سوريا... من «داعش» إلى «حراس الدين»

مساعٍ لاستقطاب المقاتلين القدامى

صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

سوريا... من «داعش» إلى «حراس الدين»

صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)

أثارت تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن بلاده هزمت تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، تساؤلات حول مستقبل الاستقرار الأمني فيها. لا سيما أن المجتمع السوري ما زال تحت عبء أعداد كبيرة من التنظيمات الأصولية المتشددة، والتي تتعاقب في مدى تسلمها لزمام الأمور، ما بين من يصبح أكثر تأثيراً، ومن يخفت وهجه من هذه التنظيمات المتطرفة.

إذا ما كان قرار انسحاب القوات الأميركية من سوريا نتيجة سقوط الأماكن التي كانت تحت نفوذ التنظيم الداعشي؛ إلا أن ذلك لا يدل على اختفاء وجودهم في الفضاء السوري، وينعكس ذلك من خلال الهجوم الانتحاري الأخير الذي تعرضت له مدينة منبج في شمال سوريا، والذي أسفر عن 19 ضحية بينهم أربعة أميركيين. وذكرت وكالة «أعماق» الذراع الإعلامية لـ«داعش» إقرار التنظيم بأن مقاتلاً ينتمي إليه قام بتفجير سترته الناسفة مستهدفاً دورية لقوات التحالف.
وفي ذلك استدلال على أن التنظيم استغل مناسبة الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية لإثبات وجوده، مما يخالف ما صرح به الرئيس الأميركي، وتأكيد أن «داعش» لا يزال صامداً قادراً على الاستمرار. وذكر السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، أن تصريحات ترمب بخصوص قرار الانسحاب من سوريا أدت إلى إثارة الحماسة لدى «داعش» أو إعادة الأمل لديه بقدرته على معاودة النهوض. بينما من الممكن أن يتم فهم قرار الانسحاب الأميركي استسلاماً.

هجمات عشوائية

من جهة أخرى يعطي الفرصة لأطراف دولية أخرى للتدخل بشكل أقوى مثل إيران... وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية تؤكد استمرار نهجها في سوريا والضربات الجوية في المنطقة والعمل مع الشركاء في التحالف من أجل هزيمة «داعش»؛ إلا أن على الحلفاء «تحمل مسؤوليات جديدة».
وقد أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، من جهته، خلال خطابه الذي ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة: «ما زلنا ملتزمين بالتفكيك الكامل لتهديد (داعش) والمعركة المستمرة ضد الإسلام الراديكالي بكل أشكاله»... وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد تم أخيراً إجلاء ما يصل إلى 2200 شخص من ضمنهم 180 مقاتلاً ينتمون إلى «داعش» من آخر معقل للتنظيم، والذي كان تحت سيطرته في عام 2014. وعلى الرغم من تبعثر التنظيم الداعشي وتفككه؛ فإن أعضاءه لا يزالون موجودين في المناطق الحدودية، ويمارسون هجمات عشوائية تتخذ من نهج حرب العصابات مسلكاً لها والإتيان بهجمات عشوائية مثل ما حدث في هجوم منبج.
فيما يثير انسحاب القوات الأميركية حيال كيفية التعامل مع الأعداد الكبيرة، المقاتلين المنتمين إلى «داعش» الموجودين في السجون السورية، بالأخص في ظل عدم وجود إمكانيات كفيلة بالتعامل معهم، ومن ضمنهم العديد من المقاتلين الأجانب ممن ترفض دولهم استقبالهم خوفاً من تأثيرهم على مواطنيهم، سواء عبر بث الآيديولوجية المتطرفة أم من خلال شن هجمات إرهابية.
داعشيون آخرون سعوا للانتقال خارج سوريا إلى صحراء العراق بالقرب من منطقة الأنبار، وكجزء أكبر من استراتيجية التنظيم، يظهر الاهتمام في إيجاد مناطق نفوذ جديدة مثل ليبيا وأفغانستان وحتى الصومال ودول أخرى... الأمر الذي يلقي الضوء على ضرورة اجتثاث الفكر الآيديولوجي المتطرف مثل ذلك الذي ينشره «داعش» من أجل إيقاف قدرته على التغلغل إلى المتعاطفين، أو أولئك الذين لديهم قابلية للتطرف والأدلجة. فمدى خطورة التنظيم الداعشي يتجلى قدرته على إقناع أعضائه بتكفير حتى المسلمين وقتلهم، على اعتبار أنه التنظيم الأكثر تشدداً وشيطنة للآخرين منذ بدء أنشطته في العراق عام 2014، إذ نشأ مؤجِّجاً للطائفية مما يزيد من الاضطراب في المنطقة. إلا أن «داعش» في الآونة الأخيرة يواجه تقهقراً إعلامياً إذا ما قورن بفترة انتعاشته في بداية عهده، وذلك نتيجة لتحالف العالم من أجل الحد من قدرته على التأثير وحجب وتعطيل أنشطته وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.

