«اللايف تشات»... رهان «داعش» للتواصل

لتعويض خسائره على «تويتر» و«تليغرام»

موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)
موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)
TT

«اللايف تشات»... رهان «داعش» للتواصل

موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)
موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)

رغم فقد «داعش» لصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر» و«تليغرام» و«فيسبوك»، فإنه بات يراهن على استخدام تطبيقات برامج «اللايف تشات» التي تتميز بخصائص التراسل الفوري، والقدرة على الانتشار كالقنوات، وإرسال الملفات، والبث الصوتي والمرئي، بصورة أكثر أماناً.
في حين قال باحثون وخبراء إن تنظيم داعش يهدف من التطبيقات الجديدة إلى تجنيد موالين جُدد، وتوجيه عناصره، والتوسع بعد انهياره وسقوط معاقله في سوريا والعراق وكثير من الدول، قلل الخبير الإعلامي الدكتور محمود الصاوي، وكيل كلية الإعلام بجامعة الأزهر، من صحة فرضية توسع التنظيم الإرهابي عبر التطبيقات الجديد، قائلاً: سقطت أقنعة «داعش» المتشدد، وصار كثيرون على قناعة بأنه صنيعة لا تستهدف الخير للمسلمين، بل جلب لهم كل شر ووباء، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «لا أعتقد أن (داعش) يكتسب أرضاً أو عقلاً جديداً، لكنه يستغل أوضاع الخراب والدمار في كثير من دول العالم، التي هو أحد أهم أسبابها، ويحاول أن يستغل ذلك في كسب أنصار من المغرر بهم، لكن هذا لن يحدث مع يقظة الدول.
يشار إلى أن المكافحة الإلكترونية التي شنتها إدارات «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، إضافة إلى هجمات القرصنة الإلكترونية لمواقع «داعش» التي أدت إلى انخفاض استخدام التنظيم بشكل كبير لمواقع التواصل الاجتماعي، ساعدت بشكل فعال في ترنح وسائل تواصل التنظيم خلال الأشهر الماضية، خصوصاً عقب هزائمه في سوريا والعراق.

ذئاب منفردة

في دراسة حديثة، أشارت دار الافتاء المصرية إلى أن «التنظيمات المتطرفة توسعت في استخدام شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، باعتبارها ملاذاً آمناً لبث أفكارهم المتطرفة، ولتنفيذ مشروعها الآيديولوجي».
الدراسة التي جاءت بعنوان «استراتيجيات وآيديولوجيات الجماعات الإرهابية في تجنيد الشباب عبر الإنترنت»، والتي أعدها مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، أكدت أن «شبكات ومواقع ومنصات التواصل الاجتماعي تمثل جامعة إلكترونية لإعداد وتجنيد (الذئاب المنفردة)، وأداة خصبة لنشر أفكارهم المتطرفة، حيث تقوم تلك التيارات بتصنيف مواقع التواصل وفق استخدامه المناسب».
وصنّفت دراسة الافتاء مواقع التواصل وفق استغلال «داعش»، حيث أكدت أن «فيسبوك» يساعد التنظيم في تجنيد «الذئاب المنفردة» بسهولة، عبر استدراج الشباب وتجنيدهم بطريقة غير مباشرة. أما «تويتر»، فيستخدم لنشر الأخبار الترويجية للأفكار المتطرفة، و«تليغرام» للمساهمة في نشر أدبيات التنظيم وكتاباته، وروابط تقاريره المصورة والمرئية، لترويج نجاحه المزيف في ساحات القتال، في حين يستغل التنظيم قنوات «اليوتيوب» لتمكين مشاركيه من تحميل الفيديوهات قبل الحذف، حيث إن نظام المراقبة الخاص بالموقع يتم بعد رفع الفيديوهات عليه.

