الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

صبحي شحاتة يقدم رواية حمالة أوجه وأقنعة

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء
TT

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

يهدي صبحي شحاتة روايته «الحب»، الصادرة حديثاً عن دار «بدائل» بالقاهرة، إلى أم كلثوم «ثومة»، مسلطاً الضوء على هذا الكائن الخرافي منذ لحظة ميلاده وحتى أفوله، وفي لعبة سردية شيقة، تختلط فيها الفانتازيا بالسخرية، الفكاهة بالخرافة والأسطورة، الدعابة بروح المرح والتنكيت.
وتبرز المخيلة الشعبية في بداهتها الخام، كعين أخرى، تراقب وتعلِّق على المشاهد والحالات، من خلال أغاني الحب الشهيرة، والحكم والأمثال الشعبية والأشعار التي تتغنى بالحب، وتتقاطع مع فصول الرواية، كأنها تلخيص لما آلت إليه مصائر الشخوص وحكايتها داخل اللعبة وخارجها أيضاً.
رواية حمالة أوجه وأقنعة، تخفي تحت قشرتها دهاءً أدبياً، تعززه ثقافة واسعة ولغة سلسة مغوية، معجونة بطينة الواقع ومفارقاته، وتملك الذات الساردة قدرة فائقة على وصف الأشياء والوقائع والأحداث والنفاذ إلى ما وراءها، في لعبة لا توازن فيها عاطفياً وإنسانياً، بين الغني والفقر، الحب والكره، الحرمان والشبع، الأصل والقناع... وغيرها من المفارقات التي توسع دائرة الأضداد في مسيرة بشر يعيشون تحت سقف حياة عارية، إلا من الرغبة في الحب والشغف به كطوق نجاة من الفقر والجوع، بل من مباغتات القدر وتطوحات النفس البشرية، حين توهمك بأنك تملك كل شيء.
ربما لذلك يؤمن صبحي شحاتة بمقولة المفكر الفرنسي جيل دولوز الأثيرة: «إن الفعل البشري (فعل الوجود) نصفه للقدر ونصفه للإنسان وفطنته». بل بوعي ضمني من دولوز أحد عشاق نيتشه ومنتقديه، جعل صبحي من حرية الاختلاف والدفاع عنها، حجر الزاوية لفضاء رؤيته في هذه الرواية، هذه الحرية التي شكلت محوراً مهماً في أفكار دولوز وفلسفته، فأن تكتب معنى ذلك أنك تبدع شيئاً، أو على الأقل تحس أن لديك جديداً ينبع من داخلك ويميزك عن الآخرين، حتى تحت وطأة الحيرة والإحساس باللايقين، اللاخصوصية، اللامبالاة، والفوضى إلى حد العدم، والشك حتى في وجودك نفسه.
بدافع من هذا الوعي الضمني يبرز محور دال ومركزي في هذه الرواية، وهو الوجود البديل للأصل. فجوهر الحياة يكمن في كونها وجوداً متغيراً، بالضرورة، قابلاً للعيش بطرق وبدائل متعددة، كما أن هذا الجوهر الثابت المتغير معرض للضمور والذبول والموات، ما لم تتوفر بدائل وأشكال من الممارسة، تمنحه القدرة على التغيير، والانطلاق من نقطة الثبات إلى الحركة، والعكس أيضاً.
في لعبة الحب، كما في الرواية، يفرض الوجود البديل التقمصَ ليس كقناع للاختباء، وإنما محاولة لاكتساب حيوات وصفات وملامح ورتوش جديدة تجعل من فعل التقمص نفسه عابراً للزمان والمكان، صانعة نوعاً من التماهي، ولو بالوهم، بين الوجود بالفعل الأصلي المتروك، وبين الوجود الجديد المكتسب بالقوة، فالتقمص حلقة وصل وفصل بينهما، في الوقت نفسه... وفنياً يوفر التقمص للكاتب غطاءً سردياً، ليكون خارج نصه وداخله أيضاً، ما يمنح شخوصه قدراً من الاستقلالية والاختلاف، فلا يخلط بين صوته وأصواتها ولا بين أحلامه وأحلامها، محتفظاً