أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

على مدار عقد من الزمن فشلت إسرائيل في تحييدها عسكريا.. والآن تجرب التكنولوجيا

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض
TT

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

قبل نحو أسبوع، بينما كان الجنود الإسرائيليون يغادرون قطاع غزة مع دباباتهم إلى الشريط الحدودي، وذلك بعد نحو شهر من عملية عسكرية «معقدة» استهدفت تدمير الأنفاق «الهجومية» كما يسميها الإسرائيليون، داخل المدن الحدودية في القطاع، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتهنئة جيشه و«الشاباك» (الأمن العام) على «إنهاء عمليات تحييد (تدمير) الأنفاق الإرهابية في قطاع غزة»، قائلا لشعبه: «العملية العسكرية وجهت ضربة إلى المنظومة الاستراتيجية التي استثمرت فيها حماس جهدا هائلا على مدار سنين»، لكنه عاد بعد ذلك ودون تأخير ليقول لشعبه، إنه لا يضمن أنه عملية الجيش و«الشاباك» نجحت 100 في المائة.
نتنياهو وجيشه و«الشاباك» أكثر من يعرف أن العملية لم تنجح بشكل حاسم وليس لها تأثير مباشر على المدى البعيد، وأنه بعد عام أو اثنين ستكون حماس قد بنت مجددا ما هدمه الجيش الإسرائيلي. وقالت إسرائيل إنها بعد 30 يوما من العمل في غزة تمكنت من تدمير 32 نفقا ضخما لحماس، من دون أن تشير إلى عدد الأنفاق التي لم تستطع تدميرها. ولا أحد في إسرائيل يعرف كيف تبدو عليه شبكة الأنفاق العسكرية في قطاع غزة، ولا أين تبدأ أو تنتهي، ويتضح من فيديوهات نشرتها حماس وإسرائيل، إضافة إلى طرائق تنفيذ عمليات في الحرب الأخيرة أن الحركة الإسلامية بنت مدينة صغيرة تحت المدينة الأم. تركت فوق الأرض للناس وبنت تحت الأرض مدينتها.
وخلال الحرب الأخيرة على غزة، اتضح أهمية هذه المدينة القائمة على أنفاق طويلة ومتشابكة، بعدما شنت القسام من داخلها عدة عمليات تسلل خلف خطوط الجيش الإسرائيلي العامل في القطاع، وكانت عمليات مؤثرة وقاسية على إسرائيل. ومن بين ما نشرته القسام فيديو يمكن وصفة بلقطة الحرب، خرج فيه قساميون من فوهة نفق إلى خارج حدود غزة وهاجموا معسكرا للجيش الإسرائيلي، قبل أن تظهر اللقطات اللاحقة رجال القسام وهم يدوسون رأس أحد الجنود على الأرض ويحاولون خطفه، ثم يعودون مجددا من فتحة النفق إلى غزة. كان هذا في خضم إعلان الجيش الإسرائيلي تحقيقه إنجازات كبيرة على صعيد «تحييد» الأنفاق، وانقلب السحر في إسرائيل على الساحر، وارتفعت المطالبات عاليا من أجل التحقيق بالفيديو «الإهانة».
أثبتت عمليات أخرى نفذتها حماس إلى جانب عملية المعسكر، داخل وخارج غزة، الأهمية الاستثنائية للأنفاق والتي أعطت حماس ميزة عنصر المفاجأة خلال المواجهات. ويكفي الإشارة إلى أن حملة هدم الأنفاق الـ32 في الحرب الأخيرة على غزة، كلفت الخزينة العامة مليارات الدولارات، وكلفت الجيش الإسرائيلي خسارة 63 جنديا، وخطف اثنين، دون أن ينجح في القضاء عليها.
ومنذ عام 2008 وحتى الآن، شنت إسرائيل ثلاث حروب على قطاع غزة بهدف ضرب بنية حماس التحتية (الأنفاق). واليوم بعد أن انتهت الحروب الثلاث بما فيها حرب «الجرف الصامد»، أدرك الإسرائيليون استحالة المهمة دون احتلال كامل لغزة. وطالب وزراء في الحكومة الإسرائيلية بينهم وزير الاقتصاد نفتالي بينت ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، بتنفيذ هجوم كامل على غزة واحتلالها وإسقاط حماس، لكن الجيش الإسرائيلي وضع سيناريو «رعب» أمام المسؤولين الإسرائيليين حول تكلفة احتلال غزة وتنظيفها نهائيا من الأنفاق. وقال السيناريو الذي وضعه الجيش، إن عدد القتلى من الجنود الإسرائيليين سيكون بالمئات خلال المرحلة الأولى فقط، في حين سيتعرض عدد غير محدود لعمليات اختطاف، أما القتلى من سكان غزة فسيكونون بالآلاف.
