تأتي مبادرة منظمة الأمم المتحدة لاعتماد عام 2019 عاماً دولياً للغات الشعوب الأصيلة التي مكّنتها قدراتها من ابتكار لغتها الخاصة في زمن، لكن العصر الراهن لم يمكّنها من المحافظة عليها لأسباب كثيرة تتعلق بالعولمة أو الانحسار أو غلبة اللغات الأخرى. وتأتي هذه المبادرة التي أوكلت مهمتها لمنظمة اليونيسكو من أجل التنبيه للحفاظ على لغات السكان الأصليين في بلدان وجودهم، والعمل على المحافظة عليها ورعايتها وتنشيطها. وفي ضوء هذه الدعوة، فإن الأمم المتحدة أوصت الدول والمنظمات والجهات الأكاديمية بضرورة دعم السكان الأصليين في المحافظة على لغاتهم وتشجيع النشاطات التي من شأنها ديمومتها وتعليمها للنشء الجديد، وتوثيق كل ما يتعلق بها وبتراثها.
وفي البلدان العربية، هنالك عدد من لغات الشعوب الأصيلة التي بعضها معرّض لخطر الانقراض. وما يؤسف له حقاً أنه لم يتم التنبه لموضوعها والاهتمام بها على الرغم من الاهتمام الدولي المعروف.
الباحث والكاتب العراقي الدكتور العراقي قيس مغشغش السعدي، الذي نشط في الكثير من الفعاليات الثقافية بهذا الخصوص، قدم مناشدة للجهات المسؤولة في العراق، ومخاطبة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس، بالاهتمام باللغة المندائية، ذات الأصول الآرامية. وهي لغة طائفة الصابئة المندائيين في العراق وجنوب إيران، التي تعد من أبرز اللغات المعرّضة لخطر الانقراض؛ ذلك أن المتحدثين فيها لا يتجاوز عددهم اليوم، حسب قول المؤلف، 100 فرد، كما أن تحدثها داخل الأسرة قد توقف منذ عشرات السنين. وما حافظ على بقائها أنها اللغة التي ما زالت تستخدم في طقوسهم الدينية وتنسخ بها كتبهم الدينية. والاهتمام بها «ليس من أجل المندائيين أنفسهم، بل لأنها لغة العراقيين الأوائل وبعض إرثهم، وقد ظلت تحفظ صيغهم القواعدية وأساليب بناء ولفظ واشتقاقات الكلمات التي لا تزال ميزة العامية العراقية لحد اليوم وستبقى»، كما يذهب السعدي. يقول عن هذه اللغة: «كان تسجيلها في أطلس اليونيسكو للغات المهددة بالانقراض لعام 2006 بسعي مني شخصياً، كما قمت بالكثير من النشاطات مساهمة في الحفاظ على هذه اللغة، تمثلت بوضع أول كتاب تعليمي منهجي لها، ثم وضع قرص تعليمي للنطق والتلفظ، كما قمت بوضع قاموس مندائي - عربي وبالعكس، وقاموس آخر مندائي - إنجليزي وبالعكس، وعملت على تصميم أكثر من حرف طباعي لغرض تسهيل عملية الطبع باستخدام الكومبيوتر، وقمت بإبراز الخط المندائي بأعمال فنية مشابهة لأعمال الخط العربي، وكتبت الكثير من المقالات بخصوصها، مطالباً الجهات الدولية والعراقية للاهتمام بها، كما تابعت مئات المفردات التي ما زالت شائعة في اللسان العراقي وثبّت عائديتها للغة المندائية كفرع نقي من الآرامية الشرقية، وعملت على إصدار كل ذلك بهذا الكتاب الموسوم معجم المفردات المندائية في العامية العراقية».
بعد السومرية التي كان مركز تأسسها وقيام حضارتها في «أور» جنوب العراق، وبعد حضارة «أكد» التي شملت أرض الرافدين وما قام إثرها من حضارات وبخاصة الآشورية في نينوى شمال العراق وبابل في وسط وجنوب العراق، واعتمادهما اللغة الآرامية فيما عرف بالآرامية الشرقية، الشمالية منها لدى الآشوريين والجنوبية لدى البابليين، فإن هاتين اللهجتين هما أساس الألفاظ الشائعة في اللغة العامية المحكية في العراق، إضافة إلى الألفاظ الدخيلة التي جاءت مع المحتلين والمستعمرين.
