«الزوجة المكسيكيّة» تُحاذي نص «البيضاء» ليوسف إدريس وتعتاش عليه

من روايات «القائمة الطويلة» لجائزة «بوكر» العربية

«الزوجة المكسيكيّة» تُحاذي نص «البيضاء» ليوسف إدريس وتعتاش عليه
TT

«الزوجة المكسيكيّة» تُحاذي نص «البيضاء» ليوسف إدريس وتعتاش عليه

«الزوجة المكسيكيّة» تُحاذي نص «البيضاء» ليوسف إدريس وتعتاش عليه

تُثير رواية «الزوجة المكسيكيّة» للدكتور إيمان يحيى الصادرة عن «دار الشروق» بالقاهرة سؤالاً جوهرياً مفاده: هل هذه الرواية تعالقت فقط مع رواية «البيضاء» ليوسف إدريس، أم أنها ذهبت إلى حدّ التناهل والتناص معها لتخلق نصاً مُهجّناً لا يُشبه بالضرورة النص الأصلي في كل تفاصيله، ولا يتطابق معه، لكنه يُحاذيه، ويعتاش عليه، ويتخذه مرآة صقيلة لاستجلاء صور الشخصيات الرئيسية التي تعالَقَ معها في «النص الغائب أو المرجعي» بتعبير الناقد فاضل ثامر.
ثمة عتبة نصيّة مهمة في مستهل الرواية تشير إلى ترحيل السلطات للطالبة المكسيكية سامانثا لأسباب سياسية سوف تتكشف لاحقاً لعلاقتها الغامضة بحركة «كفاية»، كما تلعب هذه العتبة دوراً مهماً في تمثّل النص السردي وتأويل محمولاته الفكرية، فسامانثا ديفيز التي جاءت لدراسة الأدب العربي الحديث في «الجامعة الأميركية» بالقاهرة هي ثمرة زواج مختلَط بين أم نصفها مصري وأب ذي أصول مكسيكية، وجدتها من جهة الأم قد هاجرت إلى أميركا في بداية الستينيات، ولم تعد أبداً، في إشارة واضحة إلى انتقال جينات الجدة إليها، حيث أتقنت المحكيّة المصرية بوقت قصير، وأخذت تتعرّف على الطقوس الدينية والاجتماعية للأحياء الشعبية في القاهرة.
تنطلق أحداث «الزوجة المكسيكية» من الواقع والخيال في آنٍ معاً، حيث يختار الدكتور سامي جميل رواية «البيضاء» لتلميذته سامانثا ديفيز كي تُعدّ عنها بحثاً لرسالة الماجستير. وبما أنّ الرواية هي سيرة ذاتية للمؤلف يوسف إدريس نفسه، فإنّ يحيى مصطفى هو مجرد قناع لا غير، وقد تزوّج من رُوث دييغو ريفيرا سنة 1957 وهي شيوعية مكسيكية، لكن هذا الزواج سرعان ما انتهى بالطلاق بعد أقل من عام، حيث تعود إلى بلدها لتموت هناك متأثرة بمرض السرطان، كما تؤكد المصادر والأقاويل التي راجت بين الناس. تُرى، هل هذه الحكاية حقيقية لا يرقى إليها الشكّ، أم أنها من صنع خيال المؤلف الأول يوسف إدريس الذي عزّزه خيال المؤلف الثاني د. إيمان يحيى، ليقنعنا بأنّ هذه الزيجة قد تمّت على أرض الواقع، وأنّ هناك من الأدلّة الدامغة ما يكفي لارتباط الطبيب والكاتب المعروف يوسف إدريس برُوث، ابنة دييغو ريفيرا، أهم رسّام جداريات في العالم. ومثلما تتعدد شخصيات الرواية تتعدد أمكنتها فهي تتوزع بين القاهرة وفيينا ومكسيكو سيتي. وحين يدقّق الباحث في المصادر سيجد من دون عناء كبير أن مؤتمر «أنصار السلام» قد عُقد في فيينا سنة 1952، وأن الوفد المصري كان يتألف من كامل باشا البنداري وعبد الرحمن الخميسي وإنجي أفلاطون وسيزا نبراوي ويوسف إدريس وغيرهم، وقد وقع إدريس في حُب رُوث، وطلب يدها من أبيها دييغو ريفيرا الذي وافق على الزواج رغم خشيته الواضحة من هيمنة الضباط وتوجههم نحو الديكتاتورية.
لا تمتد أيام الحُب والدهشة والإعجاب طويلاً، حيث تتكشف شخصية يحيى مصطفى على حقيقتها، فهو رجل شرقي يضع المرأة في المرتبة الثانية حتى لو كانت فنانة ومهندسة وابنة فنان شيوعي كبير من طراز دييغو ريفيرا، الذي يقود حركة «أنصار السلام» في العالم مع بيكاسو وسارتر وأراغون، فقد بدأ يشكّ بها، ويعنّفها، ويتهمها بالخيانة مع أقرب أصدقائه، وحين ضربها أكثر من مرة قررت أن تضع حداً لهذه الزيجة غير المتوازنة، وتعود إلى المكسيك حاملة معها جُرحاً لا يندمل. ومما زاد الطين بلّة تبيّن أنها مصابة بمرض السرطان الذي لم يمهلها طويلاً حيث طلبت من شقيقتها أن تضع مفتاح الشقة الذهبي في مظروف وتبعثه إلى السفارة المكسيكية بالقاهرة، ليتسنى لهم إيصاله إلى يحيى مصطفى (يوسف إدريس) الذي أصبح كاتباً مشهوراً، وليس من الصعب إيجاد محل سكنه.