وأشارت التقديرات إلى أن التكلفة المالية لاحتلال غزة ستصل إلى عشرات المليارات. أما سياسيا فوضعت إسرائيل نصب عينها أن عملية كهذه ستضع أيضا معاهدتي السلام مع مصر والأردن في خطر شديد. وقال مسؤول عسكري إسرائيلي ردا على طلب وزراء احتلال غزة: «ستكون عملية احتلال جنوب لبنان سابقا مثل نزهة». وأضاف: «من أجل أن نخلق نظاما هناك وسط هذه الفوضى العارمة سنحتاج لسنوات طويلة». وحذر مسؤولو الأمن الإسرائيلي، وزراء «الكابنيت» كذلك من أن انتفاضة في الضفة الغربية أو في الداخل ستصبح أمرا واقعا.
وأصر العسكريون الإسرائيليون على موقفهم على الرغم من محاولات وزراء «الكابنيت» التشكيك في التقرير والقول إنهم يحالون تخويفهم من احتلال القطاع. وكان خلافات ظهرت أثناء الأسبوع الثالث من العملية العسكرية التي استمرت 29 يوما قبل توقيع هدنة تنتهي اليوم، بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. وأرادت قيادة الجيش من «الكابنيت» حسم الأمر تجاه احتلال غزة أولا، وقال عسكريون إن المستوى السياسي متردد، ورد وزراء بأن الجنرالات يريدون العودة إلى منازلهم. ووسط هذا الخلاف أنهى الإسرائيليون عملية غزة وشرعوا في التفكير بطرائق أخرى لتحييد خطر الأنفاق.
وقال قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي الميجور جنرال سامي ترجمان، إن الاختبار الأكبر يتمثل باستتباب الهدوء في قطاع غزة لفترة طويلة من الزمن، قائلا: «يجب منع حماس بكل وسيلة من إعادة حفر الأنفاق حتى إذا اقتضى ذلك الدخول مجددا إلى القطاع لتدمير هذه الأنفاق». ويبدو أن هذه التهديدات، بما فيها طلب إسرائيل إيجاد آلية دولية ضمن أي اتفاق للتأكد من عدم حفر أنفاق جديدة، تلقى بالا عند حماس. وقالت القسام لاحقا إنها تواصل حفر الأنفاق. ونقل عن مسؤول في «وحدة حفر الأنفاق»، أنهم في الوحدة يواصلون عملهم بشكل طبيعي، ولم يتلقوا أي تعليمات جديدة.
ووحدة حفر الأنفاق، هي وحدة مستقلة عن بقية تشكيلات القسام. وقال مسؤول ميداني في الوحدة: «نحن نواصل عملنا وفق الخطة الموضوعة لنا، وقد أنهينا حفر الكثير من الأنفاق أثناء الحرب وسلمنا خرائطها للقيادة». وتقسم أنفاق حماس العسكرية إلى هجومية وأخرى دفاعية. والدفاعية يتحصن بها مقاتلو حماس من أجل مواجهة الإسرائيليين، وتكون عادة داخل حدود القطاع فقط، وقد استخدمها المقاتلون في الشجاعية ورفح وبيت حانون حين فاجأوا جنودا إسرائيليين في هذه المدن، أما الهجومية فتبدأ في غزة وتنتهي في إسرائيل. وأثارت الأنفاق الهجومية رعب السكان في المستوطنات الإسرائيلية. ويصل طول بعض أنفاق حماس الهجومية إلى ثلاثة كيلومترات، وبعمق 25 مترا تحت الأرض بحسب ما كشف عنه الجيش الإسرائيلي.
وتشيد القسام كل نفق بأطنان من الإسمنت حتى لا ينهار، ويكون عادة عريضا إلى حد يسمح بتحرك الأفراد بسهولة وبعضها مجهز بسكك حديدية خفيفة وعربات نقل سريعة وفتحات جانبية. وتقدر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أن حماس تستثمر نحو 140 مليون دولار في السنة لحفر الأنفاق تحت الأرض، سواء تلك التي تستعمل لتهريب السلاح من جهة سيناء أم لتنفيذ عمليات في الجانب الإسرائيلي. وتعتقد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، أن المسافة العامة للأنفاق تمتد إلى عشرات الكيلومترات. وتجرب إسرائيل الآن «التكنولوجيا» في محاربة الأنفاق. ومنذ أعوام، استخدمت إسرائيل أفضل العلماء لتطوير تقنيات متقدمة تساعدها على ذلك وسط جدل حول نجاعة الأفكار المطروحة.
وتعتزم إسرائيل في وقت قريب تجريب «مجسات» استشعار جديدة لكشف الأنفاق، قبل أن تقرر إذا ما كانت ستبني جدارا إلكترونيا فاصلا في باطن الأرض بين غزة وإسرائيل.
وقال ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي: «إن إسرائيل تعد لإقامة شبكة من أجهزة الاستشعار في مسعى لرصد عملية بناء الأنفاق التي تصل لأراضيها من قطاع غزة، لكن الأمر قد يستغرق شهورا لتحديد أن كانت هذه التكنولوجيا ستحقق النتائج المرجوة».
