لبنان: حكومة الاصطفافات والتحديات

انطلقت بسجالات بين أقطابها... وتنتظرها ورشة إصلاحية واستحقاقات

لبنان: حكومة الاصطفافات والتحديات
TT

لبنان: حكومة الاصطفافات والتحديات

لبنان: حكومة الاصطفافات والتحديات

لم تجسد الحكومة اللبنانية الجديدة، الانطباعات التي سبقت تشكيلها بكونها حكومة منسجمة، وتمثل الجميع لتكريس الهدوء اللازم للمضي بتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة. ذلك أنه منذ تشكيلها، بدأت المناكفات السياسية، وبرز خلاف بين رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، تجسد في سجالات إعلامية، وشغّل مروحة اتصالات واسعة مع الحلفاء الذين يرفضون عزله، ويمكن أن يلتقوا معه في المواجهة المتوقعة في مجلس الوزراء بمواجهة الثنائي «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني).
وكرّست الحكومة الجديدة، اصطفافات سياسية مغايرة، ينظر إليها على أنها غير متكافئة، يتمثل الفريق الأول فيها بـ«التيار الوطني الحر» (الذي أسسه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ويترأسه راهناً صهره وزير الخارجية جبران باسيل) وحليفيه المتباعدين «تيار المستقبل» و«حزب الله». وفي المقابل يتمثل الفريق الثاني بـ«حركة أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«تيار المرَدة» وحزب «القوات اللبنانية» التي تلتقي مع الأطراف الثلاثة في ملفات، ومع بعض الأطراف في ملفات أخرى. ولعل غياب التكافؤ، يتمثل في أن الفريق الأول يجمع 20 وزيراً في الحكومة من أصل ثلاثين، بينما يلتقي الآخرون على ملفات، أبرزها مواجهة التلزيمات والمقاربات المتصلة بملف الكهرباء.
تشكيل الحكومة، سجل مفارقات كثيرة، أبرزها غياب «الصقور» عنها، وصعود الوزراء الموالين لشخصيات قيادية في البلاد. وهو ما دفع البعض لإطلاق وصف «المعاونين السياسيين لأركان الأحزاب في الحكومة»، مع أن هذا الوصف لا يحمل الدقة، بالنظر إلى أن السِيَر الذاتية لقسم كبير من الوزراء تزخر بتجربة إدارية وسياسية بارزة، فضلاً عن أن الآليات الداخلية (السيستم) في بعض التيارات، يوصل وزراء يتمتعون بمهارات وكفاءات إدارية وتقنية بما يتخطى الحضور السياسيّ.
منذ بدء النقاش حول تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، وضعت معايير واضحة، تراعي التمثيل في مجلس النواب استناداً إلى نتائج الانتخابات الأخيرة. ولقد حددت تلك المعايير حجم التمثيل في الحكومة الذي سمح بإدخال فئات لم تكن في السابق ممثلة، مثل «سنة اللقاء التشاوري» المعروفين باسم «سنة 8 آذار»، في خين تقلّصت حصص مثل حصة «تيار المستقبل».

الشيعة... كلاعب مؤثر
في الواقع، أنتجت تلك المعايير ثابتتين: أولاهما مشاركة الشيعة – أو بالأصح «الشيعية السياسية» – في السلطة التنفيذية، عبر الإصرار على حقيبة المال، وهي حقيبة أساسية في التوقيع على معظم القرارات الوزارية إلى جانب الوزير المختص ورئيسي الجمهورية والحكومة. بل أكثر منذ ذلك، لم يخفِ متابعون لعمليات تشكيل الحكومة، وإثر إصرار «حزب الله» على تمثيل «اللقاء التشاوري السنّي» - المرتبط بتوجهاته السياسية - بالوزير حسن مراد، أن الشيعة فرضوا أنفسهم لاعباً في عمليات التشكيل، وهذا دور جديد لم يكن في السابق عرفاً، وليس نصاً دستورياً بالنظر إلى النص يوكل عمليات التشكيل إلى رئيسي الحكومة والجمهورية، لكنه واقع تم تكريسه بمفاعيل ما يسميه اللبنانيون «الديمقراطية التوافقية».
يقول المحامي والأستاذ في القانوني الدولي الدكتور أنطوان صفير بأنه «من الناحية الدستورية، لا تزال مهمة تشكيل الحكومات من صلاحيات رئيس الجمهورية والحكومة حصراً، لكن الواقع ليس كذلك. إذ طرأ لاعبون مؤثرون على العملية يتخطون النص الدستوري، من غير أن يكون لهم أي توقيع قانوني». ويوضح صفير في حديث لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «ما جرى من خلال المناقشات ومراعاة الأطراف السياسية والطوائف، ليس عرفاً جديداً، بل هو امتداد للديمقراطية التوافقية المعمول بها في لبنان، وباتت ديمقراطية تشابكية بين الأحزاب والقوى السياسية والطوائف»، مشدداً على أن التوافق «بات محرك تشكيل الحكومات، ولهذا السبب يتأخر تشكيل الحكومات في العقد الأخير».