ولأن بيئة المندائيين المعهودة هي الجنوب العراقي، ولسعة انتشارهم في العصور الغابرة ودرجة تأثيرهم في المنطقة، فقد سادت اللغة التي يتكلمونها، وصارت لغة المجتمع خاصة أنها تتأسس على سومرية حضارة العراق. وإذ انحسر كيان المندائيين فقد ظلت لغتهم الآرامية الشرقية لصق اللسان الحاكي. ومع تنبيه الأكاديميين، وبخاصة المستشرقون، إلى أهمية اللغة المندائية في هذا الخصوص، إلا أن الأمر ظل من وجهة نظر الجميع على أنه تشابه وتقارب في بعض الألفاظ. لذا؛ حينما دخلت اللغة العربية إلى البلدان التي كانت لغتها الأساس اللغة الآرامية، ورغم أن العامة صاروا يقرأون القرآن بلغته ويتناقلون الأحاديث النبوية بلغتها، لكنهم ظلوا يتخاطبون باللغة الأقرب إلى فهم العامة.
يقول الدكتور السعدي: «... (أكو، ماكو) صارت سمة اللهجة العراقية، والثابت قاموسياً أن مرجعية هاتين المفردتين من اللغة المندائية، لغة العراقيين القدماء التي ظل الصابئة المندائيون محافظين عليها وإلى اليوم، وهكذا. في حين سيقرأ القارئ مئات المفردات التي تم تثبيت طريقة ورودها في العامية العراقية ومن ثم لفظها بالمندائية ومعناها العربي والإنجليزي وشرح عائديتها وكيفية ورودها أصلاً في الاستخدام مع الأمثلة بشكل أكاديمي. وإن جاء ورود المفردات في الأمثال والأشعار والأغاني القديمة قمت بذكر ذلك تعزيزاً وبما يجعل مادة الكتاب مشوقة من هذه الناحية أيضاً».
ويؤكد الكاتب، أن اللغة المندائية باعتبارها الفرع النقي للغة الآرامية الشرقية، هي شهادة في المعنى وشهادة في الوجود، يتداولها اللسان العراقي عامة وعدد من شعوب الدول العربية المجاورة، التي ترد في اللغة العربية ولا تتأسس عليها، كما أنها من بقايا لغات سكان وادي الرافدين قبل أن تعتمد وتشيع اللغة العربية على لسانهم، بعد الفتح العربي، وبعضها سومري وآخر أكدي آرامي، طمس التعرف على أصولها واستخداماتها السابقة، وصار من يحاول معرفة مرجع هذه الكلمات كباحث الآثار الذي يبحث وينقب.
يقول المؤلف: «وفي كل ذلك وجدت نفسي كمنقب الآثار الذي يبحث عن اللقى الثمينة المدفونة بين المفردات التي علاها غبار الزمن فمُسحت بعض أحرفها ودُمج الآخر وربما طـُمست إلا من حرف أو نغمة. ولا شك أن مثل هذا العمل تكتنفه صعوبات جمة، ذلك أن الباحث فيه ليس أمام تدوين لمفردات اللغة العامية المحكية ومن ثم البحث في أصول هذه المفردات وألفاظها بحسب ما متوافر من تلك الكلمات أبجديا، بل هو إزاء الذي ما زال محكياً في اللغة العامية وذا مرجعية في اللغة المندائية كوريث للآرامية الشرقية. فالأمر يتطلب المتابعة لما بين اللغة المندائية واللغة العامية من مفردات وألفاظ ومعانٍ والعكس. وهذا ما لم يتم تناوله سابقاً».
ويأتي كتاب «معجم المفردات المندائية في العامية العراقية» الذي تبّنت إصداره مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية ودار الرافدين للطباعة والنشر توافقا مع قرار الأمم المتحدة ليكون أول إصدار بهذه المناسبة.
«يونيسكو» تعتمد 2019 عاماً دولياً للغات الشعوب الأصلية
أول مبادرة عربية أطلقها باحث عراقي
«يونيسكو» تعتمد 2019 عاماً دولياً للغات الشعوب الأصلية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة