في العدد الأخير من مجلة «الفيصل» ورد الحديث عن ملحمة «جلجامش» أو ما يسميها العلامة الراحل طه باقر، بـ«أوديسة العراق القديم»، في أربعة مقالات متنوعة، كل واحد منها رسم صورة مختلفة للفتى السومري جلجامش، وللعلاقة مع صديقه «أنكيدو».
تُعد الملحمة السومرية الخالدة: «جلجامش» أهم وأقدم ملحمة شعرية وأسطورية وأطول نصّ أدبي قديم، وعلى رأي الباحث العراقي الراحل طه باقر، فإن ملحمة جلجامش، هي «أقدم نوع من أدب الملاحم البطولية في جميع الحضارات، وأنها أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم، وليس هناك ما يقارن بها من آداب الحضارات القديمة، قبل الإلياذة والأوديسة في الأدب اليوناني، اللتين ظهرتا بعدها بثمانية قرون».
وقد تركت الملحمة عميق الأثر في التراث الأدبي والشعري خصوصاً في بلاد الرافدين، وأصبحت أحداثها جزءا من الوعي الجمعي، ظهر في أعمال الشعراء، وخاصة أولئك الذين سكن الحزن قصائدهم، فكتبوا المراثي والمواويل الحزينة في بطون الأهوار وعلى ضفاف النهرين. وفي كتابه «الصراع في ملحمة جلجامش... قراءة في جدلية الملحمة» يؤكد الدكتور حسين علوان حسين أن ملحمة جلجامش تركت «انعكاساتها القابلة للتشخيص للذاكرة الشعبية والوعي الجمعي العراقي القديم».
لكن كيف لأربعة كتاب بارزين في عدد واحد أن يقرأوا حدثاً طاغياً في الوجدان كملحمة جلجامش: في المقال الأول، نجد البطل جلجامش في الملحمة البابليّة يكتسي حلة مقدسة حيث «يتألّف ثلثاه من مادّة الآلهة الخالدة وثلثه الباقي من مادّة البشر الفانية»، أما صديقه «أنكيدو» فقد كان الحلم الموعود للبطل الأسطوري «إنه صاحبٌ لكَ قوي يعين الصديق عند الضيق (…) وسيُلازِمك ولن يتخلّى عنك»... وفي مكان آخر نقرأ مقالاً يمتدح نموذج الصداقة الذي يمثله «جلجامش وأنكيدو». لكنّ الصورة تتغير في مقال ثالث بعنوان (نار جلجامش في مصباح زرقاء اليمامة)، حيث نقرأ هذا الوصف لجلجامش: «هو الملك الطاغية الذي لم يترك ابنا طليقا لأبيه ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار، ولم يترك عذراء لأمها ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل». أما الصديق «أنكيدو» فصوره على أنه الخصم المدافع عن الضعفاء حيث «يعزم أمره على صد جلجامش ومنعه بالقوة من افتراع فتيات المدينة».
وفي المقال الأخير، نجد أن الحروب المشتركة، وليست البينية كونت بين جلجامش وأنكيدو «أخوة الدم» حيث «يصبح موت الصديق حافزاً إلى البحث عن الخلاص من أرض الموت وحديقة عزرائيل الأثيرة».
تعدد الروايات لملحمة كتبت قبل 26 قرناً قبل الميلاد، ليس أمراً غريباً، الغريب هو اعتبار أي واحدة من تلك السرديات نصاً مقدساً. فالأسطورة بطبيعتها تقوم على الخيال، وتعتمد الخرافة واجتراح أحداث خارقة لتلهم خيال المتلقي، ثم تأتي المعتقدات الدينية لتمنحها عمراً أطول وتعبر بها الأزمان. هذا ما نفهمه عموماً عن تعدد القراءات واختلاف التفسيرات وتنوع الصورة التي يشكلها الرواة وأهل السرد والإعلام، فهي ربما تُعد مصدراً إثراء، لكنها في الحقيقة تكشف عن ضعف الحصانة والقداسة عن كل نصّ أو سرد تاريخي، كان الرواة وسيلته الوحيدة للانتقال.
هذا يمنح الإنسان الحرية في الوقوف حراً أمام أي نصّ أو سرد يأتي إليه، كما يمنحه الحرية في الانفتاح على القراءات المتعددة أو أن تكون له قراءته الخاصة، وعدم الارتهان لأقوال المفسرين مهما كانت سطوة أصحابها. وهذه الحرية هي مفتاح العبور للتخلص من الأفكار الأحادية، أو الانحباس في القوالب الفكرية القديمة.
«جلجامش» أمام الكاميرا!
«جلجامش» أمام الكاميرا!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة