جون بيركو... نجم «بريكست» غير المتوقع

يستيقظ ساسة «ويستمنستر» كل يوم على تعقيد جديد: استقالة سياسية لافتة، توقعات اقتصادية مقلقة، أو هزيمة حكومية فادحة تعزّز جميعها حالة الارتباك المرتبط بتداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). وسط هذه الفوضى والأحداث السياسية المتسارعة، يبحث البريطانيون والأوروبيون، على حد سواء، عن قليل من «النظام» يصدح به بصوت مبحوح نجم غير متوقع في مسلسل «بريكست».
وحده «الخمسيني»، جون بيركو، بربطات عنقه المزركشة، قادر على إحلال النظام في مشهد سياسي استثنائي أدخل بريطانيا في سلسلة أزمات متتالية قد تنتهي باتفاق سيئ أو بـ«سيناريو» اقتصادي كارثي.

لطالما كان رئيس مجلس العموم البريطاني جون بيركو شخصيةً خلافيةً ومثيرةً للجدل، غير أن بيركو اكتسب شهرة على المستويين الأوروبي والدولي خلال الشهور الأخيرة لمواقفه الحاسمة وأسلوبه الفريد في تنظيم نقاشات «بريكست» وملاحظات النواب. وتشارك آلاف رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع لرئيس مجلس العموم وهو يوبّخ وزراء ونواباً، في حين خصصت الصحف الفرنسية والبلجيكية والألمانية مساحات كبيرة لاستعراض مهام بيركو وأسلوبه. فقالت عنه صحيفة هولندية إنه «لا أحد يصيح (نظام) Order (نظام) Order (نظام) Order أجمل من جون بيركو»، بينما اعتبرت أخرى بلجيكية أن بيركو شخص «صعب المراس، ويصعب تحمله أحياناً، لكن لا بديل عنه».
فلماذا يثير الرئيس الـ157 لمجلس العموم البريطاني هذا الكم من الجدل في كل من لندن وبروكسل؟

- رحلة تحوّل سياسي
وُلِد جون بيركو يوم 19 يناير (كانون الثاني) 1963 في ضاحية إيدجوير بأقصى شمال غربي العاصمة البريطانية لندن. وهو ابن سائق سيارة أجرة «تاكسي» يهودي من أصول رومانية. وكان جداه قد هاجرا إلى بريطانيا، وفيها غيّرا اسم العائلة من بيركوفيتز إلى بيركو.
تلقى بيركو تعليمه في مدارس محلية حكومية، وبعدما أنهى المرحلة الثانوية، تلقى تعليمه الجامعي في جامعة إيسكس، وحصل منها على درجة في السياسة الحكومية والإدارة العامة بامتياز.
حزبياً، بدأ بيركو حياته السياسية يافعاً في جناح أقصى يمين حزب المحافظين، وكان عضواً في «نادي الاثنين»Monday Club) )، الذي اتُّهم بالدفاع عن آراء عنصرية وإقصائية تجاه المهاجرين، ما دفع حزب المحافظين إلى قطع صلته به عام 2001.
ولكن بعدها انشقّ بيركو عن النادي اليميني في سن الـ20، ووصف لاحقاً نشاطه في تلك المرحلة وقناعاته السابقة بـ«ضرب من الجنون». ولذكائه وديناميكيته إبان دراسته الجامعية ونشاطه الحزبي، اجتذب بيركو اهتمام القيادة المحافظة، واختير رئيساً لـ«مؤتمر المحافظين الجامعي» للمساعدة في حشد الدعم الطلابي لحزب المحافظين قبل انتخابات عام 1987.

- انتخابه نائباً
عام 1995، شغل جون بيركو منصب مستشار خاص لوزارة الخزانة، وبعد سنتين (1997) دخل مجلس العموم بعد فوزه لأول مرة بمقعد نيابي. وتجدر الإشارة إلى أنه عندما أطلق حملته الانتخابية ليصبح نائباً عن دائرة بكنغهام التي فاز بها في عام 1997، كان قد أخذ يتجه نحو الاعتدال، ويميل نسبياً إلى يسار حزب المحافظين، خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية، مثل المثلية الجنسية. واستمرّ من ثم ابتعاد بيركو التدريجي عن مواقع اليمين حتى توقّع البعض أن ينضمّ إلى حزب العمال... الذي كان بدوره قد أخذ - تحت قيادة توني بلير - يبتعد عن مواقع اليسار المتطرف.
واكتسب بيركو شعبية سريعة، واحتفظ بمقعده النيابي في انتخابات عامي 2001 و2005. وكانت عينة في هذه على منصب رئيس مجلس العموم (العمالي) مايكل مارتن، الذي استقال من منصبه خلال عام 2009، على خلفية اتهامات بسوء استخدام الميزانية المخصصة له. وحقاً، انتخب رئيساً لمجلس العموم، بعدما قدم نفسه بديلاً مناسباً، متعهّداً بتطبيق سلسلة إصلاحات في آليات عمل المجلس. وبعد ذلك حظي بيركو، ليس فقط برضا نواب حزبه، بل باحترام حتى نواب الأحزاب المعارضة، ولذا أعيد انتخابه ثلاث مرات أعوام 2010 و2015 و2017. والتزاماً بالتقاليد البرلمانية البريطانية، تمّ في كل مرة «سحب» النائب المنتخَب لشغل منصب رئيس المجلس سحباً من مقعده إلى كرسيه الجديد، كدليل على تردده في تولّي هذه المسؤولية الكبيرة. لكن، باتريك وينتور، المراسل الدبلوماسي العريق في صحيفة «غارديان»، قال إنه «رغم المظاهر، فإن بيركو كان متحمساً جداً لشغل هذا المنصب الذي لا يزال مستمراً فيه، وإنه خطّط وضغط لسنتين قبل انتخابه الأول لكسب دعم النواب باختلاف انتماءاتهم».

- زوجته... اليسارية!
إلى جانب مسيرة جون بيركو السياسية الحافلة، لعبت زوجته سالي إيلمان بيركو وأم أولاده الثلاثة (ولدان وبنت) دوراً محورياً في تكوين صورته أمام الرأي العام البريطاني، إذ كسرت سالي (49 سنة) الصورة التقليدية النمطية لقرينة رئيس مجلس العموم التي لا تكون عادة شخصية عامة. وأثارت هذه السيدة، التي درست في جامعة أكسفورد العريقة وفيها نشطت أيضاً في تنظيم حزب المحافظين داخل الجامعة، الجدل غير مرة، ولأسباب مختلفة خلال السنوات القليلة الماضية.
ذلك أن سالي تحوّلت سياسياً أكثر من زوجها، وبلغ بها الأمر أنها غدت عضواً في حزب العمال وترشحت عنه في الانتخابات البلدية عام 2010. وأكثر من هذا، تناقل الإعلام اسمها في سياق مشكلات مرتبطة بإدمان الكحول والخيانة الزوجية وقضايا قضائية كانت محورها بعدما كشفت اسم «لورد محافظ» اتُّهم زوراً بقضية تحرّش بقاصر.

- رئيس غاضب
إزاء هذه الخلفية، واجه بيركو، ولا يزال، انتقادات حادّة من زملائه السابقين في حزب المحافظين، الذين يتهمونه بالميل إلى المعارضة العمالية تارة، وبمحاولة «عرقلة بريكست» تارة أخرى. وهي تهم نفاها بيركو باستمرار، مؤكداً التزامه التام بالحياد الذي تنص عليه قواعد المجلس. وللعلم، شهدت فترة حكم رئيس الوزراء المحافظ السابق ديفيد كاميرون أكبر قدر من التوتر بين بيركو وأعضاء حزب المحافظين، إذ إن الرجلين تواجَها تحت قبة البرلمان أكثر من مرة، رغم صداقتهما السابقة على ملعب كرة المضرب، التي يحبها بيركو ويجيدها، وكما يشجع بحماسة نادي آرسنال لكرة القدم.
وأصبحت مقاطع «غضب» بيركو على الوزراء أو «وزراء الظل» العماليين أو حتى النواب الآخرين، مظهراً طبيعياً في الحياة السياسية البريطانية، إذ إن رئيس مجلس العموم لا يتوقّف عند الحد من التجاوزات أو إعادة النظام إلى المجلس، بل إنه «يُبدع» في أساليب التوبيخ التي لم تنجُ منها حتى رئيسة الوزراء تيريزا ماي. ويتداول البريطانيون مقاطع «التوبيخ الساخر» تجسيداً لأعراف الديمقراطية البريطانية، في حين يعتبرها آخرون تعبيراً عن استغلال بيركو لموقعه دعماً لآرائه الشخصية.
في المقابل، ورغم الانتقادات الكثيرة التي يتعرّض لها، فإنه يُحسب لجون بيركو تطبيق عدد من الإصلاحات تعزز الرقابة التشريعية على السلطة التنفيذية، كان أبرزها العمل بما يُعرف بـ«الأسئلة الطارئة»، تُتيح للنواب استدعاء الوزراء خلال مهلة قصيرة لاستجوابهم حول قضية طارئة. كما أن بيركو نقل بعض التقاليد البرلمانية إلى «العصر الـ21» على حد قوله، إذ إنه قطع مع أسلافه، وقرر ارتداء بدلة رسمية تحت عباءته السوداء بدل الزي التقليدي الذي لم يتخلّ عنه الرؤساء السابقون، بل وأعفى بعض موظفي مجلس العموم من ارتداء «الباروكة الرمادية» التقليدية.

