«متحف بيروت للفن» تصميم خلّاق يعيد لـ«الشرفة» مجدها

مئات من نخب الأعمال التشكيلية اللبنانية تنتظر العرض

آمال أندراوس  -  تصميم متحف بيروت للفن
آمال أندراوس - تصميم متحف بيروت للفن
TT

«متحف بيروت للفن» تصميم خلّاق يعيد لـ«الشرفة» مجدها

آمال أندراوس  -  تصميم متحف بيروت للفن
آمال أندراوس - تصميم متحف بيروت للفن

بدءاً من العام 2023 سينتصب في بيروت، في مواجهة «المتحف الوطني اللبناني» مبنى أبيض، أنيق، مبتكر، يحمل اسم «متحف بيروت للفن»، سيكون الأول من نوعه في العاصمة اللبنانية، يضم قسماً كبيراً من الثروة التشكيلية للبلاد، ويحتضن نشاطات، ليتحول تدريجياً إلى مركز ثقافي جامع.
فبعد طول بحث، رسا الاختيار على تصميم شركة WORKac للشريكين آمال أندراوس ودان وود، التي أسساها في نيويورك عام 2003، ليكون الحاضن للمشروع بكل ما يملك من جمالية، ومن فهم عميق لوظيفة المكان وعلاقته بمحيطه، وهي مهمة ليست سهلة، كما شرحت لنا أندراوس.
«متحف بيروت للفن» مشروع طموح يسد ثغرة بالغة الأهمية في الحياة الثقافية، فالعاصمة اللبنانية ليس فيها متحف للفن التشكيلي، رغم أنها كانت رائدة عربياً، ليس فقط في براعة رساميها، ولكن أيضاً في كونها الجسر الأول الذي عبر من خلاله الفن الغربي بحداثته ومدارسه إلى العالم العربي. بيروت تنام على كنوز تشكيلية، لكنها مشرذمة، بين الغاليريات، ووزارة الثقافة، وبيوت المجمعين الكبار، حتى تكاد تكون بعض المنازل متاحف فردية، بينما لا يجد الجمهور العريض مكاناً يتوجه إليه ليتعرف على تاريخه الفني وأعمال رواده وفنانيه.
وبالتالي، فالمتحف المنتظر ينظر إليه كمساحة ستتحول إلى مركز يجمع وظائف عدة في آن واحد، على مساحة 12 ألف متر مربع، وهو ما أُخذ بعين الاعتبار، كما تشرح المهندسة المعمارية آمال أندراوس.
والمهندسة اللبنانية ذات الباع الطويل والشغف المعماري الكبير، تحدثك عن رمزية المكان من جهة، والدور الذي يمكن أن يلعبه المتحف وسط مبانٍ، لبعضها أدوار محورية في الحياة البيروتية من جهة أخرى. وأندراوس هي حالياً، عميدة «كلية الدراسات العليا للتخطيط الحضري والمحافظة» في جامعة كولومبيا. نشأتها الأولى في لبنان، كما انتقالها مع عائلتها إلى أميركا إثر الحرب الأهلية، عوامل تساعدها على إدراك التراث اللبناني بعمق، والنزعة الدائمة إلى الحداثة في مدينة هجينة كبيروت. زاد من خبرتها أنها عاشت أيضاً متنقلة بين السعودية وفرنسا وكندا، وكانت أطروحتها للدكتوراه حول النمط المعماري وسط بيروت. وهي إذ تسلمت المهمة، تقول إنها سعيدة بذلك، وإن تصميمها «يأخذ بعين الاعتبار روح المدينة، والمساحة المتاحة لإقامة المبنى، كما علاقته المستقبلية بمحيطه، والبيئة الحاضنة له، كما عوامل المناخ، بحيث إن المبنى يسعى ليكون منفتحاً على محيطه، ويتحول إلى مكان للتلاقي بين الناس».
وهي تصف المبنى الذي سيباشر بعد أيام البحث في الآليات العملية لتنفيذه، بأنه «مكان مشرّع للحوار، يسمح بإبداع أفكار جديدة، واختمار تفاعل بين مرتاديه».