وقال مسؤول آخر، إنه حتى ذلك الحين فإن الجيش قد يعاود احتلال القطاع الساحلي لتدمير أي أنفاق يكتشفها أو يعتقد أنها قيد البناء في محاولة لتهدئة مخاوف الإسرائيليين الذين يعيشون بالقرب من القطاع. ويأمل الجيش أن تساعد هذه الأجهزة ليس فقط في رصد الأنفاق قيد البناء، ولكن أيضا تلك الموجودة بالفعل. وخلال مؤتمر صحافي قال الضابط الذي طلب عدم نشر اسمه، إن أجهزة الاستشعار ستحاط بحواجز على حدود القطاع البالغ طولها 68 كيلومترا. وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن أحد أكثر الحلول المطروحة إقامة جدار تحت الأرض على عمق عشرات الأمتار، وعلى طول الحدود مع غزة (65 كيلومترا) لاعتراض الأنفاق، إضافة إلى فكرة زرع «مجسات» بدل الجدران.
وبينما كان الجيش الإسرائيلي يعترض على فكرة إقامة جدران قبل الحرب الحالية، لأنها قد لا تكون حاسمة، وستكلف نحو ثمانية مليارات شيقل (نحو ملياري دولار)، عاد يفكر في ذلك من بين أمور أخرى. وقال المحلل الإسرائيلي المتخصص في الشؤون الأمنية، رونين رغمان، إن إسرائيل تتجه لبناء «جدار إلكتروني» تحت الأرض على طول الحدود مع غزة بهدف مواجهة الأنفاق. وأضاف: «سيجري تخصيص ميزانيات لوزارة الدفاع من أجل تمويل إنشاء جدار إلكتروني تحت الأرض على طول الحدود مع غزة.. سيعمل بتكنولوجيا شبيهة بتكنولوجيا التنقيب عن النفط والغاز».
لكن قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، سامي ترجمان، شكك بذلك وقال إن الجيش ليس لديه أي حلول تقنية لأنفاق غزة حتى الآن. وأوضح في تصريحات نقلتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»: «بدأنا عملية الجرف الصامد، ودخلنا أطراف غزة لتدمير الأنفاق، لأنه ليس لدينا حلول، وكل مرة نكتشف نفقا كنا ندخل إليه من أجل تدميره». ومن المقرر أن يقوم الجيش الإسرائيلي قريبا بإجراء تجربة جديدة على جهاز «مجسات» لتحديد وجود أنفاق أو لا. وعملت إسرائيل على تطوير هذه التكنولوجيا منذ عام ونصف العام، وأجرت تجارب عليها في المناطق التي تحوي أنفاقا لمياه الصرف الصحي في تل أبيب.
وقال ضابط في الجيش الإسرائيلي، إن الجهاز يعمل بواسطة مجموعة «مجسات» قادرة على التقاط عمليات الحفر تحت الأرض، أو تحديد وجود فراغات في باطن الأرض.
وبحسبه، فإن تكلفة الجهاز تتراوح بين مليار ونصف المليار وملياري شيقل، وإدخال الجهاز إلى العمل، في حال نجحت التجربة، سيستغرق نحو عام، منذ لحظة اتخاذ القرار.
وأصاب هوس الأنفاق المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تعتقد بوجود أنفاق شبيهة في الشمال، عن طريق «حزب الله». وقال قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي يائير جولان: «الجيش يستعد للتعامل مع سيناريو وجود أنفاق في الجبهة الشمالية من جهة لبنان، رغم عدم وجود تهديد استراتيجي لهذه الأنفاق حتى الآن».
وأضاف: «لا توجد أي معلومات لدى الجيش الإسرائيلي عن وجود أنفاق من الأراضي اللبنانية نحو إسرائيل، لكن الجيش يستعد للتعامل مع هذا السيناريو». ورد العقيد احتياط آتي شيلاش بتأكيده أن «حزب الله» يمتلك أنفاقا تعبر الحدود إلى الشمال، وقال: «من يعتقد أن تهديد الأنفاق غير موجود في الشمال فهو لا يعيش في منطقة الشرق الأوسط». وأكد شيلاش أن خطر الأنفاق في بداية طريقه، معربا عن ثقته في تطوير تكنولوجيا جديدة يمكنها التعامل مع خطر الأنفاق في المرحلة المقبلة. وتابع: «لم أتفاجأ من أنفاق حماس في قطاع غزة، ولكن اندهشت من مستوى التطور التشغيلي لها». ولا يتوقف امتلاك حماس للأنفاق على العسكرية فقط، بل تملك الحركة أنفاقا أخرى لأغراض تهريب أسلحة وأموال واحتياجات القسام الأخرى، وهذه تبدأ من غزة وتنتهي عند الجانب المصري.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».