نظام مجلسي هجين
المفارقة الثانية في مناقشات تشكيل الحكومة، تجسدت في تغيير في القواعد السياسية المعمول بها في لبنان منذ وقت طويل لجهة وضع معايير للتمثيل في الحكومة، يوازي حجم التمثيل في البرلمان وفق نتائج الانتخابات الأخيرة، وتوزعت الحصص على شكل وزير يمثل أربعة نواب في كل كتلة.
هذا الخط رسمه رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل. وينظر إليه على أنه تكريس لنظام توافقي جديد، يشابه إلى حد بعيد ما هو معمول به في بلدان أوروبية، حتى بدأ التهامس ما إذا كان ذلك يتقاطع في أحد وجوهه مع النظام المجلسي المعمول به في إيطاليا، لجهة تمثيل البرلمان في الحكومة، أو النظام القائم في سويسرا لجهة تمثيل المكوّنات الفئوية المتنوعة.
لكن الدكتور صفير، لا يوافق على هذا الوصف، بقدر ما يعتبره شكلاً من أشكال النظام المجلسي الهجين، وفي نسخة هجينة عما هو معمول به في إيطاليا. ويشرح: «حصلت الانتخابات على أساس النظام النسبي، هو أفضل من السابق لكنه لا يعني أنه النظام الصحيح بشأن عدالة التمثيل. أما الحكومة التي اعتمدت على نتائج الانتخابات، فلم تمثل فيها شخصيات من خارج القوى السياسية، مثل وزراء تكنوقراط متخصّصين لا يمثلون الكتل السياسية. لذلك، ظهرت الحكومة تابعة بأكملها للقوى السياسية، بشكل ربما لم يشهده لبنان في السابق بالشكل القائم حالياً». ويضيف الدكتور صفير «إنه لتكريس لعرف جديد أن لا يكون هناك وزير إلا بسبب انتمائه للكتلة السياسية التي ينتمي إليها، وهذا أمر غير منطقي لأنه يؤكد أن الحكم بات في نظام مجلس هجين، وباتت خبرة الأعضاء المستقلين من خارج الاصطفافات السياسية شبه معدومة».