منصة ترويج

قال عدد من الباحثين في مرصد الأزهر بالقاهرة إن الجبهة الإعلامية للتنظيم المتطرف، ونشاطه الدعائي عبر مختلف المنصات، كانت عاملاً في غاية الأهمية للترويج لفكره المتطرف منذ ظهور التنظيم، واستقطاب كثير من المقاتلين الأجانب، إذ لم يترك التنظيم وسيلة أو منصة يمكنه من خلالها الترويج لما يقوم به، أو محاولة ضم أتباع جدد، إلا استخدمها، لذلك فهو يحاول مرة أخرى العودة لهذه المنصات لتعويض الخسائر.
وأكد الباحثون لـ«الشرق الأوسط» أنه عقب إجبار سلطات الدول لمنصات التواصل على حذف المحتوى المتطرف، وحظر الحسابات التي تساعد في نشر هذا المحتوى، اتجه التنظيم إلى المنصات المشفرة مثل «تلغرام» لكي يضمن سلامة عناصره، الذين يواصلون نشر أفكارهم، لكنه تم حجب «تلغرام» أيضاً.
وعلقت «تويتر»، منذ يوليو (تموز) 2015 حتى يوليو 2016، ما لا يقل عن 360 ألف حساب. واستخدم «يوتيوب» تقنية «Jigsaw»، التي تعمل ضد التطرف والعنف والمضايقات عبر الإنترنت. فعندما يبحث أحد الأشخاص عن كلمات رئيسية معينة، يُوجه المستخدم لقائمة من مقاطع الفيديو التي تتضمن محتوى يعارض التطرف.

حظر المحتوى

وفي السياق ذاته، أكد مرصد الأزهر، في تقرير حديث له، أن جهوداً كثيرة بذلت في مجال حظر المحتوى المتطرف، والحسابات التي تنشر مثل هذه المحتوى، وقد أدى هذا بالفعل إلى تقليل حجم الوجود الإعلامي لجماعات التطرف على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية، وساعد في هذا أيضاً إنهاء سيطرة التنظيم المتطرف على مساحات واسعة، وبالتالي تقليل موارده، واضطراره إلى وقف إصدار كثير من المجلات التي اعتاد على نشرها شهرياً، وبكثير من اللغات.
وقال مرصد الأزهر: «برزت كثير من التحديات نتيجة هذا النهج الإعلامي للتنظيم المتطرف، حيث إنه مع تلقيه الهزائم، توجه بإعلامه إلى وجهة جديدة، ركز فيها على أتباعه الأجانب الذين لم يتمكنوا من الانضمام إليه في سوريا والعراق، وتركز النهج الجديد على حث هذه العناصر البعيدة عن مركز التنظيم على القيام بعمليات في محيطهم، مستخدمين ما يتاح لهم من مواد، ومحدثين أكبر عدد ممكن من الخسائر، وهو ما يطلق عليه عمليات (الذئاب المنفردة)، فضلاً عن دعوته لعناصره حول العالم للقيام بتصوير العمليات التي يقومون بها لكي يتم نشرها، باعتبار أن من قام بذلك هو (داعش)، ويعد هذا تحدياً كبيراً للأجهزة الأمنية التي لا يمكن لها في كثير من الأحيان التيقن من كون القائم بالعملية الإرهابية من المنتمين لـ(داعش) أم لا».