بهويته الفنية، وممسكاً بخيوط وزاويا اللعبة، يحركها من خلف فعل القص، كصانع ومخرج لها، حتى وهو يروي عنها أو يحكي بلسان أبطالها، أو يشتبك معهم فكرياً ونفسياً، أو حين يتم تبديل دفة الضمائر لكسر تقنية المخاطب الغالبة على نسق السرد، وتنويعها، لتداخل الضمائر في نسيجها الضمائر، وتتقلب ما بين الأنا المتكلم الحاضر والغائب، والمفرد والجمع. لا يهدف الكاتب من وراء كل هذا لإبراز مهارته الفنية فحسب، بل ليضفي على الوجود البديل شرعية وواقعية، ويقنعنا بصدقية ما يحدث بالفعل.
يجسد «المانيكان» الشاب بطل الرواية ابن الحارة الشعبية الفقيرة نمط الوجود البديل للأصل، الذي يجسده الشاب الثري ابن الملياردير الوزير، صاحب النفوذ والجاه والسلطة، وتكشف الرواية عن مفارقات شاسعة ونقاط مشتركة بينهما في النظر إلى الحياة والوجود، فثمة حالة من الوجود بالتضايف، بين طرفين نقيضين، أحدهما يمثل نعيم السفح حيث الرفاهية والقوة وسطوة المال، والآخر يمثل حضيض السطح، حيث العدم والخواء، لكن في اللعبة وعلى السطح، توحدهما لحظات من اللهو والدعة العابرة الهشة، فكلاهما يضمر إعجاباً بالآخر، ويتعامل معه أحياناً كقرين، يمثل البعد عنه خسارة فادحة للطرفين وتهديداً لوجوده.
يعزز ذلك ثقافة «المانيكان» وحبه للرقص والفن، ورؤيته العدمية للوجود، التي تنعكس على كتاباته الروائية والقصصية حبيسة الإدراج، لكنها مع ذلك تجذب الشاب الثري «المحفظة»، وتجعله يلتصق به كظله.
يعلق الشاب «المانيكان» على ذلك في مشهد نافذ الدلالة بعد أن اجتاز ببراعة، وللمرة الثالثة، عملية اختيار الملابس لصديقه الشاب «المحفظة» (كناية عن الثراء الفحش) من محل فخيم بالمول، معرياً جسده ببراءة وتلقائية للفتيات الجميلات العاملات، حتى أنه يرقص مع إحداهن، بعد أن يلاحظ انجذابها الشديد إليه، وكأنها تعرفه، بل كأن سراً ما بينهما يجهله، لكنه يسري في دمه... يقول «المانيكان» مسائلاً نفسه في نجوى داخلية موجعة ص (35 و36): «تتجول قفزاً بلا هدف كعفريت في مغارته حقاً، والملابس تترى على جسدك بكل الأشكال والألوان والصور، هل هذه الصور تحاكي صاحبك فيك، أم مجرد مجاز لصاحبك، أم العكس، هو مجاز لك بفلوسه، وأنت من تختار له القناع المناسب، تفرض عليه ذوقك».
بهذه الروح والنزوع الفردي الجواني ينمي الكاتب خيوط لعبته، ويشدها درامياً إلى مصائر ومسارات إنسانية تتشكل في أطر محددة ومرسومة بعناية وذكاء أدبي لافتين... فيكتشف أن فتاة المول «دنيا» الجميلة الناضجة، المسكونة بأسطورة إيزيس وأوزوريس، التي راقصها وأطلقت زعرودة مدوية في المول ابتهاجاً بوصولها أخيراً إلى حبيبها وفتى أحلامها، يكتشف أنها تعرف حقيقته كـ«مانيكان» مأجور، مجرد بديل وظل لصديقه الشاب «المحفظة» الثري، يؤدي دوره بشكل عارض متقمصاً شخصيته وذوقه في اختيار الملابس، وأنها تجاوره في السكن بالحي الشعبي، وشاهدته وهو نائم شبه عار في سريرة القذر وحجرته الأكثر قذارة فوق سطح البيت بجوار عشش الفراخ ومناشر الغسيل، وأن رجولته فتنتها، وشغفتْ بجسده الفرعوني الأسمر الفاره، وأنها كذلك تزور أخته المسنة التي أخنى عليها الدهر، بعد أن فاتها قطار الزواج ولم تجد الحبيب المأمول، وتعيش وجوداً متخيلاً مع زوج