الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

صبحي شحاتة يقدم رواية حمالة أوجه وأقنعة

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء
TT

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

يهدي صبحي شحاتة روايته «الحب»، الصادرة حديثاً عن دار «بدائل» بالقاهرة، إلى أم كلثوم «ثومة»، مسلطاً الضوء على هذا الكائن الخرافي منذ لحظة ميلاده وحتى أفوله، وفي لعبة سردية شيقة، تختلط فيها الفانتازيا بالسخرية، الفكاهة بالخرافة والأسطورة، الدعابة بروح المرح والتنكيت.
وتبرز المخيلة الشعبية في بداهتها الخام، كعين أخرى، تراقب وتعلِّق على المشاهد والحالات، من خلال أغاني الحب الشهيرة، والحكم والأمثال الشعبية والأشعار التي تتغنى بالحب، وتتقاطع مع فصول الرواية، كأنها تلخيص لما آلت إليه مصائر الشخوص وحكايتها داخل اللعبة وخارجها أيضاً.
رواية حمالة أوجه وأقنعة، تخفي تحت قشرتها دهاءً أدبياً، تعززه ثقافة واسعة ولغة سلسة مغوية، معجونة بطينة الواقع ومفارقاته، وتملك الذات الساردة قدرة فائقة على وصف الأشياء والوقائع والأحداث والنفاذ إلى ما وراءها، في لعبة لا توازن فيها عاطفياً وإنسانياً، بين الغني والفقر، الحب والكره، الحرمان والشبع، الأصل والقناع... وغيرها من المفارقات التي توسع دائرة الأضداد في مسيرة بشر يعيشون تحت سقف حياة عارية، إلا من الرغبة في الحب والشغف به كطوق نجاة من الفقر والجوع، بل من مباغتات القدر وتطوحات النفس البشرية، حين توهمك بأنك تملك كل شيء.
ربما لذلك يؤمن صبحي شحاتة بمقولة المفكر الفرنسي جيل دولوز الأثيرة: «إن الفعل البشري (فعل الوجود) نصفه للقدر ونصفه للإنسان وفطنته». بل بوعي ضمني من دولوز أحد عشاق نيتشه ومنتقديه، جعل صبحي من حرية الاختلاف والدفاع عنها، حجر الزاوية لفضاء رؤيته في هذه الرواية، هذه الحرية التي شكلت محوراً مهماً في أفكار دولوز وفلسفته، فأن تكتب معنى ذلك أنك تبدع شيئاً، أو على الأقل تحس أن لديك جديداً ينبع من داخلك ويميزك عن الآخرين، حتى تحت وطأة الحيرة والإحساس باللايقين، اللاخصوصية، اللامبالاة، والفوضى إلى حد العدم، والشك حتى في وجودك نفسه.
بدافع من هذا الوعي الضمني يبرز محور دال ومركزي في هذه الرواية، وهو الوجود البديل للأصل. فجوهر الحياة يكمن في كونها وجوداً متغيراً، بالضرورة، قابلاً للعيش بطرق وبدائل متعددة، كما أن هذا الجوهر الثابت المتغير معرض للضمور والذبول والموات، ما لم تتوفر بدائل وأشكال من الممارسة، تمنحه القدرة على التغيير، والانطلاق من نقطة الثبات إلى الحركة، والعكس أيضاً.
في لعبة الحب، كما في الرواية، يفرض الوجود البديل التقمصَ ليس كقناع للاختباء، وإنما محاولة لاكتساب حيوات وصفات وملامح ورتوش جديدة تجعل من فعل التقمص نفسه عابراً للزمان والمكان، صانعة نوعاً من التماهي، ولو بالوهم، بين الوجود بالفعل الأصلي المتروك، وبين الوجود الجديد المكتسب بالقوة، فالتقمص حلقة وصل وفصل بينهما، في الوقت نفسه... وفنياً يوفر التقمص للكاتب غطاءً سردياً، ليكون خارج نصه وداخله أيضاً، ما يمنح شخوصه قدراً من الاستقلالية والاختلاف، فلا يخلط بين صوته وأصواتها ولا بين أحلامه وأحلامها، محتفظاً