، والدكتور عبد الله الغذامي، والدكتور سعد البازعي، وغيرهم ممن كان ضمن روّاد النقد في تلك الفترة».
«قصائد ليست للتصفيق»
أصدر خالد فتح الرحمن عمر أول دواوينه الشعرية عام 1994 بعنوان «قصائد ليست للتصفيق»، وحين نسأله: هل كتبت قصائد للتصفيق بعد ولوجك عالم السياسة؟، يرد ضاحكا: «الحقيقة مكمن السر في ديوان (قصائد ليست للتصفيق)، هو الخوف من أن يشغل التصفيق الشاعر عن المعنى الحقيقي، لأننا تعودنا على القصائد المنبرية وبحسب اعتقادي الشخصي أن جزءا من الرقي في القصيدة العربية، أنها تخرج من الثوب المنبري إلى الثوب الفكري، حيث كنت أستشعر هذه المسؤولية حين ألقي القصائد فأتلقى التصفيق الحاد والكبير، فتكامل الإحساس لدي المسؤولية بعدم خداع الجمهور في العنوان، كأنني أتبرأ من أن يكون التصفيق هو مبتغى الشاعر وموئل آماله فهذا هو القصد».
ويقول عن ديوانه الثاني «غير هذا البريق.. لك»: «هذا الديوان محاولة لتحقيق الرؤية التي انطلق منها الشاعر إلى تحقيق عبر شحذ الفكر والدخول بعمق في عوالم الشعر خروجا عن إيهاب المنبريات، فالديوان الأول كان بمثابة الأسنان اللبنية، حيث إنه في الديوان الثاني تكاملت الرؤية شيئا ما ثم ولجت عالم الكتابة النثرية، في الكتابة الأسبوعية في الصحف تكاملت في جزأين في كتابي (حقائب الرياح.. أسفار في الأدب والتاريخ والدبلوماسية)، وفيه رؤى كثيرة خلال ما دار عبر السنوات العشر الماضية».

* الثقافة السعودية
غادر فتح الرحمن عمر السعودية، لكنه عاد إليها بعد سنوات سفيرا، ويتحدث عن الاختلاف الذي لاحظه في الحياة الثقافية السعودية بالقول: «تطور المشهد الثقافي السعودي تطورا كبيرا، حيث استشعر الأدباء أن الوجود السعودي يمثل قيمة كبرى في تجلياته الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، واستفادوا من التقدم المطرد في تكنولوجيات الاتصال العالمي، لتحقيق مزيد من التواصل، والانفتاح نحو الآخر. وهناك أسماء ثقافية وجدت موقعا في المدار الإقليمي مثل الروائية رجاء عالم، والروائي عبده خال، والروائي يوسف المحيميد، وقبلهم كان الروائي عبد الرحمن منيف، والشاعر الدبلوماسي الراحل الدكتور غازي القصيبي، وغيره من الأدباء الذين يستشرفون العالمية».
وعلى الرغم من انشغاله بالشعر، فإنه قارئ جيد للرواية أيضا. يقول: «لا يوجد تنافر بين أجناس الأدب، ولكن الرواية عموما تطورت مستفيدة من آليات الشعر، حيث أصبحنا نتحدث عن شعرية الرواية حاليا ونستفيد فيها من الآخرين على الرغم من أنها موجودة في التراث العربي، فهناك تمثّل للشعر في الرواية العربية واضح جدا، كما هو الحال على المستوى العالمي، إذ إن المسألة ليست مسألة تنافس وإنما مسألة كيفية الارتقاء بالشعر من مواطئ المنبرية الفجة إلى مقام الفكر وهنا يتواصل الشعر والرواية».

* السياسة والإبداع
وحين نسأله: هل ترى أن السياسة تفسد الإبداع؟، يجيب فورا: «نعم كبيرة إذا كانت في إطار الممارسة، ولكن الشاعر يستفيد من الإطار الدبلوماسي في الانفتاح على تجارب متعددة، وكان ذلك جليا في عدد من الدبلوماسيين من الأدباء، فمثلا عندما ذهب الشاعر نزار قباني كدبلوماسي سوري إلى إسبانيا والصين كتب أجمل الشعر، وما كان له أن يكتبه لو لم تقده الدبلوماسية لتلك البقاع، وهو عبر عن ذلك بأنه استفاد من ذلك كثيرا في إنتاجه الشعري، وكذلك الشاعر الكبير عمر أبو ريشة الذي استفاد من وجوده الدبلوماسي في الهند، وخلاصة الأمر أن التجربة الدبلوماسية ترفد بالنضوج والجمال الإبداعي والتجربة المتنافرة أحيانا من ناحية، ومن ناحية أخرى تقصقص أظافر الشاعر، فتغدو أظافره للملامسة اللطيفة، وليست للخدش، والمطلوب من الشاعر أن يكون خداشا بأظافره كما يكون لطيفا في تحاياه التي يمارسها بتلك الأصابع».

* مع الطيب الصالح
لعب فتح الرحمن عمر، دورا رئيسا في عودة الروائي السوداني الراحل الطيب صالح لوطنه قبل رحيله، وهو يتحدث عن تلك التجربة بالقول: «سنوات صداقتي مع الطيب صالح أغلى سنوات الحياة، فهو أحد أرقى بني الإنسان، والذين لا يعرفون شخصيته يظنونه الأديب الكاتب فقط ولكنه أيضا هو النموذج الرائع للإنسان في أرقى لحظات تواصله مع الآخر وبيئته ومجتمعه، وسعدت كثيرا بأنني مهدت لزيارته للخرطوم وقت كانت العاصمة الثقافية وكذلك شاءت الأقدار أنه بعد أن عاد من تلك الرحلة ألمّ به داء الكلى وكنت رفيقا قريبا منه، أحاول التخفيف عنه وذهبت معه إلى دبي لإجراء العملية وبعد العودة للندن مع ثقل الداء عليه، رافقته إلى أن أخذت السماء وديعتها وظل في ذاكرتي لحظة من لحظات الجمال الفارقة في حياتي».



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي