سينما إيستوود الجديدة تدافع عن الأقليات وتنتقد «السيستم»

فيلمه الأخير استدارة كاملة

إيستوود في «البغل»
إيستوود في «البغل»
TT

سينما إيستوود الجديدة تدافع عن الأقليات وتنتقد «السيستم»

إيستوود في «البغل»
إيستوود في «البغل»

ما زال النقد العربي، والكثير من الغربي، مقصّر حيال اعتبار كلينت إيستوود الفنان السينمائي الذي يوازي في مستوى أعماله معظم من صنع للسينما الأميركية مجدها في السابق. هو، فعلياً وعلى نحو بيّن، بمستوى جون هيوستون، وهوارد هوكس، وبيلي وايلدر، وجون فورد، وروبرت ألدريتش، وروبرت سيودماك، وسواهم.
في منظور عملي، هو أفضل من آخرين رقص الإعلام الغربي حول أعمالهم، ولا يزال، أمثال مايكل كورتيز، وإرنست لوبيتش، وفينسنت مينيللي، وجوف مانكوفيتز، وأوتو برمنجر، وجوزف فون ستروهايم.
يمكن الدخول في دروب وتصنيفات ومقارنات كثيرة، لكن - ومن دون محاولة تقليل شأن أي من المذكورين - لا أحد يستطيع أن يخرج أفلاماً باهرة في الشكل والمضمون مثل «رسائل من إيو جيما» و«ميستيك ريڤر» و«مليون دولار بايبي» و«الخارج عن القانون جوزي وايلز» و«ج. إدغار» و«غير المسامح» من دون أن يتساوى، على الأقل، مع أي من الأدمغة والمواهب السينمائية التي صفّق لها النقاد.
- خارج عن القانون
بعض السبب - عندنا على الأقل - خلط الماء بالكهرباء والنظر إلى مواقفه السياسية. بمثل هذه الرؤية، فإن الكثير مستعد لأن يحكم فنياً من خلال موقعه السياسي المناوئ لموقع إيستوود كما لو أن الناقد هو من يقرر كيف على المخرج أن يتبنى. إن لم يكن لهذا السبب، فلأن هناك نظرة قديمة متآكلة تكرر نفسها بأن هوليوود لا تصنع أفلاماً جيدة كالأوروبية أو الآسيوية. بعض الدرب هنا متصل بالسبب السابق، لكن لو قارنا بما حفلت به السينمات حول العالم لوجدنا أن نصف ما هو ثمين وجوهري في السينما تم صنعه في هوليوود. النصف الآخر من كل أنحاء العالم.
في فيلم إيستوود الأخير «البغل» أكثر من دلالة تؤيد حقيقة أنه أحد كبار فناني السينما في الأعوام الثلاثين الأخيرة على الأقل. يمكن أن نجد هذا الواقع في الكثير من أفلامه الأخرى، لكن «البغل» كونه آخر أعماله يكفي بحد ذاته كفرصة لمن يريد إعادة التفكير في سينما إيستوود قلباً وقالباً.
يؤدي دور عجوز في الثمانين ينظر حوله ليرى أن موقعه الاجتماعي المتصل بهويته الوطنية بصفته أميركياً أبيض تحرك من مكانه مثل أرض انزلقت من مكانها بفعل مطر شديد أو زلزال ما. وضعه المادي معدم وعلى حافة خسارته منزله لسداد ديونه.
حياته الخاصة لا تقل إحباطاً؛ فزوجته السابقة (دايان ويست) مريضة وهو لا يستطيع أن يحضر عيد ميلاد ابنته الشابة (أليسون إيستوود). هذه الحال ليست غريبة في السينما، لكنها ليست غريبة أيضاً في الحياة الأميركية العامة، والفيلم مأخوذ بتصرف عن قصة ذات أحداث حقيقية.
تحت هذا العبء يقبل القيام بدور موصل المخدرات التي توكل إليه. سيكون «البغل» (The Mule)، وهو الوصف الذي يشتهر به، منذ عقود، من يقوم بمثل هذه المهمة. إيرل ستون (إيستوود) سينقل البضاعة الممنوعة بسيارته من مدينة إل باسو (ولاية تكساس) إلى شيكاغو (ولاية إلينوي). هذه التجارة الممنوعة تمكنه من إعادة إصلاح وترتيب وضعه الاجتماعي: يحتفظ بمنزله ويتجاور وأفراد عائلته من جديد ويساعد زوجته السابقة في محنتها. هو يعلم - والمشاهدون كذلك - أن ما يقوم به غير قانوني، لكنه يعلم أن «السيستم» الأميركي تهاوى؛ لذلك هو في هذا الوضع.
بذلك ينتقد إيستوود النظام المتهاوي وما يجره من تبعات على شتى الصعد، ولو أنه يتعامل مع صعيد واحد هو المسؤولية العائلية والاقتصادية المباشرة. أكثر من ذلك ينتقد فشل القانون في ربح المعركة ضد المخدرات. هو لا يذهب صوب تقديم نماذج فاسدة (كحال أفلام بوليسية كثيرة) لكنه، وفي مشهد يحمل دلالات فائقة، يكشف عن عنصرية تحرك بعض رجال القانون. إنه ذلك المشهد الذي يوقف فيه أحد رجال البوليس سائقاً مصاحباً لإيستوود مرتاباً بأمره لمجرد أنه مكسيكي. الشرطي لن يصدّق كلمة واحدة للمكسيكي إذا نطق، لكن عندما يحادثه إيستوود الأبيض يصدقه.
فهم الدلالات لا يحتاج إلى مشاهد طويلة، أو لإبحار في المفاد الواحد كثيراً. ما يغيب عن بال الكثير منا أن السينما لغة يمكن لها أن تكون موجزة من دون أن تخسر معانيها، ومن دون أن تخسر إيحاءاتها. وإيستوود يملأ هذا الفيلم إيجازات ذات دلالات، من بينها أنه سيقوم بعمله مستقل الإرادة، وسيفهم لغة السود والمكسيكيين، ويعاملهم من دون مرجعية عنصرية.
لا يغيب عن إيستوود في هذا الفيلم، وضمن سياق لا يخشى أن يحمل رحيقاً من المرح، الكشف عن أوجاع مجتمع اتكل على الرجل لكي يعمل طوال عمره وعلى عصر تقدّم بعيداً عن متطلبات المجتمع قاضياً على الفردية الخاصة متجهاً بالجميع إلى طاحونة لا تفرّق بين الغالبية من الناس.
- سوء قراءة
هذا موقف مختلف تماماً عن موقف إيستوود في أفلامه السابقة، لكن من الخطأ القول إنه موقف جديد. هو تطوّر في الموقف الذي كان بدأ يتخذه منذ عقود. الدعوة إلى الصلح بين الأميركيين كافة في «الخارج عن القانون جوزي وايلز» (1976) لم يكن مجرد حكاية يمينية، بل حكاية يمينية بموقف مصالحة. هذا الموقف تطوّر كثيراً صوب الليبرالية ولو بحدود في «غير المسامَح» (1992) وفي «عالم متكامل» (1993) و«سلطة مطلقة» (1997)، حيث النقد يطول رئيس البيت الأبيض و«مستيك ريفر» (2003) و«مليون دولار بايبي» (2004).
«رايات آبائنا» (2006) جاء صارماً في تحيته للوطن والتاريخ الأميركي. لكن هذا أمر عادي من رجل وطني مخلص ويحب بلاده. رغم ذلك لم يبخس اليابانيين حقهم من البطولة في فيلمه الحربي التالي «رسائل من إيو جيما» (2006).
بعد عامين نجده بدأ يحفر قناة البحث عن الحقيقة أكثر مما كان فعل.
الفيلم هو «غران تورينو»، حيث لعب دور ذلك العجوز الذي يعيش وحيداً في منزل انتمى، ذات حين، لحي من الأميركيين البيض مثله. هذا قبل أن يتحوّل الحي إلى خليط من المهاجرين غير لون بشرته. المنتقد هنا هو العجوز الذي لم ينفتح على التغيير، بل نظر عنصرياً إليه. وهو في نهاية الفيلم يدرك خطأه قبل فوات الأوان.
حتى سيرة حياة اليميني المتعصب إدغار ج. هوڤر (رئيس الـ«إف بي آي» لعشرات السنين) لم تكن في «ج. إدغار» احتفاءً خالصاً، بل نقد لمنهج أحادي لحد الديكتاتورية. أما «أميركان سنايبر» (2015) فكان من تلك الأفلام التي لم يفهم الكثير من نقاد الشرق والغرب كيف ينظرون إليها. اعتبر معظمهم أن إيستوود يبارك القتل في العراق، بينما كان الواضح أن بطله (برادلي كوبر الذي يظهر في «البغل» أيضاً) كان فاقد الصواب، مشبعاً بالكراهية ومندفعاً للعنف والقتل منذ أن كان صغيراً تحت تعاليم أبيه المحافظ.