بمقابل هذه القصة المتعالقة مع رواية «البيضاء»، تبرز حكاية الدكتور سامي جميل مع تلميذته سامانثا ذات الأصول المكسيكية المصرية المشتركة التي تقع في حُب أستاذها، وتشاركه عملية البحث المضنية عن زواج يحيى مصطفى من رُوث دييغو ريفيرا، وبما أنّ المواطن الغربي تدويني بطبعه، بعكس المواطن الشرفي الشفهي، فإنها تنبش في الكثير من المصادر الروسية والإسبانية والإنجليزية حتى تتأكد من كل صغيرة وكبيرة تتعلق بهذه الزيجة. ولعلها كانت على وشك التوصل إلى نتائج جامعة مانعة بشأن زواج يحيى من رُوث، لكن المباحث المصرية كانت لها بالمرصاد فهي تشترك بمظاهرات حركة «كفاية»، وتشجع النساء المصريات على الوقوف ضد حكم العسكر، لذلك سارعوا إلى تسفيرها وإعادتها إلى البلد الذي وفدت منه. ومع ذلك فقد ظلت تتواصل مع الدكتور سامي جميل بعد أن تحولت من دراسة الأدب إلى التخصص بتاريخ السياسة في بلدان الشرق الأوسط.
لو وضعنا هاتين القصتين العاطفيتين جانباً، وهما ملح النص الغائب والنص المهجّن، فإن ثيمة الرواية تتمحور على شيئين أساسيين هما الفكر اليساري في مصر والعالم برمته، وحُكم العسكر الذي يقترن غالباً بالأنظمة الديكتاتورية، ففي مصر زجّ الرئيس عبد الناصر بكل القيادات السياسية للحزب الشيوعي المصري في السجون، ويبدو أن يحيى مصطفى أو (يوسف إدريس) كان محظوظاً لأن دييغو ريفيرا قد دعاه هو وخطيبته رُوث لقضاء بعض الوقت في مدينة براغ، ولولا هذه الدعوة الكريمة لكان مصيره لا يختلف كثيراً عن مصير أقرانه الذين تعرّضوا لمختلف أصناف التعذيب، خصوصاً بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال عبد الناصر، حيث تحولت حياة السجناء السياسيين إلى جحيم لا يُطاق. وفي السياق ذاته أشارت سامانثا إلى فزعها من اضطهاد معظم رموز الثقافة العالمية، الذين سمعت عنهم أمثال شابلن وبيكاسو وآرثر ميلر وإيليا كازان وبول روبسون وغيرهم الكثير.
تنطوي الرواية على أسئلة نقدية كثيرة؛ لعل أبرزها ما أثاره الدكتور سعيد شرابي في متن الرواية، حين قال: «إنّ العمل الأدبي يجب أن يُؤخذ كما هو»، بينما يركِّز الدكتور سامي جميل على الظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت به، كما هو الحال في رواية «البيضاء» التي كتبها يوسف إدريس في ظرف حرج للغاية، وكأنه يريد أن يبرّئ ساحته من تهمة الشيوعية، ويعلن توبته أمام الحكومة والملأ الأعظم، فلا غرابة أن يخلص شرابي إلى القول بحدة وانفعال: «اسمع ما قُمتَ به ليس بحثاً ولا نقداً، قد يصلح لرواية أكتبها وخلّصنا من شططك».
إذا كان الزجّ في السجون، والتعذيب، والإعدامات المتفرقة هنا وهناك تهيمن على القاهرة في ذلك الوقت، فإن فيينا كانت تنعم بالسلام النسبي رغم مرور سبع سنوات على الحرب العالمية الثانية ووجود دوريات أمنية لأربع دول كبرى، بينما كانت مدينة مكسيكو بمنأى عن الحروب، لكن المناخ العائلي لعائلة دييغو ريفيرا كان تراجيدياً بمعنى الكلمة، حيث أصيب دييغوا بالسرطان، فيما بُترت ساق زوجته بسبب الغرغرينا، كما توفيت ابنته رُوث عن 47 عاماً بسبب المرض الخبيث ذاته، لتنتهي حياة «الزوجة المكسيكية» التي لعبت دوراً مهماً في الحياة الثقافية للمجتمع المكسيكي. وفيما يتعلق بيحيى مصطفى أو (يوسف إدريس) فقد عقد العزم على ألا يدخل السجن مرة أخرى، بعد أن أيقن بضرورة النضال والمقاومة عبر الكتابة العلنية بعيداً عن الأوكار والأنفاق السريّة.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.