بهويته الفنية، وممسكاً بخيوط وزاويا اللعبة، يحركها من خلف فعل القص، كصانع ومخرج لها، حتى وهو يروي عنها أو يحكي بلسان أبطالها، أو يشتبك معهم فكرياً ونفسياً، أو حين يتم تبديل دفة الضمائر لكسر تقنية المخاطب الغالبة على نسق السرد، وتنويعها، لتداخل الضمائر في نسيجها الضمائر، وتتقلب ما بين الأنا المتكلم الحاضر والغائب، والمفرد والجمع. لا يهدف الكاتب من وراء كل هذا لإبراز مهارته الفنية فحسب، بل ليضفي على الوجود البديل شرعية وواقعية، ويقنعنا بصدقية ما يحدث بالفعل.
يجسد «المانيكان» الشاب بطل الرواية ابن الحارة الشعبية الفقيرة نمط الوجود البديل للأصل، الذي يجسده الشاب الثري ابن الملياردير الوزير، صاحب النفوذ والجاه والسلطة، وتكشف الرواية عن مفارقات شاسعة ونقاط مشتركة بينهما في النظر إلى الحياة والوجود، فثمة حالة من الوجود بالتضايف، بين طرفين نقيضين، أحدهما يمثل نعيم السفح حيث الرفاهية والقوة وسطوة المال، والآخر يمثل حضيض السطح، حيث العدم والخواء، لكن في اللعبة وعلى السطح، توحدهما لحظات من اللهو والدعة العابرة الهشة، فكلاهما يضمر إعجاباً بالآخر، ويتعامل معه أحياناً كقرين، يمثل البعد عنه خسارة فادحة للطرفين وتهديداً لوجوده.
يعزز ذلك ثقافة «المانيكان» وحبه للرقص والفن، ورؤيته العدمية للوجود، التي تنعكس على كتاباته الروائية والقصصية حبيسة الإدراج، لكنها مع ذلك تجذب الشاب الثري «المحفظة»، وتجعله يلتصق به كظله.
يعلق الشاب «المانيكان» على ذلك في مشهد نافذ الدلالة بعد أن اجتاز ببراعة، وللمرة الثالثة، عملية اختيار الملابس لصديقه الشاب «المحفظة» (كناية عن الثراء الفحش) من محل فخيم بالمول، معرياً جسده ببراءة وتلقائية للفتيات الجميلات العاملات، حتى أنه يرقص مع إحداهن، بعد أن يلاحظ انجذابها الشديد إليه، وكأنها تعرفه، بل كأن سراً ما بينهما يجهله، لكنه يسري في دمه... يقول «المانيكان» مسائلاً نفسه في نجوى داخلية موجعة ص (35 و36): «تتجول قفزاً بلا هدف كعفريت في مغارته حقاً، والملابس تترى على جسدك بكل الأشكال والألوان والصور، هل هذه الصور تحاكي صاحبك فيك، أم مجرد مجاز لصاحبك، أم العكس، هو مجاز لك بفلوسه، وأنت من تختار له القناع المناسب، تفرض عليه ذوقك».
بهذه الروح والنزوع الفردي الجواني ينمي الكاتب خيوط لعبته، ويشدها درامياً إلى مصائر ومسارات إنسانية تتشكل في أطر محددة ومرسومة بعناية وذكاء أدبي لافتين... فيكتشف أن فتاة المول «دنيا» الجميلة الناضجة، المسكونة بأسطورة إيزيس وأوزوريس، التي راقصها وأطلقت زعرودة مدوية في المول ابتهاجاً بوصولها أخيراً إلى حبيبها وفتى أحلامها، يكتشف أنها تعرف حقيقته كـ«مانيكان» مأجور، مجرد بديل وظل لصديقه الشاب «المحفظة» الثري، يؤدي دوره بشكل عارض متقمصاً شخصيته وذوقه في اختيار الملابس، وأنها تجاوره في السكن بالحي الشعبي، وشاهدته وهو نائم شبه عار في سريرة القذر وحجرته الأكثر قذارة فوق سطح البيت بجوار عشش الفراخ ومناشر الغسيل، وأن رجولته فتنتها، وشغفتْ بجسده الفرعوني الأسمر الفاره، وأنها كذلك تزور أخته المسنة التي أخنى عليها الدهر، بعد أن فاتها قطار الزواج ولم تجد الحبيب المأمول، وتعيش وجوداً متخيلاً مع زوج