«ثنائية» الحريري - باسيل
كرّست الحكومة الجديدة الوليدة ثنائية «الحريري – باسيل» التي فتحت باباً للانقسامات مع حلفاء الأمس، والسجال السياسي خصوصاً بين رئيس الحكومة والنائب السابق وليد جنبلاط، وأيضا فتحت باباً للاجتهاد الإعلامي بأن هذه الثنائية باتت قابضة على السلطة، بالنظر إلى الانسجام والتوافق بين الطرفين اللذين يمتلكان أكثر من نصف أعضاء الحكومة التي تضم 30 وزيراً، إلى جانب حلفاء لهم. غير أن المراقبين، يحجمون عن منح التفاهم بين الطرفين هذا الوصف، بحجة أن النظام القائم في السلطة تشاركي، وغالباً ما تؤخذ القرارات بالتوافق كي لا تصطدم بمواقف صلبة من أطراف أخرى تؤدي إلى العرقلة، في وقت يُراهن على هذه الحكومة بأن تكون منتجة إلى أبعد تقدير.
ويبدو الباحث والكاتب السياسي جورج علَم ميالاً إلى القول بأن التفاهم الرئاسي بين رئيسي الجمهورية العماد ميشال عون والحكومة سعد الحريري العائد إلى العام 2016. وكان الوزير باسيل يشكل العمود الفقري فيه «هو التفاهم المنتصر رغم كل التنازلات». ثم يشير خلال حديث أدلى به لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «بعد السجال بين الحريري وجنبلاط، وهجوم رئيس الحكومة بتأكيده أنه ماضٍ بالعمل بمعزل عن مواقف الآخرين، تبين أن هناك أمراً واقعاً جديداً، واستقواء بالتفاهم الرئاسي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الطرفين لهما غلبة عددية في مجلس الوزراء، وصارت الغالبية ضمن التحالف الرئاسي».
ويتابع علم «رغم ذلك، لا يمكن الاعتماد على الأعداد الرقمية في الحكومة، ولا يمكن تمرير بعض الملفات بالعدد، بالنظر إلى أن هناك قوى أساسية مثل الرئيس نبيه برّي والمرَدة والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية، وهي قوى لا يمكن تجاوزها». ويؤكد أن التجربة السياسية في لبنان القائمة على التوافق «تثبت أن الكيدية السياسية لا تنتج، وكل القرارات لا يمكن أن تمرّ إلا بالتوافق».

ضوابط التحالفات
مع ذلك، يذهب البعض إلى تأكيد وجود ضوابط عبر حلفاء مشتركين، لا يتنازل عنها طرفا التسوية الرئاسية إذا اتفقا، فـ«التيار الوطني الحر» لا يمكن أن يتخطى حليفه «حزب الله» أو يتجاوزه، وكذلك لا يتخطّى الحزب حليفه الرئيس برّي ويتجاوزه، ولا يسمح بكسر «تيار المردة». ومن جانب آخر، لا يكسر الحريري حلفاءه المتباعدين عن «التيار الوطني الحر» مثل «الحزب التقدمي الاشتراكي» أو «القوات اللبنانية» - التي ترتبط بتفاهم مع «الوطني الحر» ومع «المرَدة» في الوقت نفسه. وبالتالي فإن هذا التشابك في التحالفات، تعتبره مصادر سياسية بمثابة «ضابط إيقاع» مانع للتأزم والانفجار، ولا أحد يسمح لأي طرف بتخطي الحدود الحمراء في ظل الاستحقاقات التي ينبغي على الحكومة تنفيذها.
في الوقت نفسه، ترفض مصادر سياسية ما يُقال بأن «التيار الوطني الحر» دخل في حلف مالي - اقتصادي مع الحريري، وحلف سياسي - استراتيجي مع «حزب الله» يؤهله ليكون الطرف الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي اللبناني، مستندة إلى أن النظام في لبنان تشاركي، ولا مناص من التوافق.