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
TT

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)

يُقيم «مهرجان القاهرة» الذي بدأ دورته الـ45 يوم أول من أمس، ندوة خاصة عن المخرج والمنتج مصطفى العقاد الذي كان رحل في مثل هذه الأيام ضحية عملية إرهابية في عمّان قبل 19 سنة.

مُخرج «الرسالة»، عن نشأة الإسلام، و«عمر المختار»، عن مناضل في سبيل استقلال بلاده، كانا، ولا يزالان، أكبر إنتاجين عربيين- عالميين عرفته السينما.

المناسبة تستحق الاهتمام أولاً لإعادة التّذكير بمخرج عربي اخترق الجدار الصّامت حول تاريخ العرب والإسلام في فيلميه «الرسالة» (1976)، و«أسد الصحراء» (1980). وثانياً، لأنه المخرج العربي الوحيد الذي نجح في تحويل أحداث تاريخية عربية إلى الشاشة بنظام 70 مللم بانافيجين كما أفلام البريطاني ديڤيد لين، وفي مقدّمتها «لورنس العرب» (1962) الذي جمع ممثلين عالميين (أنطوني كوين، وبيتر أو تول، وأليك غينس، وجاك هوكينز، وكلود رينز) إلى جانب عمر الشريف وجميل راتب من مصر.

بعد عرضه الخاص في «مهرجان القاهرة» سينطلق في عروض عربية عديدة في جدّة، والدوحة، ودبي، والقاهرة والسعي جارٍ لتوسيع الرقعة عربياً وعالمياً.

مصطفى العقاد يتوسط عبد الله غيث وأنطوني كوين خلال تصوير «الرسالة» (فالكون إنترناشيونال)

خبرات ومواهب

لم يكن سهلاً على الممثلين الذين ظهروا في فيلمي العقاد تسليمَ مقادير مهنتهم آنذاك لمخرج عربي غير معروف، كلّ ما كان لديه لتقديمه - لجانب طموحه - أنه اشتغل مساعد إنتاج وإخراج في بعض المحطات التلفزيونية الأميركية. لكن العقاد فاز بالثقة سريعاً مع احتمال أن يكون الموضوعان المثاران في هذين الفيلمين عنصرَي جذب إضافي. الأول دار حول رسالةٍ (عن الدين الإسلامي) لم يتعرّف عليها الغرب في فيلم سابق، بل بقيت مودوعة في دراسات أكاديمية وكتب. الثاني ثورة ليبية ضدّ الاستعمار الإيطالي صاغها العقاد بعناية وتوازن. وراعى فيه جودة التقديم أيضاً.

«الرسالة» تم بنسختين منفصلتين واحدة عربية أمّ تمثيلها بعض أفضل الخبرات المصرية والمغاربية والسورية واللبنانية، وواحدة بالإنجليزية وكلاهما كانا نجاح عمل مدروس رغم صعوبة تنفيذه.

الفيلم الثاني حكى أن هناك ثورات أخرى وقعت خلال احتلال أجزاءٍ من العالم العربي وأن الموت الجماعي حاذى سواه ممّا حول العالم.