وابنة متخيلين، اسمها «دنيا» أيضاً. ينمي الراوي الكاتب لعبته وولعه بالعيش في حياة متخيلة، في ظل الوجود البديل، فيشيع عن غزو شباب الأثرياء من أبناء الطبقة الراقية للأحياء الشعبية، يجلسون على المقاهي الرثة، يتأملون الفتيات الفقيرات بملابسهن المهلهلة المتسخة ووجوههن المسحوقة تحت رحى الفقر والحرمان بحثاً عن شغف الحب، في فطريته الخام الملوثة القذرة، مطلقين جواسيسهم وحراسهم، في الحارات والأزقة يبحثون عن فتاة واقعة في حب مستحيل مع فتى فقير، لا يقدر على الزواج ومتطلبات الحياة الزوجية، وفي اللحظة المناسبة التي يعجز عنها الفني الفقير، يتقدم الشاب الثري لخطبتها والزواج منها. ولا تجد أسرة الفتاة سوى الإذعان، بل الابتهاج أمام محفظته المنتفخة بالأموال التي لا تنتهي، وفي الوقت الذي لا يجد الفتي العاشق الفقير سوى الوقوف على حافة النيل مفكراً في الانتحار، تلتقطه امرأة ثرية بعربتها الفارهة، وتضمه إلى أحضانها كزوج وعاشق، ليصبح الوجود البديل وجوداً مرناً يتحرك في مسارات حية متقاطعة، فهو يوماً لك ويوماً عليك. إنه زمن عابر تختلط فيه القمة بالقاع ويصبحان قناعاً للعبة فارغة مشدودة دائماً إلى النواة الأصل، بذرة الحكاية ووهجها العفوي الفطري، المسكون بلهفة البدايات، وشهوة اللمسة الأولى.
يطالعنا ذلك على نحو سافر في قصة الفتاة الكاتبة المنتحلة الفقيرة صاحبة مكتبة في حي شعبي، الذي يمثل معها «المانيكان» لمدة يوم واحد دور الحبيب المولع بحبها، الذي يطاردها كظلها، فتأخذه في جولة بالحي الشعبي ليراه الناس، ثم يذهب معها إلى ندوة أدبية لمناقشة قصتها المسروقة منه، ويكيل لها أقصى أنواع النقد... حينئذ يهرع «محفظة» من الأثرياء إلى قطع الطريق عليه، ويقتنصها زوجة له، بفعل إغراءات العز والثروة... تنتشر اللعبة ويصبح لها سوقاً، بل شركات خاصة ممولة عالمياً ومحلياً، للاستثمار في الحب من جنة الفقراء القذرة منبعه الأصلي، على أسس علمية ودعائية جذابة. كما تنهض جماعات ثورية معارضة من شباب الفقراء لمقاومة هذه الغزو الشرس من طبقة الأثرياء الملاعين لحياتهم الكادحة الفقيرة.
تبلغ لعبة «دنيا» ذروتها، حين يخطبها حبيبها العاشق «المانيكان» من أهلها، مفجراً صراعاً محموماً مع صديقه «المحفظة» الثري، الذي يرى أنها أحبته هو في شخصيته التي تقمصها «المانيكان»، وأنه الأولى بها، من هذا العدمي الفقير الذي لا يملك شيئاً، ويعيش عالة عليه. تحت الضغط والتهديد والإغراء بالمال يقنع «المانيكان» صاحب الوجود الرمزي المتخيل حبيبته دنيا بالزواج من صديقه الثري، وأنه لا مناص من ذلك، ضارباً بحبها وكل توسلاتها وبكائها المرير عرض الحائط.
يتحول عرس دنيا الأسطوري بالمول إلى ما يشبه ثورة جياع وفوضى عارمة على يدي أبناء الحي، الذين يعيدون دنيا لحبيبها «المانيكان». ورغم هذا يبقى سؤال المهم في هذه الرواية: إذن... ما الحب، حين نجرده من فكرة الإرادة الحرة الخلاقة للحياة... هل نحن أمام سارد حكاء، أراد أن ينتقم من الحب، باسم الحب نفسه، وهل الفقراء هم طينة الحب وعجينته البكر النقية المشتهاة، وهل الأغنياء لا يستطيعون أن يمارسوه بشغف داخل طبقتهم...


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.