وابنة متخيلين، اسمها «دنيا» أيضاً. ينمي الراوي الكاتب لعبته وولعه بالعيش في حياة متخيلة، في ظل الوجود البديل، فيشيع عن غزو شباب الأثرياء من أبناء الطبقة الراقية للأحياء الشعبية، يجلسون على المقاهي الرثة، يتأملون الفتيات الفقيرات بملابسهن المهلهلة المتسخة ووجوههن المسحوقة تحت رحى الفقر والحرمان بحثاً عن شغف الحب، في فطريته الخام الملوثة القذرة، مطلقين جواسيسهم وحراسهم، في الحارات والأزقة يبحثون عن فتاة واقعة في حب مستحيل مع فتى فقير، لا يقدر على الزواج ومتطلبات الحياة الزوجية، وفي اللحظة المناسبة التي يعجز عنها الفني الفقير، يتقدم الشاب الثري لخطبتها والزواج منها. ولا تجد أسرة الفتاة سوى الإذعان، بل الابتهاج أمام محفظته المنتفخة بالأموال التي لا تنتهي، وفي الوقت الذي لا يجد الفتي العاشق الفقير سوى الوقوف على حافة النيل مفكراً في الانتحار، تلتقطه امرأة ثرية بعربتها الفارهة، وتضمه إلى أحضانها كزوج وعاشق، ليصبح الوجود البديل وجوداً مرناً يتحرك في مسارات حية متقاطعة، فهو يوماً لك ويوماً عليك. إنه زمن عابر تختلط فيه القمة بالقاع ويصبحان قناعاً للعبة فارغة مشدودة دائماً إلى النواة الأصل، بذرة الحكاية ووهجها العفوي الفطري، المسكون بلهفة البدايات، وشهوة اللمسة الأولى.
يطالعنا ذلك على نحو سافر في قصة الفتاة الكاتبة المنتحلة الفقيرة صاحبة مكتبة في حي شعبي، الذي يمثل معها «المانيكان» لمدة يوم واحد دور الحبيب المولع بحبها، الذي يطاردها كظلها، فتأخذه في جولة بالحي الشعبي ليراه الناس، ثم يذهب معها إلى ندوة أدبية لمناقشة قصتها المسروقة منه، ويكيل لها أقصى أنواع النقد... حينئذ يهرع «محفظة» من الأثرياء إلى قطع الطريق عليه، ويقتنصها زوجة له، بفعل إغراءات العز والثروة... تنتشر اللعبة ويصبح لها سوقاً، بل شركات خاصة ممولة عالمياً ومحلياً، للاستثمار في الحب من جنة الفقراء القذرة منبعه الأصلي، على أسس علمية ودعائية جذابة. كما تنهض جماعات ثورية معارضة من شباب الفقراء لمقاومة هذه الغزو الشرس من طبقة الأثرياء الملاعين لحياتهم الكادحة الفقيرة.
تبلغ لعبة «دنيا» ذروتها، حين يخطبها حبيبها العاشق «المانيكان» من أهلها، مفجراً صراعاً محموماً مع صديقه «المحفظة» الثري، الذي يرى أنها أحبته هو في شخصيته التي تقمصها «المانيكان»، وأنه الأولى بها، من هذا العدمي الفقير الذي لا يملك شيئاً، ويعيش عالة عليه. تحت الضغط والتهديد والإغراء بالمال يقنع «المانيكان» صاحب الوجود الرمزي المتخيل حبيبته دنيا بالزواج من صديقه الثري، وأنه لا مناص من ذلك، ضارباً بحبها وكل توسلاتها وبكائها المرير عرض الحائط.
يتحول عرس دنيا الأسطوري بالمول إلى ما يشبه ثورة جياع وفوضى عارمة على يدي أبناء الحي، الذين يعيدون دنيا لحبيبها «المانيكان». ورغم هذا يبقى سؤال المهم في هذه الرواية: إذن... ما الحب، حين نجرده من فكرة الإرادة الحرة الخلاقة للحياة... هل نحن أمام سارد حكاء، أراد أن ينتقم من الحب، باسم الحب نفسه، وهل الفقراء هم طينة الحب وعجينته البكر النقية المشتهاة، وهل الأغنياء لا يستطيعون أن يمارسوه بشغف داخل طبقتهم...


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.