المتحف يتم إنشاؤه بمبادرة من «الجمعية اللبنانية لتطوير وعرض الفنون» التي نالت رخصة تخولها إقامة هذا المتحف والعمل مع فنانين، وتنظيم نشاطات، والتعاون مع مؤسسات فنية وتربوية، هذا عدا المهمة الأساسية، وهي إقامة متحف دائم، وتنظيم معارض، بحيث يكون المتحف منبراً نقدياً وتجريبياً للإبداع. والجمعية تعبر عن طموحات كبيرة، على الرغم من الصعوبات التي تمر فيها البلاد. والمهندسة أندراوس بدورها ترى «أننا محكومون بالأمل»، وتقول: «قمت بأبحاث كثيرة لإنجاح هذا المشروع. بعضها يعود إلى فترة الدراسة، حول (أنماط الشرفات) في المنطقة. وهي حيز يساعد على التواصل والانفتاح»، وتصميم «المتحف الخارجي هو عبارة عن 70 شرفة، تشكل ممرات تلتف حول المبنى، وتعتبر مساحة تضاف إلى الصالات الداخلية التي ستكون بسيطة وتقليدية، بحيث إن الممرات أو الشرفات ستحتضن أعمالاً لفنانين، كما تسمح بالنزهة حول المبنى».
وحين نسأل عن نوعية المعروضات التي يمكنها أن تتحمل قسوة العوامل الخارجية من رطوبة وحرارة وأمطار، تبتسم أندراوس وهي تقول: «بالطبع ليست هي المكان المناسب لعرض لوحات لفنان مثل شفيق عبود، لكن فن الحيز العام إلى صعود، والأعمال التي تعرض في الشارع باتت كثيرة، وهذا ما سنراه في المستقبل معروضاً في المساحات المفتوحة».
- المجموعة
المبنى الأبيض المكون من 6 طوابق، ويقام على أرض منحتها الجامعة اليسوعية للجهة المؤسسة للإفادة منها، ستكون له استقلاليته. وهو لا يشي رغم علوه بهذا الارتفاع بسبب اعتماد تصميم مختلف لكل طابق، بل لكل شرفة في المبنى، ومن هنا تأتي ميزته.
فهناك المنحنيات المستوحاة من القنطرة العربية، والخطوط المستقيمة، كما الواجهات الزجاجية الكبيرة.
وثمة طوابق يختلط فيها النمطان معاً، في ازدواجية تناغمية. حقاً هو مبنى أهم ما فيه هي «لعبة تعدد المقاييس، وعدم التكرار. معمار يعكس تنوع المدينة سواء في ناسها وهندستها. وبالتالي سنكون في المبنى أمام مساحات مختلفة بأفكار متعدد».
على عكس كثير من المتاحف التي تمتد أفقياً، سيرتفع هذا المبنى عمودياً، وهو ما تراه «أندراوس معبراً عن طبيعة الكثافة السكانية في بيروت. فالمساحة محدودة، وستعطى الحدائق أهميتها أيضاً» أندراوس التي تعرف بيروت جيداً، وتزورها باستمرار، ترى «أن الأبراج التي ترتفع في العاصمة، قد تكون غير مشوهة للمشهد العام عندما تأخذ في عين الاعتبار الحفاظ على الأحياء التاريخية، والتأثير على البيئة، وتأمين الحق العام. وربما تحتمل المدينة بحدود معقولة هذا الخلط بين القديم، العريق والأبراج الحديثة. في النهاية هذه هي بيروت».
مساحة 2700 متر مربع ستكون مخصصة للمعارض بين دائمة ومؤقتة. والجمعية في حوزتها مجموعات فنية مهمة، منها مجموعة وزارة الثقافة التي بدأ العمل على ترميمها وتجهيزها، من العام 2016. وهذه المجموعة القيمة تضم 2300 عمل، بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر. وهناك مجموعتان أخريان، إحداهما تضم 700 عمل، والثانية نحو 150 عملاً، والجهد مستمر لجعل «متحف بيروت للفن» مستحقاً اسمه، والمبنى المبتكر الذي سيحتضن هذه الأعمال هو نفسه عمل فني يضاف إلى التحف المعمارية التي تباهي بها بيروت.



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.