ما إن وقّع أنطوني كوين وإيرين باباس على العقد المبرم لهما، حتى تداعى الآخرون أمثال مايكل أنسَارا وداميان تومس ومايكل فورست.

لاحقاً، عندما خرج «الرسالة» إلى عروض عالمية شملت بلداناً عربية وغربية عديدة، حتى صار من الأسهل جذب نجوم آخرين تقدَّمهم، مرّة ثانية، أنطوني كوين في دور عمر المختار. حينها قال كوين لهذا الناقد في مقابلة: «لم أكن أعرف شيئاً عن التاريخ العربي. العقاد فتح عينيّ على هذا التاريخ المجهول بفيلميه، وبرؤية ثاقبة، وكيفية إنتاج مناسب لفيلم تاريخي كبير. بصفتي ممثلاً أرى أن كلّ شيء كان في مكانه الصحيح».

«المسألة الكبرى» (المؤسسة العامة للسينما والمسرح)

محاولات غير مجزية

لا يمكن إغفال حقيقة أن الأفلام التاريخية - الدينية العربية كان لها حضور سابق لـ«الرسالة». نتحدّث عن «واإسلاماه» للأميركي أندرو مارتون الذي أُنتج في مصر سنة 1961 وخاض بطولته كلٌ من لبنى عبد العزيز (في دور شجرة الدر)، وأحمد مظهر ورشدي أباظة ويوسف وهبي ومحمود المليجي وكاريوكا وعماد حمدي وفريد شوقي.

قبله بعشر سنوات أقدم إبراهيم عز الدين على تحقيق «ظهور الإسلام» بإمكانات محدودة مع كوكا وعماد حمدي وأحمد مظهر وسراج منير بين آخرين. ثم بعد 10 سنوات على ظهور «واإسلاماه» أنجز صلاح أبو سيف «فجر الإسلام». الذي استفاد من خبرة أبو سيف ولو أنه في النهاية بقي إنتاجاً محلياً للسوق العربية.

هناك أيضاً «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين (1963)، الذي وظّف فيه المخرج أفضل طاقاته وطواقمه ما ساهم، بجانب اسمه المعروف، في انضمام هذا الفيلم إلى باقي ما ذُكر في عالمٍ عربيٍّ كان يتطلّع إلى مثل هذه الأفلام الترويجية لموضوعاتها باهتمام كبير يناسب كل ذلك الجهد الذي شهدته هذه الأعمال.

أدركت السينما العراقية أن هناك طريقاً لإنتاجات تصبو للعالمية بموازين ونُظم إنتاج برهن العقاد أنها ممكنة. في هذا الصّدد حقّق المخرج صلاح أبو سيف «القادسية» في عام 1981 بطلب من الحكومة خلال الحرب العراقية الإيرانية. الفيلم جاء كبير الإنتاج كما أُريد له أن يكون، ركيكاً في نواحيه الفنية، ودعائياً فيما تبقى.

مؤسسة السينما العراقية التي أنتجته كانت التفتت سنة 1980 إلى المخرج المصري الآخر توفيق صالح، وأصرّت على أن يُنجِز «الأيام الطويلة»، الذي عاد إلى تاريخٍ أقرب ليسرد جزءاً من سيرة حياة الراحل صدّام حسين.

في عام 1983 حقّق العراقي محمد شكري جميل «المسألة الكبرى» (1983) عن ثورة العراقيين ضد الاحتلال البريطاني. جلب المخرج مدير التصوير جاك هيلديارد، الذي كان عمل مع العقاد على فيلميه، والممثل أوليڤر ريد الذي كان اشترك في بطولة «أسد الصحراء»، لكن هذه الأفلام بقيت محدودة الانتشار ولم تتجاوز حدود العرض في بعض الدول العربية.

ما حدّ من انتشار هذه الأفلام عالمياً هو معضلة إنتاجات عربية كثيرة حينها، هي سطو «القضية» على المعالجة الفنية، هذا إلى جانب أن العقاد فَهِم وهضم قواعد الإنتاجات العالمية أكثر من سواه.