ندم واعتذار

من جهة أخرى ظهر عبر وسائل الإعلام التقليدية العديد من اللقاءات مع مقاتلين سابقين انتموا إلى التنظيم وتراجعوا عنه على نسق أبو حذيفة الكندي في لقاء تلفزيوني وهو يحمل الجنسيتين الكندية والباكستانية، قال «إنه نادم على انضمامه إلى (داعش)، وقد جلس لمدة 5 أشهر في مدينة منبج السورية، وعاد إلى كندا»، وذكر أنه يعاني من كوابيس، وأنه على المواطنين الكنديين عدم القلق من المقاتلين السابقين مثله، فهم يرغبون فقط في نسيان ما حدث والمضي قدماً. بغض النظر عن مدى تقهقر الحراك الداعشي في سوريا؛ إلا أن ذلك لا يعني اقتراباً من الاستقرار الأمني أو التخلص من الجماعات المتطرفة فيها، إذ يُقدر عدد القتلى في سوريا نتيجة الهجمات الإرهابية بما يزيد على 34.853 وهي ليست نتاجاً من تنظيم داعش فحسب. ما يمكن توقعه هو أنه سيصبح هناك قلب لموازين التنظيمات، وترجيح كفة الميزان لصالح تنظيمات أصولية أخرى.
ويبدو ذلك جلياً في محافظة إدلب شمال غربي البلاد، والتي أصبحت ملاذاً لتنظيم القاعدة، وقد سعت «هيئة تحرير الشام»، وهي «جبهة النصرة» سابقاً للاستحواذ على المنطقة منذ أن أعلنت خروجها عن عباءة «القاعدة». بالأخص بعد أن تم الإعلان عن حدوث اتفاق بين تنظيم «هيئة تحرير الشام» والفصائل السورية الموالية لتركيا، الأمر الذي مكّنها من التخلص منها مثل «جبهة التحرير الوطنية»... وقد نشرت حسابات مرتبطة بجبهة النصرة صوراً تُظهر بنود اتفاق بخط اليد بتاريخ 10 يناير (كانون الثاني) الماضي، ما ينص على وقف إطلاق النار وتبادل الموقوفين إثر المعارك التي خاضها الطرفان أخيراً، وخروج القوات الكردية والأميركية من المنطقة.

حرب عصابات

ويظل توقُّع انقراض تنظيم متطرف على حساب آخَر أمراً شديد الصعوبة، لا سيما أن حرب العصابات تستلزم استسلاماً، وهو ما ترفض غالبية هذه التنظيمات القيام به، والاستعاضة عن ذلك بالركون، حتى يتم الحصول على فرص تمكنها من النهوض من جديد.
ففي الوقت الذي سحب فيه «داعش» البساط من «القاعدة» منذ 2014 في كلٍّ من الرقة والموصل والمدن الأخرى، نشهد أخيراً معاودة تنظيمات تابعة للقاعدة واستحواذها على مدن أخرى مثل إدلب، أو دول أخرى مثل اليمن، فيما نهض «داعش» وحاول احتلال جبال تورا بورا معقل أسامة بن لادن، من أجل وضع لوائه فيها وإثبات قوة وجوده. وبعد أن تمكن تنظيم القاعدة من سرقة الوهج الإعلامي لأي تنظيم آخر في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، إلا أن الحيثيات المتعلقة بالبروباغندا والحملات الدعائية للجماعات المتطرفة تغيرت، بعد أن أصبح العالم الإلكتروني هو القادر على الوصول إلى أكبر عدد من الأشخاص ليظفر تنظيم داعش بذلك الوهج.
الأمر الذي يصعب فيه أن يصل المحللون إلى وجود احتمال للتخلص نهائياً من التنظيمات المتطرفة لا سيما في المناطق المنهكة سياسياً وأمنياً والقابلة للسيطرة من قِبل الميليشيات والجماعات الإرهابية. بل لا يزال هناك احتمال ظهور تنظيمات جديدة في ما بعد نبعت جراء الوضع المستفحل في المنطقة نتيجة تعقيد الصراعات المنقسمة في سوريا، التي وقع ضحيةً لها أهالي سوريا نتيجة تفشي العنف والهجمات الإرهابية وإثارة الرعب في قلوبهم، والذي يحمل انعكاسات بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي في سوريا، بعد أن أصبح هناك تسييس للدين من خلال الميليشيات المتطرفة وظهور الطائفية من خلال توجهات المقاتلين المختلفة، والسعي نحو أدلجة المجتمع واستقطاب رجاله وشبانه وحتى صغاره.

مراكز دعوية

وقد ظهر العديد من المساعي من قبل التنظيمات المتطرفة من أجل التأثير على الأهالي السوريين، على نسق المراكز الدعوية التي تظهر أنشطتها إلكترونياً مثل «مركز دعاة الجهاد»، و«مركز دعاة التوحيد» الذي يقوم باستقطاب الشبان وتجنيدهم من خلال الحلقات الدينية والمعسكرات والحملات الدينية.
تنظيم آخر سعى لأدلجة السوريين هو تنظيم «حراس الدين» المتشدد الموالي لتنظيم القاعدة والمتمركز في جنوب شرقي محافظة إدلب، وقد تمكن من استقطاب مزيج من المقاتلين القدامى ممن كانوا منضمين لتنظيم القاعدة، إضافة إلى أعضاء منتمين إلى تنظيم داعش. ويظهر حرص التنظيم على التغلغل في المجتمع السوري من خلال ممارسة الضغوط حتى على الجامعات، مثل اقتحامه جامعة إدلب في ريف المدينة، التي قام بتهديدها بغلقها قسرياً في حال استمرت على نهج الاختلاط بين الجنسين، وهو التهديد نفسه الذي تعرضت له من «هيئة تحرير الشام»، الأمر الذي يدل على سعيهم لفرض التغيير في النسيج الاجتماعي والأنماط الحياتية المعيشة وخلق التشدد الديني... فالعديد من الحيثيات تؤكد ضرورة إعادة تهيئة المجتمع السوري في ما بعد، لتخليصه من أدلجة الدين وتسييسه من قبل المتطرفين وتأثر ووقوع ضحايا في أسر فكره، ليصبح ذلك جزءاً من الاستراتيجيات المدرجة في مرحلة ما بعد الصراع.


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