- انتقاد دونالد ترمب
على صعيد السياسة الخارجية، لم يتردد بيركو في إحراج حكومة تيريزا ماي، عندما عبّر عن رفضه العلني والقاطع السماح لرئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب مخاطبة البرلمان. وقال، صراحةً، إنه «يعارض بقوة» دعوة ترمب، لإلقاء خطاب أمام مجلسي البرلمان (اللوردات والعموم) خلال الزيارة الرسمية التي قام بها، والتي أُجّلت عدة مرات، إلى بريطانيا.
وبرّر بيركو أمام النواب موقفه من الرئيس الأميركي قائلاً إن «معارضة العنصرية والتمييز الجنسي اعتبارات بالغة الأهمية». وتابع بيركو في فبراير (شباط) 2017: «زاد من معارضتي الحظر الذي فرضه دونالد ترمب على المهاجرين». وجاءت ردود الفعل على موقف بيركو متباينة، فبينما رحَّب عدد كبير من نواب حزب العمال والحزب القومي الاسكوتلندي و«الديمقراطيين الأحرار» المعارضين لزيارة ترمب بهذه التصريحات والمواقف، اعتبر نواب آخرون (جلّهم من حزب المحافظين) أنه تجاوز صلاحياته.

- حادث «المرأة الغبية»
من ناحية ثانية، وجد رئيس مجلس العموم نفسه في خضم عاصفة بين ماي وزعيم المعارضة جيريمي كوربن في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي. إذ التقطت كاميرات منتشرة في مجلس العموم كوربن وهو يتمتم بـ«امرأة غبية» في تعليقه على ماي التي كانت تسخر من محاولته إجراء تصويت لنزع الثقة عنها. وخرجت من مقاعد المحافظين صرخات «العار!» و«فاضح»، في حين ردت ماي قائلة إنه «بعد 100 سنة من حصول النساء على حق التصويت (في بريطانيا)، يتوجّب على الجميع في هذه الغرفة استخدام مفردة ملائمة لدى مخاطبة أحد أعضائها من النساء». إلا أن كوربن نفى تلفظه بهذه العبارة، وقال في جلسة برلمانية بعد الظهر، إن العبارة التي استخدمها هي «أشخاص أغبياء». وأضاف متحدث باسمه للصحافيين: «أوضح أنه لم يقل (امرأة غبية)، وليس لديه الوقت لتجاوزات تعبّر عن كراهية للنساء أياً كانت طبيعتها».
وانهالت الانتقادات على بيركو، الذي رفض معاقبة كوربن، بحجة أنه «لم يرَ شيئاً، ولم يسمع شيئاً». وأضاف أن على كل شخص يرتكب خطأ من هذا النوع، تقديم الاعتذار. وعندها تدخلت الوزيرة المكلفة العلاقات مع البرلمان أندريا ليدسوم، وسألته: لماذا لم يعتذر هو شخصياً عندما سمعه عضو من المعارضة يصفها بأنها «غبية» قبل أشهر، كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية؟! وردّ بيركو الذي غالباً ما يتهمه المحافظون بالانحياز (رغم كونه محافظاً) أن «المسألة قد عولجت، ولن أعود إليها أبداً».

- «بريكست»... قضية الفصل
اتُّهم بيركو مراراً من طرف نواب داعمين بقوة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالميل إلى جانب البقاء، عبر قرارات تنظيمية اعتبرت قاسية تجاه حكومة تيريزا ماي. ليس ذلك فحسب، بل إن بيركو خضع لاستجواب من طرف نائب محافظ حول مُلصق هزلي حول «بريكست» زعم أنه كان في سيارة رئيس مجلس العموم، ما يُعدّ خرقاً لعرف الحياد. ورد بيركو آنذاك برفض تام لهذه المزاعم، مؤكداً أن الملصق موجود فعلاً في سيارة زوجته الخاصة.
ولم ينجح بيركو في إقناع المتحمسين للخروج الذين يرون في قراراته «خيانة» لحيادية منصبه. وعبرت صحيفة «ذي صن» عن حالة الغضب المنتشرة بين هؤلاء، ووصفته قبل أسبوعين بـ«قزم متعرّق»، فيما نقلت الصحف المحلية أن مسؤولين في إدارة ماي غاضبون منه لدرجة القطع مع تقليد مستمر منذ 230 عاماً، تقوم فيه رئاسة الوزراء بترشيح رئيس مجلس العموم لمجلس اللوردات بعد انتهاء فترته.
وما زاد من حدة الاحتقان بين وزراء ماي، قرار بيركو دعم نواب «الصف الثاني» ضد الحكومة عبر مطالبتها بتقديم خطة بديلة لـ«بريكست» في غضون 3 أيام فقط من أسوأ هزيمة تتكبدها حكومة بريطانية في البرلمان منذ نحو قرن.