ملفات وتحديات
لقد أطلق البيان الوزاري على الحكومة اسم «حكومة إلى العمل». وإذ تجاوزت الحكومة الملفات الإشكالية مثل ملف النازحين السوريين وملف استعادة العلاقات مع سوريا والبند المتعلق بـ«المقاومة»، بدأ اهتمام الحكومة منصباً على القضايا الاقتصادية ومعالجة اهتمامات المواطنين والقضايا المعيشية والإصلاحات مثل تخفيض النفقات وزيادة الواردات من دون زيادة الضرائب وكان الحرص على زيادة حجم الاقتصاد وتخفيف العجز.
وهنا يرى الكاتب جورج علم أن الحكومة تواجه تحديين: التحدي الأول الضغط الشعبي عليها لتنفيذ ملفات ضرورية للناس، وإلا سيكون الشارع لها بالمرصاد. أما التحدي الثاني يتمثل في كون الحكومة «لن تتصرف بحرية بمقاربة الملفات لأن أي مشروع سينفذ بناء على مقررات مؤتمر سيدر... وهو لن يقدم أموالاً للحكومة، بل سيقدم تمويل مشاريع بعد تحقيق شرطين، هما تقديم محفظة من الإصلاحات الإدارية والمالية وفق ما يطله البنك الدولي وصندوق النقد والمؤسسات الائتمانية، وتقديم مشاريع مدروسة يقدمها خبراء سيدر ويقررون التمويل ويشرفون على التنفيذ»، لافتاً إلى أنه «إذا لم تفعل ذلك، فهي لن تكون قادرة على إنجاز الملفات».
ويرى علم أن الخطة الاقتصادية التي وضعتها شركة ماكينزي، محكومة بالتوجهات المالية لصندوق النقد الدولي تجاه لبنان وتقليم أظافر الحكومة في الداخل لجهة الفساد والأنفاق والرواتب، وهو خط أحمر ستكون له تداعيات كبيرة إذا كان هناك من توجه لمنع التوظيف أو تقليص رواتب الموظفين. ويستطرد «من المؤكد أن الحكومة لن تعيش في ترف سياسي، والسبب أن خط الإنجازات محدد، ويجب أن يكون تحت السقف الدولي المراقب»، مشدداً غلى أن الاستقرار النقدي «هو خط أحمر دولي».

تباين إزاء الملفات الاستراتيجية يسبق انطلاقة الحكومة
- منذ إعلان الحكومة، أعلن النائب السابق وليد جنبلاط المواجهة قائلاً: «الطوق السياسي سيزداد وسنواجهه بكل هدوء». وذهب عضو حزبه، وزير الصناعة وائل أبو فاعور إلى حد القول: «زرعوا الخناجر، الأقربون قبل الأبعدين في هذه الحكومة، وسنكسرها نصلاً تلو نصل لأن قدرنا الانتصار». وبدأ السجال مع رئيس الحكومة سعد الحريري الذي قال بأن «الدولة ليست ملكاً لنا حتماً، لكنها ليست مشاعاً مباحاً لأي زعيم أو حزب. مشروعنا واضح هدفه إنقاذ الدولة من الضياع وإحالة حراس الهدر على التقاعد».
وفي سجال آخر، عكست مواقف وزير الخارجية جبران باسيل حول الدعوة لتفعيل العلاقات مع سوريا، تبايناً مع وزراء آخرين في «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» قبل إقرار الحكومة لبيانها الوزاري. وقالت وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية مي شدياق «لا يُمكننا القبول بأن يعبّر وزير الخارجية جبران باسيل على المنابر الدولية عن موقف خارجي ليس هناك أي توافق عليه، فليس من شأننا أن نطالب بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، فلنترك هذا القرار للجامعة إذ لا اتفاق حتى الآن بشأن الدولة السورية فيما يتعلق بشكلها».

حكومة معاونين سياسيين؟
- بدا لافتاً من تسميات الأحزاب للوزراء في الحكومة اللبنانية الجديدة، أن الحكومة لا تضم عددا كبيراً من الشخصيات التي تصنف في «خانة الصقور». وباستثناء وزير الدفاع إلياس بو صعب، والمال علي حسن خليل، والوزير جمال الجرّاح الذي حصل على حقيبة الإعلام من حصة «المستقبل»، ذهب الرئيس الحريري إلى تسمية وزراء بمعظمهم تكنوقراط من المقرّبين منه. كذلك فعل «التيار الوطني الحر»، وهو ما دفع مصدر مواكب للتأكيد لـ«الشرق الأوسط» أن الشخصيات الممثلة بمعظمها تتألف من «المعاونين السياسيين وليس الصقور» وهذا في إشارة إلى «تغييب لبعض القيادات التي اعتادت القوى السياسية على تمثيلها في داخل الحكومة وخصوصاً لدى تيار المستقبل».
ودخل إلى حكومة الحريري الثالثة 17 وجهاً جديداً، في حين بقي 9 وزراء من الحكومة السابقة، وأعيد توزير 4 وزراء من حكومات سابقة، هم: إلياس بو صعب، وريّا الحسن، وأكرم شهيب، ووائل أبو فاعور.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.