استقطاب الشباب

وعن استراتيجية «داعش» على منصات التواصل، أكد مرصد الأزهر في تقريره أنها انشغلت بالترويج لأفكاره، وإقناع الناس بها، والدفاع عن سمعته، إضافة إلى خلق صورة ذات تأثير مزدوج، قادرة على الجذب والإرهاب في الوقت ذاته، والمستهدف الأول هم الشباب الذين يسعى التنظيم إلى استقطابهم وضمهم إلى صفوفه القتالية، بجانب جذب مزيد من الأتباع. أما المستهدف الثاني، فهم عامة الجمهور ممن يهدف التنظيم إلى إثارة شعور واسع النطاق بالخوف وانعدام الأمن لديهم، فهذا دون شك يصب في مصلحة الدواعش أيضاً.
وأكد الدكتور الصاوي أنه لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي نتاج هذين العقدين الأخيرين، وتتزايد وتيرتها يوماً بعد يوم، وتستغلها الجماعات المتشددة بشكل كبير في نشر أفكارها وقناعاتها، وجلب الشباب إليها، لعلمهم بحالة الإدمان التي وصل إليها آلاف الشباب للإنترنت ومشتقاته، مضيفاً أن هذه الوسائل من النعم التي أنعم الله بها على البشرية، لكن هذه الجماعات بهذه المضامين المتشددة التي تشحن بها هذه الوسائل، وتملأ بها هذه التقنيات بكميات هائلة من الرسائل، تحدث بلبلة في العقول وتفتيتاً للصفوف وتشظياً في الأفكار والمفاهيم.
وقال المراقبون إن الدعاية الإعلامية لـ«داعش» على مواقع التواصل عملت على تحسين صورة التنظيم، وتبرير جرائمه الوحشية، وتصويره على أنه حامل لواء الخلافة المزعومة، لكن كل هذا انكشف نتيجة الخسائر التي مُني بها في سوريا والعراق.

بقايا «الإخوان»

من جهته، أوضح الدكتور محمود الصاوي أن مشكلة المعلومات التي يبثها التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي تستوجب فلترتها وتصفيتها وتنقيتها من الشوائب الكثيرة التي تختلط بها، وعمل تصحيح مستمر لهذه المفاهيم المغلوطة التي يقدمها ويضلل بها عقول الشباب، مشيداً بالتجربة الرائدة المميزة التي يقوم بها الأزهر، ومرصده العالمي، الذي يتتبع الأفكار الشاذة والمتطرفة والمنحرفة التي تقوم بها هذه الجماعات، لرصدها والتحذير منها، وتفنيد مزاعم هذه التنظيمات.
وفي غضون ذلك، أوضحت دراسة دار الافتاء المصرية أيضاً أن «داعش» يستهدف بممارساته الجديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بقايا جماعة «الإخوان» المتشرذمة، باستغلال الأفكار التي أسس لها منظرو «الإخوان» كـ«الخلافة، والدولة، والحاكمية، والجاهلية»، من أجل إقناع عناصر وشباب الجماعة بالانضمام إليه، بهدف تحقيق ما فشلت فيه الجماعات التي أطلقت على أنفسها «الإسلام السياسي»، وهي الأفكار التي تستثير حماسة البعض، وتؤثر على الشباب الذي تجذبه حماسية شعارات براقة ظاهرها نصرة الإسلام والمسلمين، لكن في باطنها التدمير والخراب.
من جهته، قال الشيخ نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم الجهاد المصري لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإخوان هم أصل العنف في العالم، وجميع جماعات الإرهاب خرجت من رحمها». وتصنف السلطات المصرية «الإخوان» كجماعة إرهابية، وتشير المعلومات إلى تحول قطاع عريض من شباب الجماعة والتيار الإسلامي، عقب عزل محمد مرسي عن الحكم في 2013، إلى تبني العنف، وقد هاجر العشرات من «الإخوان» إلى سوريا في أثناء حكم مرسي، وانضموا إلى تنظيم «جبهة النصرة»، ثم انتقلوا إلى «داعش». وأكدت دراسة الافتاء أنه خلال الفترة الأخيرة، ازداد نشاط المؤسسات المناصرة لتنظيم داعش، بتزويد «الذئاب المنفردة» التابعة للتنظيم بكم هائل من الكتيبات والإرشادات التي تشرح كيفية صناعة العبوات الناسفة والمتفجرات، وكيفية صناعة الأسلحة والسموم والأحزمة الناسفة، لاستخدامها في العمليات الإرهابية، مما يشكل خطورة كبيرة على أمن واستقرار المنطقة.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.