أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

على مدار عقد من الزمن فشلت إسرائيل في تحييدها عسكريا.. والآن تجرب التكنولوجيا

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض
TT

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

قبل نحو أسبوع، بينما كان الجنود الإسرائيليون يغادرون قطاع غزة مع دباباتهم إلى الشريط الحدودي، وذلك بعد نحو شهر من عملية عسكرية «معقدة» استهدفت تدمير الأنفاق «الهجومية» كما يسميها الإسرائيليون، داخل المدن الحدودية في القطاع، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتهنئة جيشه و«الشاباك» (الأمن العام) على «إنهاء عمليات تحييد (تدمير) الأنفاق الإرهابية في قطاع غزة»، قائلا لشعبه: «العملية العسكرية وجهت ضربة إلى المنظومة الاستراتيجية التي استثمرت فيها حماس جهدا هائلا على مدار سنين»، لكنه عاد بعد ذلك ودون تأخير ليقول لشعبه، إنه لا يضمن أنه عملية الجيش و«الشاباك» نجحت 100 في المائة.
نتنياهو وجيشه و«الشاباك» أكثر من يعرف أن العملية لم تنجح بشكل حاسم وليس لها تأثير مباشر على المدى البعيد، وأنه بعد عام أو اثنين ستكون حماس قد بنت مجددا ما هدمه الجيش الإسرائيلي. وقالت إسرائيل إنها بعد 30 يوما من العمل في غزة تمكنت من تدمير 32 نفقا ضخما لحماس، من دون أن تشير إلى عدد الأنفاق التي لم تستطع تدميرها. ولا أحد في إسرائيل يعرف كيف تبدو عليه شبكة الأنفاق العسكرية في قطاع غزة، ولا أين تبدأ أو تنتهي، ويتضح من فيديوهات نشرتها حماس وإسرائيل، إضافة إلى طرائق تنفيذ عمليات في الحرب الأخيرة أن الحركة الإسلامية بنت مدينة صغيرة تحت المدينة الأم. تركت فوق الأرض للناس وبنت تحت الأرض مدينتها.
وخلال الحرب الأخيرة على غزة، اتضح أهمية هذه المدينة القائمة على أنفاق طويلة ومتشابكة، بعدما شنت القسام من داخلها عدة عمليات تسلل خلف خطوط الجيش الإسرائيلي العامل في القطاع، وكانت عمليات مؤثرة وقاسية على إسرائيل. ومن بين ما نشرته القسام فيديو يمكن وصفة بلقطة الحرب، خرج فيه قساميون من فوهة نفق إلى خارج حدود غزة وهاجموا معسكرا للجيش الإسرائيلي، قبل أن تظهر اللقطات اللاحقة رجال القسام وهم يدوسون رأس أحد الجنود على الأرض ويحاولون خطفه، ثم يعودون مجددا من فتحة النفق إلى غزة. كان هذا في خضم إعلان الجيش الإسرائيلي تحقيقه إنجازات كبيرة على صعيد «تحييد» الأنفاق، وانقلب السحر في إسرائيل على الساحر، وارتفعت المطالبات عاليا من أجل التحقيق بالفيديو «الإهانة».
أثبتت عمليات أخرى نفذتها حماس إلى جانب عملية المعسكر، داخل وخارج غزة، الأهمية الاستثنائية للأنفاق والتي أعطت حماس ميزة عنصر المفاجأة خلال المواجهات. ويكفي الإشارة إلى أن حملة هدم الأنفاق الـ32 في الحرب الأخيرة على غزة، كلفت الخزينة العامة مليارات الدولارات، وكلفت الجيش الإسرائيلي خسارة 63 جنديا، وخطف اثنين، دون أن ينجح في القضاء عليها.
ومنذ عام 2008 وحتى الآن، شنت إسرائيل ثلاث حروب على قطاع غزة بهدف ضرب بنية حماس التحتية (الأنفاق). واليوم بعد أن انتهت الحروب الثلاث بما فيها حرب «الجرف الصامد»، أدرك الإسرائيليون استحالة المهمة دون احتلال كامل لغزة. وطالب وزراء في الحكومة الإسرائيلية بينهم وزير الاقتصاد نفتالي بينت ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، بتنفيذ هجوم كامل على غزة واحتلالها وإسقاط حماس، لكن الجيش الإسرائيلي وضع سيناريو «رعب» أمام المسؤولين الإسرائيليين حول تكلفة احتلال غزة وتنظيفها نهائيا من الأنفاق. وقال السيناريو الذي وضعه الجيش، إن عدد القتلى من الجنود الإسرائيليين سيكون بالمئات خلال المرحلة الأولى فقط، في حين سيتعرض عدد غير محدود لعمليات اختطاف، أما القتلى من سكان غزة فسيكونون بالآلاف.
وأشارت التقديرات إلى أن التكلفة المالية لاحتلال غزة ستصل إلى عشرات المليارات. أما سياسيا فوضعت إسرائيل نصب عينها أن عملية كهذه ستضع أيضا معاهدتي السلام مع مصر والأردن في خطر شديد. وقال مسؤول عسكري إسرائيلي ردا على طلب وزراء احتلال غزة: «ستكون عملية احتلال جنوب لبنان سابقا مثل نزهة». وأضاف: «من أجل أن نخلق نظاما هناك وسط هذه الفوضى العارمة سنحتاج لسنوات طويلة». وحذر مسؤولو الأمن الإسرائيلي، وزراء «الكابنيت» كذلك من أن انتفاضة في الضفة الغربية أو في الداخل ستصبح أمرا واقعا.
وأصر العسكريون الإسرائيليون على موقفهم على الرغم من محاولات وزراء «الكابنيت» التشكيك في التقرير والقول إنهم يحالون تخويفهم من احتلال القطاع. وكان خلافات ظهرت أثناء الأسبوع الثالث من العملية العسكرية التي استمرت 29 يوما قبل توقيع هدنة تنتهي اليوم، بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. وأرادت قيادة الجيش من «الكابنيت» حسم الأمر تجاه احتلال غزة أولا، وقال عسكريون إن المستوى السياسي متردد، ورد وزراء بأن الجنرالات يريدون العودة إلى منازلهم. ووسط هذا الخلاف أنهى الإسرائيليون عملية غزة وشرعوا في التفكير بطرائق أخرى لتحييد خطر الأنفاق.
وقال قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي الميجور جنرال سامي ترجمان، إن الاختبار الأكبر يتمثل باستتباب الهدوء في قطاع غزة لفترة طويلة من الزمن، قائلا: «يجب منع حماس بكل وسيلة من إعادة حفر الأنفاق حتى إذا اقتضى ذلك الدخول مجددا إلى القطاع لتدمير هذه الأنفاق». ويبدو أن هذه التهديدات، بما فيها طلب إسرائيل إيجاد آلية دولية ضمن أي اتفاق للتأكد من عدم حفر أنفاق جديدة، تلقى بالا عند حماس. وقالت القسام لاحقا إنها تواصل حفر الأنفاق. ونقل عن مسؤول في «وحدة حفر الأنفاق»، أنهم في الوحدة يواصلون عملهم بشكل طبيعي، ولم يتلقوا أي تعليمات جديدة.
ووحدة حفر الأنفاق، هي وحدة مستقلة عن بقية تشكيلات القسام. وقال مسؤول ميداني في الوحدة: «نحن نواصل عملنا وفق الخطة الموضوعة لنا، وقد أنهينا حفر الكثير من الأنفاق أثناء الحرب وسلمنا خرائطها للقيادة». وتقسم أنفاق حماس العسكرية إلى هجومية وأخرى دفاعية. والدفاعية يتحصن بها مقاتلو حماس من أجل مواجهة الإسرائيليين، وتكون عادة داخل حدود القطاع فقط، وقد استخدمها المقاتلون في الشجاعية ورفح وبيت حانون حين فاجأوا جنودا إسرائيليين في هذه المدن، أما الهجومية فتبدأ في غزة وتنتهي في إسرائيل. وأثارت الأنفاق الهجومية رعب السكان في المستوطنات الإسرائيلية. ويصل طول بعض أنفاق حماس الهجومية إلى ثلاثة كيلومترات، وبعمق 25 مترا تحت الأرض بحسب ما كشف عنه الجيش الإسرائيلي.
وتشيد القسام كل نفق بأطنان من الإسمنت حتى لا ينهار، ويكون عادة عريضا إلى حد يسمح بتحرك الأفراد بسهولة وبعضها مجهز بسكك حديدية خفيفة وعربات نقل سريعة وفتحات جانبية. وتقدر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أن حماس تستثمر نحو 140 مليون دولار في السنة لحفر الأنفاق تحت الأرض، سواء تلك التي تستعمل لتهريب السلاح من جهة سيناء أم لتنفيذ عمليات في الجانب الإسرائيلي. وتعتقد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، أن المسافة العامة للأنفاق تمتد إلى عشرات الكيلومترات. وتجرب إسرائيل الآن «التكنولوجيا» في محاربة الأنفاق. ومنذ أعوام، استخدمت إسرائيل أفضل العلماء لتطوير تقنيات متقدمة تساعدها على ذلك وسط جدل حول نجاعة الأفكار المطروحة.
وتعتزم إسرائيل في وقت قريب تجريب «مجسات» استشعار جديدة لكشف الأنفاق، قبل أن تقرر إذا ما كانت ستبني جدارا إلكترونيا فاصلا في باطن الأرض بين غزة وإسرائيل.
وقال ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي: «إن إسرائيل تعد لإقامة شبكة من أجهزة الاستشعار في مسعى لرصد عملية بناء الأنفاق التي تصل لأراضيها من قطاع غزة، لكن الأمر قد يستغرق شهورا لتحديد أن كانت هذه التكنولوجيا ستحقق النتائج المرجوة».
وقال مسؤول آخر، إنه حتى ذلك الحين فإن الجيش قد يعاود احتلال القطاع الساحلي لتدمير أي أنفاق يكتشفها أو يعتقد أنها قيد البناء في محاولة لتهدئة مخاوف الإسرائيليين الذين يعيشون بالقرب من القطاع. ويأمل الجيش أن تساعد هذه الأجهزة ليس فقط في رصد الأنفاق قيد البناء، ولكن أيضا تلك الموجودة بالفعل. وخلال مؤتمر صحافي قال الضابط الذي طلب عدم نشر اسمه، إن أجهزة الاستشعار ستحاط بحواجز على حدود القطاع البالغ طولها 68 كيلومترا. وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن أحد أكثر الحلول المطروحة إقامة جدار تحت الأرض على عمق عشرات الأمتار، وعلى طول الحدود مع غزة (65 كيلومترا) لاعتراض الأنفاق، إضافة إلى فكرة زرع «مجسات» بدل الجدران.
وبينما كان الجيش الإسرائيلي يعترض على فكرة إقامة جدران قبل الحرب الحالية، لأنها قد لا تكون حاسمة، وستكلف نحو ثمانية مليارات شيقل (نحو ملياري دولار)، عاد يفكر في ذلك من بين أمور أخرى. وقال المحلل الإسرائيلي المتخصص في الشؤون الأمنية، رونين رغمان، إن إسرائيل تتجه لبناء «جدار إلكتروني» تحت الأرض على طول الحدود مع غزة بهدف مواجهة الأنفاق. وأضاف: «سيجري تخصيص ميزانيات لوزارة الدفاع من أجل تمويل إنشاء جدار إلكتروني تحت الأرض على طول الحدود مع غزة.. سيعمل بتكنولوجيا شبيهة بتكنولوجيا التنقيب عن النفط والغاز».
لكن قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، سامي ترجمان، شكك بذلك وقال إن الجيش ليس لديه أي حلول تقنية لأنفاق غزة حتى الآن. وأوضح في تصريحات نقلتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»: «بدأنا عملية الجرف الصامد، ودخلنا أطراف غزة لتدمير الأنفاق، لأنه ليس لدينا حلول، وكل مرة نكتشف نفقا كنا ندخل إليه من أجل تدميره». ومن المقرر أن يقوم الجيش الإسرائيلي قريبا بإجراء تجربة جديدة على جهاز «مجسات» لتحديد وجود أنفاق أو لا. وعملت إسرائيل على تطوير هذه التكنولوجيا منذ عام ونصف العام، وأجرت تجارب عليها في المناطق التي تحوي أنفاقا لمياه الصرف الصحي في تل أبيب.
وقال ضابط في الجيش الإسرائيلي، إن الجهاز يعمل بواسطة مجموعة «مجسات» قادرة على التقاط عمليات الحفر تحت الأرض، أو تحديد وجود فراغات في باطن الأرض.
وبحسبه، فإن تكلفة الجهاز تتراوح بين مليار ونصف المليار وملياري شيقل، وإدخال الجهاز إلى العمل، في حال نجحت التجربة، سيستغرق نحو عام، منذ لحظة اتخاذ القرار.
وأصاب هوس الأنفاق المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تعتقد بوجود أنفاق شبيهة في الشمال، عن طريق «حزب الله». وقال قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي يائير جولان: «الجيش يستعد للتعامل مع سيناريو وجود أنفاق في الجبهة الشمالية من جهة لبنان، رغم عدم وجود تهديد استراتيجي لهذه الأنفاق حتى الآن».
وأضاف: «لا توجد أي معلومات لدى الجيش الإسرائيلي عن وجود أنفاق من الأراضي اللبنانية نحو إسرائيل، لكن الجيش يستعد للتعامل مع هذا السيناريو». ورد العقيد احتياط آتي شيلاش بتأكيده أن «حزب الله» يمتلك أنفاقا تعبر الحدود إلى الشمال، وقال: «من يعتقد أن تهديد الأنفاق غير موجود في الشمال فهو لا يعيش في منطقة الشرق الأوسط». وأكد شيلاش أن خطر الأنفاق في بداية طريقه، معربا عن ثقته في تطوير تكنولوجيا جديدة يمكنها التعامل مع خطر الأنفاق في المرحلة المقبلة. وتابع: «لم أتفاجأ من أنفاق حماس في قطاع غزة، ولكن اندهشت من مستوى التطور التشغيلي لها». ولا يتوقف امتلاك حماس للأنفاق على العسكرية فقط، بل تملك الحركة أنفاقا أخرى لأغراض تهريب أسلحة وأموال واحتياجات القسام الأخرى، وهذه تبدأ من غزة وتنتهي عند الجانب المصري.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.